الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خيط مشدود بعناية نحو الشعر

خيط مشدود بعناية نحو الشعر
11 يوليو 2013 00:24
يقبض الشاعر عبدالرحمن الشهري من السعودية على لحظات خاطفة قد لاينتبه لها الكثيرون، ليس لأنه يرغب في تحويلها إلى مادة شعرية فقط بل لأنها شديدة الصلة بذاكرته ومحيطه المليء في ديوانه بلغة الرحيل والغياب والفقد والموت كذلك. ومنذ صفحاته الأولى حيث الإهداء عنوان واسع لهذه الخريطة، هل الشعر هو أن نكتب مفقوداتنا؟ هكذا يبدو جليا مع المجموعة الشعرية: «لسبب لايعرفه» ـ التي صدرت قبل أيام عن دار الانتشار العربي ـ وهكذا ستتأكد طيلة هذه المجموعة الصغيرة التي اتخذت من أدوات السرد غالبا طريقتها في كتابة قصيدة نثرية، حيث الشاعر يمسك بخيط رفيع ومشدود وفي مساحة محددة لا يحيد عنها. لذا فهو يقتصد ويرمي بالحواشي والزوائد خارج نصه، بل وينزاح نحو تجريد القصيدة من مرجعياتها المستقرة في الذهن إلى نص يطمح الشاعر فيه أن يترك بصمة تعنيه وحده، فبلا ذاكرة شعرية تنكتب النصوص وبلا جماليات سائدة أو دهشة مفضوحة أو مقاربات تتماس مع البلاغي يعثر الشاعر على قصيدته ليقول شيئا صغيرا وصغيرا جدا. وبغض النظر عن لغة الفقد تلك ولغة الغياب والرحيل وفضاءات الحزن، تأخذنا نصوص الشهري إلى عالم يمكن حصره واكتشافه ولسبب لانعرفه أيضا يبدأ بمرض القولون وبماهو شديد القرب منه، الجسد، الأرق، المساءات والصباحات، والشعر الأبيض والمقهى وحتى شكل مشيته ليست تلك الفيزيائية بالضرورة بل مشيته نحو البحث على أسئلة وأسباب ما هو كائن مما لا يعرفه، وأيضا ما يختفي خلف القصائد من قراءة ناقدة لمجتمعات مليئة بظواهر اجتماعية وعادات وتقاليد تصنع المزيد من القيود ومن الوهم. الشهري يحول الشعر إلى سيرة ذاتيه للروح على حد تعبير يمنى العيد، وإلى اشتغال خاص على مادة الحياة الخام ، يعي أن الشعر منطقة خاصة جدا لذا دخل معمله بقفاز جديد بمنأى من طرائق الآخرين، حيث المجازفة والخصوصية والذاتية هي ما تبقى للشعر في عالم يسلب من الشعر كل شيء حتى ما يعول عليه في جماليات الصورة والقضايا الكبرى واللغة، وحيث الشعر مثل بطاقة شخصية تنم عن الشاعر وتجربته حياتيا لذا ينفذ الشهري بجلد القصيدة من غابة المعتاد ويعطي نصه الثقة كلها تلك التي تكتب القصيدة كعمل فني خاص قد لا يكرره حتى الشاعر نفسه في أعمال أخرى، وهو بالطبع فعل ذلك قبل هذه المجموعة في ديوان سابق له تحت عنوان «أسمر كرغيف»، حيث المراهنة على الخروج نحو فضاء جديد رهان جميل يبدو مغرما به في كل مرة. هذا ما لا يفصح عنه في «لسبب لا يعرفه» ربما لأن بيانه الشعري سبق وأن كتبه ذات ديوانه السابق (أسمر كرغيف)، لكنه مع فكرة الخلاص حتى مع أشياء حياته القريبة منه وها هو يقول: «الليل بطوله/ لا يكفيه للنفخ في رماد قصيدة/ انطفأت في رأسه... سيكتب شيئًا على الورقة/ ودمه يسيل على حوافها» وفي نص آخر: «فيما بعد/ صار يحلو له التشبه بجده الذي/ كان يجلس تحت شجرة عتيقة بجوار البيت». وكذلك يبدو جليا نص «دور» حيث الخطوة الإضافية هاجس الشاعر حتى في الحياة الذي يقول فيه: «أسباب كثيرة دفعته إلى تقمص دور الأب كل صباح.. ماتت حمامة فتقمص الدور جيدا: تصدق على أحد الفقراء وهو في طريقه إلى المقبرة ثم كفنها بمنديله الأبيض مازجا بين دموعه الساخنة وبين التراب الذي أهاله على الحمامة المغدوره وليكون أكثر مثالية من أبيه صفح عن القطة التي أصابته في مقتل». هذا وغيرها من النصوص اللافتة في المجموعة مثل: ندبة وطفولة وسحابة الذي يقول فيه فيما يشبه النوستالجيا الكثيرة في المجموعة: «منذ زمن بعيد، سأله المعلم عن جده فخيل إليه أن اللحية البيضاء سحابة تمطر على الصغار، وان هناك من يعصر السحابة حتى تجف، ولسوء الحظ لم يتمكن من عصرها كغيره من الأطفال، ولا من النظر إليها وهي تتدلى بيضاء كالثلج، لأن جده مع كل أسف أخذ لحيته معه إلى القبر». وحنين مماثل في نصوص: أفكار وتمرين وذكرى وغيرها، يقول في نص «تمرين»: «كبر في السن ولم يسأل جدته عن الجنيات التي كانت تحكي له عنها لأنه كان يشعر بوجودها كلما أظلم الليل وكلما تحركت أغصان شجرة بلاسبب ولا ينكر وهو يستعيدها الآن... أنها كانت تمرينا رائعا على حياة تموت بعد العشاء بقليل». نصوص عبدالرحمن الشهري الشعرية قصيرة لأن النص ينتهي هناك وليس لأنه مكثف أو وامض، محملا بكل مايريد قوله. وهي بالتالي ليست بخيلة تماما كما يعبر أحد النقاد عن النصوص القصيرة بل لأن النص انتهى في لحظة بات على القارئ أن يشرع في التأمل وفي اقتناص جوهر وكنه النص وفكرته، وهذا الخيط المشدود بحذر ليفصل بين القصة القصيرة جدا والقصيدة ظل مرنا ومنحازا للواقعي والذاتي وظل مجازفة تحسب للتجربة على الأقل في زعزعة مهابة الشعراء من إشكاليات التصنيف التي طال الجدل حولها بلا فائدة ولا جدوى ولا طائل، لم يكن هذا هاجس الشاعر وقت كتابة النص حتما فهو مشغول في الخطوة التالية وماذا بوسع الشعر أن يكتب عنّا وعن ذواتنا وأفكارنا بعيدا عن التذكير بشاعريته في كل مرة إذن لينطلق الشاعر في تجربته مع وفي الحياة بوسيلته الأقرب الشعر.. ومن ثم تأتي حسابات الاختلاف والتنقيب عن المناطق الجديدة والتي قد تحتاج إلى نوع من المغامرة والجرأة برؤية عميقة ووعي. هذه القراءة في مجموعة «لسبب لايعرفه» تريد أن تمسك مع الشهري بنفس الخيط المشدود بعناية نحو القصيدة الذي لو أفلته لحظة ولو في حرف عطف عابر قد تخسر القصيدة رهانها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©