الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مادح البسطاء والعظماء

مادح البسطاء والعظماء
11 يوليو 2013 00:22
من الأسماء التي شدّتني إليها في الحقبة الأندلسية اسم أبوبكر بن عمار، ولم يكن شعره وحده هو الذي لفت انتباهي، بل كانت قصة حياته وصداقته للمعتد بن عبّاد والتي انتهت نهاية مأساوية قاسية. ولد أبو بكر بن عمار في عام 422 هجرية (1031 ميلادية) وكانت ولايته في مدينة تدعى شلب تقع جنوب الأندلس، وهو من أسرة فقيرة الحال ادعت في ذلك الوقت أنها هاجرت إلى الأندلس من اليمن. ومنذ طفولته برز ابن عمار في الشعر، فكان بارعاً في نظم القصائد، يمدح بها حتى البسطاء من الناس مقابل عطايا ومنح بسيطة.. إلى درجة أنه قام في أحد الأيام بمدح فلاح بسيط قام بملء مخلاة ابن عمر بالشعير طعاماً لحماره الهزيل الذي كان وسيلته للانتقال من مكان إلى آخر. ولكن هذا الشاعر الفقير يصل فيما بعد إلى أعلى المراتب ويتولى منصب وزير لدى المعتمد بن عباد ويلقب بذي الوزارتين، ولا ينسى ذلك الفلاح الذي ملأ مخلاته بالشعير، فيرد له المخلاة نفسها مليئة بالدراهم قائلاً: لو ملأها لنا بالبر لملأناها له بالتبر. وتبدأ حكاية ابن عمار مع المجد في مدينة شلب والتي وضع فيها المعتضد بن عباد ولده المعتمد والياً عليها، حيث كان المعتمد ولياً لعهد أبيه، وقد أراده أن يتدرب على تسيير شؤون الدولة ليتسنى له حكم مملكة إشبيلية بعده. كان المعتضد والد المعتمد شاعراً من شعراء الأندلس وكذلك كان ولده المعتمد. لم يكن عمر المعتمد بن عباد يزيد على العشرين عاماً عندما قام والده مصحوباً بأركان الدولة من وزراء ومرافقين بزيارته في مدينة شلب التي نصّبه والياً عليها. وعلم ابن عمار نبأ هذه الزيارة، وكان يعلم بطبيعة الحال أن المعتضد شاعر فحل وأنه يحب الشعراء المبدعين فركب حماره الهزيل، ولبس أفضل ما لديه من ملابس، ولم يكن أفضل ما لديه إلا ثياباً رثة مهترئة تشير إلى درجة الفقر التي وصل إليها.. وتوجه إلى قصر المعتمد بن عباد. كان للقصر حديقة غنّاء واسعة، يسيل فيها الماء، وتتفتح الزهور والورود، وتغني فيها الطيور فوق أغصان الأشجار المثمرة في تلك الحديقة. دخل الشاعر الفقير ابن عمار إلى الحديقة حيث كان المعتضد في صدر المجلس، وإلى جانبه ولده المعتمد. ولم يكن ابن عمار مدعواً، ولم يتوقع أحد أن يدخل إلى ذلك الاجتماع المهيب شخص مثله.. ولكنه كان جريئاً إلى درجة الوقاحة.. حيث وقف أمام المعتضد وبدأ بإلقاء قصيدة نظّمها خصيصاً لمدحه: أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى والصبح قد صرف العنان عن السرى والصبح قد أهدى لنا كافوره لما استرد الليلُ منا العنبرا والروض كالحسنا كساه زهره وشياً وقلّده نداه الجوهرا بعد هذه الأبيات الثلاثة التفت المعتضد إلى ولده المعتمد قائلاً: أهذا شاعرك يا محمد؟ قال المعتمد: ما رأيته قبل اليوم يا أبتي. ? وكيف يقتحم حديقة قصرك مَن لم تدعُ ومَن لا تعرف، كيف يحدث ذلك وأنا والأمراء ضيوف عندك؟ ?? إنه شاعر جريء.. واثق بنفسه.. ألم تسمع شعره يا أبي، إنه رغم كل شيء ورغم حضوره بدون دعوة ولا استئذان، إنه شاعر حقيقي يا أبي. وهنا يتوجه المعتضد إلى الشاعر ابن عمار قائلاً: من أين أنت أيها الشاعر؟ يجيب ابن عمار: أنا أبو بكر بن عمار من هذه المدينة.. من شلب. ? أكمل قصيدتك يا ابن عمار.. وهنا يشعر ابن عمار بالارتياح ويلقي قصيدته مسيطراً سيطرة تامة على صوته ومخارج الحروف، فيصول ويجول مازجاً بين وصف الطبيعة ومدح المعتضد بن عباد: روضٌ كأن النهر فيه معصمٌ صافٍ أطلَّ على رداءٍ أخضرا وتهزه ريح الصبا فتحاله سيف ابن عبّادٍ يبزز عسكرا ومع كل بيت من أبيات هذه القصيدة كان المعتضد ينفعل ويلقي كلمات الإعجاب والتقدير. وما كاد ابن عمار ينتهي من إلقاء قصيدته حتى قال المعتضد لولده: ? يكاد هذا الشاعر أن يتفوق عليك أيها الأمير محمد.. ?? بل إنه تفوق حقاً عليَّ يا أبي. وهنا تبرز قدرة وكفاءة ابن عمار في السياسة، فهو لم يكن يقبل بوضع نفسه منافساً للأمير الذي سيصبح بعد زمن قد لا يكون طويلاً ملكاً لاشبيلية كلها.. فيقول: وأين شعري من شعرك العظيم يا سيدي الأمير.. يسر المعتمد بن عباد بما قاله ابن عمار فيتوجه إلى أبيه قائلاً: لِمَ لا تجعل ابن عمار من شعرائك يا أبي. فيرد الأب: ولِمَ لا تجعله من شعرائك أنت؟ أم تُرى تخشى المنافسة.. ويسود الصمت قليلاً ليقول المعتضد: أجزه بألف دينار وأحضر له كسوة تليق بمجلسك. وهكذا كانت البداية.. ابن عمار في السابعة والعشرين من عمره والمعتمد بن عباد في العشرين. توثقت عرى الصداقة بين الشاعرين، ولزم ابن عمار مجلس المعتمد.. وطاف معه وجال في ربوع المدينة وما كان يفارقه إلا ساعة يخلد كل منهما إلى سريره. وصداقة شاعرين شابين كالمعتمد وابن عمار، أحدهما أمير والآخر مثال حي متحرك للفقر المدقع، لابد أن تثير الانتباه وتصنع الحسد، لتبدأ الهمهمات بأن ابن عمار أفسد الأمير باللهو وقرض الشعر ومتابعة الحِسان خفية، وكأنه واحد من شباب مدينة شلب لا أميرها.. وهذا لا يتفق مع الهدف الذي حدده المعتضد من وراء إعطاء حكم مدينة شلب له للتدرب على إدارة المملكة. بل إنه في ذات يوم يتنكر المعتمد بن عباد بثياب تاجر ويخرج إلى شاطئ البحر، حيث كانت الفتيات الحسناوات وتروق إحداهن للأمير فيتابعها إلى كوخها بعد أن أغرته بضحكاتها وغمزاتها، فما يكاد يصل إلى ذلك الكوخ حتى ينهال عليه أخوتها بالضرب المبرح غير عابئين بصراخ ابن عمار: ـ ويْحَكُم ماذا تفعلون.. إنه الأمير.. ويسمع المعتضد بسيرة ولده وما يقوم به في تلك المدينة برفقة ابن عمار.. فيطلبهما إلى اشبيلية وهناك يفرض على ابن عمار أن يفارق ولده.. وعلى ولده بملازمته في القصر والمجلس. ولكن قوة الصداقة جعلت أمر المعتضد لا ينفذ، إذ يلتقي الصديقان سراً، وعند ذلك يقوم المعتضد بنفي ابن عمار إلى شلب ويفرض عليه عدم مغادرتها، فينظم ابن عمار قصيدة يقول فيها: سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر ماذا يعيد عليك البت والحذرُ وازجر جفونك لا ترضى البكاء لها واصبر فقد كنت عند الخطب تصطبرُ وإن يكن قدر قد عاق عن وطرٍ فلا مردَّ لما يأتي به القدرُ فيرد المعتمد بن عباد: ألا حيَّ أوطاني بمثلب أبي بكر وسَلْهُنَّ هل عهدُ الوصالِ كما أدري وسلم على قصر الشراجيب من فتى له أبداً شوق إلى ذلك القصيرِ وتنتهي قصة الفراق بين الصديقين بوفاة المعتضد وتسلم ولده المعتمد لعرش مملكة إشبيلية، وأول ما يفعله المعتمد هو دعوة صديقه ابن عمار إلى إشبيلية. كان لقاء الصديقين هذه المرة مختلفاً، وقد خبأ ابن عمار مواهبه السياسية حتى هذه اللحظة.. فهو يدرك تماماً أن المعتمد لم يعد ذلك الفتى المحتاج إلى اللهو والتسلية بعد أن أصبح ملكاً يتحمل تبعات المملكة ويقوم بأعباء الحكم.. ولذلك عليه أن يبادر لما خطط له في البداية.. وفي اللقاء الذي جمع بينهما في إشبيلية حرص ابن عمار على ألا يكون ذلك الصديق الذي لا همّ له إلا اللهو ومجالس الشراب. ? ما بك يا ابن عمار.. لكأني بك مللت من البقاء معي.. وتريد المغادرة إلى شلب.. ألست صديقي ورفيقي وشريك مسيرتي؟ ?? يا مولاي.. أنت الآن غير ما كنت عليه في شلب.. أنت الآن ملك.. تحمل على عاتقك مسؤولية لا تحتمل اللعب واللهو.. ? وأنت لا تصلح إلا للعب واللهو؟ ?? أنا في خدمة مولاي وأنت أدرى بكفاءتي وقدرتي على هذه الخدمة. ? إذن ليكن.. أنت من الآن وزيري يا ابن عمار. ?? وأنا تحت أمر مولاي. أصبح ابن عمار وزير المعتمد.. بل إنه بالثقة التي حازها منه أصبح يتصرف بشؤون المملكة وكأنه هو الملك. ولأن القصة ما زالت في بدايتها فإنني أجد ضرورة لإعطائها حقها وإكمالها في حلقة أخرى لنعرف كيف وصلت هذه العلاقة إلى النهاية المأساوية التي ذكرناها في البداية. وأختار من شعر ابن عمار هذه القصيدة التي أدخلته إلى عالم الشهرة وجعلت المعتضد بن عبّاد والد المعتمد يعجب به ويقترح على ولده مكافأته مادياً ومعنوياً وبسببها أيضاً توقفت عرى الصداقة بينه وبين المعتمد نفسه. تقول القصيدة: أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى والنجم قد صرف العنان عن السرى والصبحُ قد أهدى لنا كافوره لما استرد الليل منا العنبرا والروض كالحسنا كساه زهرُهُ وشياً وقلّده نداه جوهرا روضٌ كأن النهر فيه معصمٌ صافٍ أطلّ على رداءٍ أخضرا وتهزه ريح الصبا فتخاله سيف ابن عبّاد يبدّد عسكرا ملك إذا ازدحم الملوك بموردٍ ونحاه لا يردون حتى يصدرا أندى على الأكباد من قطر الندى وألذ في الأجفان من سنة الكرى قداح زند المجد لا ينفك منه نار الوغى إلا إلى نار القِرى أيقنت أني في ذراه بجنّة لما سقاني من نداه الكوثرا وعلمت حقاً أن روضي مخصبٌ لما سألت به الغمام الممطرا يا سائلي ما حمص إلا حاتمٌ أبصرت إسماعيل فيه خنصرا من لا توازنه الجبال إذا احتبى من لا تسابقه الرياح إذا جرى لاشيء أقرأ من شفار حسامه إن كنت شبهت الكتائب أسطرا ملك يروقك خلفه أو خلقه كالروض يحسن منظراً أو مخبرا وجهلت معنى الجود حتى زرته فقرأنه في راحتيه مُفسَّرا فاح الثرى متعطراً بثنائه حتى حسيناً كل تربٍ عنبرا وتتوجت بالزهر صلح هضابه حتى حسبنا كل هضبٍ قيصرا يا أيها الملك الذي أصل المنى منه بوجهٍ مثل حمدي أزهرا السيف أفصح من زيادٍ خطبةً في الحرب إن كانت يمينك منبرا ما زلت تغني من غدا لك راجياً نيلاً وتغني من طغى وتجبّرا ولئن وجدت نسيم حمدي عاطراً فلقد وجدت نسيم برك أعطرا المراجع: ـ أخبار وتراجم أندلسية/ الدكتور إحسان عباس ـ مقالات/ الدكتور محمد عبدالله سيدي محمد ـ ديوان بن عمار/ جمع وتحقيق الدكتور صالح خالص
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©