الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البلاد الناهضة من الغرق

البلاد الناهضة من الغرق
11 يوليو 2013 00:06
يمتلك عبدالمجيد حسن خليل درجة من التواضع تجعله يخاطب القارئ بعد أن ينتهي من كتابه قائلا «استميحك عذرا أنني غير محترف الكتابة فهي ليست مهنتي إنما تنتابني أحيانا رغبة مشحونة للتعبير عن قضية ما.. ولم أقصد كتابة تاريخ فلست مؤهلا لذلك ولا لتحليل اجتماعي لا أملك أدواته واعذرني أن كانت هناك ركاكة أو فجاجة في اللفظ أو الأسلوب». الكتاب هو «النوبة.. الإنسان والتاريخ» يحكي قصة النوبة وأهلها، وقد اندفع الكاتب لإعداد هذا الكتاب من منطلق أنه نوبي الأصل، واتيح له أن يحضر لقاء بين الناقد رجاء النقاش والروائي السوداني الطيب صالح وكانا صديقين، وفوجئ بأن رجاء النقاش يسأله عن نوبيته وراح النقاش والطيب يتناقشان حول النوبة، مناطقها وأهلها وسكانها، كثير من التفاصيل كان المؤلف يسمعها لأول مرة، فراح يسأل ويبحث فكان هذا الكتاب الممتع الذي يتناول النوبة القديمة ثم الجديدة. نظرة تاريخية في النوبة القديمة يعبر بنا الكاتب من التاريخ القديم، تاريخ الأسر الفرعونية، حيث وصل بعض حكام مصر إلى أقصى حدود النوبة، داخل السودان ثم جاء العصر الروماني وحاول الامبراطور «ثيودوسيوس الاول» فرض المسيحية على سكان مصر، شمالا وجنوبا وصولا إلى حدود النوبة، حيث اصدر أمرا بتحريم الديانات الوثنية وإغلاق معابدها، فرفض أهالي النوبة ذلك الأمر، فأرسل اليهم جيشا جرارا هزمهم، مما جعلهم يستسلمون ويطلبون الأمان، ففرض عليهم شروطا قاسية، وبحلول القرن السادس الميلادي انتشرت المسيحية بين أهالي النوبة، واعتنق ملك النوبة «سيلكو» المسيحية علي يد الروماني جوليان، وبدأت حضارة النوبة المسيحية، حيث توحدت الممالك النوبية، مما أعطاها قوة اقتصادية وسياسية، فقصدها عدد من تجار العرب ومن اليمن تحديدا، وامتدت العلاقات العربية ـ النوبية، عبر البحر الأحمر ويتحدث ابن خلدون في تاريخه باستفاضة عن تلك الفترة، ويوجد بالمتحف المصري ـ الآن ـ تابوت لتاجر يمني استقر بالنوبة وعاش ومات ودفن بها. ولما دخل الإسلام مصر قامت علاقات طيبة بين الحكم الإسلامي وبلاد النوبة، وازدادت الهجرات العربية إلى النوبة منذ عهد عبدالعزيز بن مروان، الوالي الأموي على مصر وتوسعت في العصر العباسي ويختلف المؤرخون في تاريخ دخول أهالي النوبة في الاسلام، لكنه كان دخولا طوعيا تماما بعد الاحتكاك بين النوبيين والعرب الذين هاجروا إلى هناك والتجار العرب الذين تبادلوا معهم التجارة. وظهر مصطلح النوبة الجديدة مع مطلع القرن العشرين، تحديدا في عام 1902، حين اقيم خزان أسوان لاحتجاز مياه النيل وإصلاح نظام الري، كان ذلك يعني أن تغرق وتغمر بعض القرى النوبية بالمياه، وكان لابد من تهجيرهم وتدبير مساكن وأراض جديدة لهم مع تعويضهم عن بيوتهم وأراضيهم، وفي عام 1913 بدأت التعلية الأولى لخزان أسوان وكان معنى ذلك مزيد من النزوح وفقدان مزيدا من الأراضي وتكرر المشهد في عام 1933 مع التعلية الثانية لخزان أسوان وصدر القانون رقم 6 لسنة 33 الذي ينص على نزع الملكية للأراضي ودفع التعويض المناسب، وحق الأهالي في التظلم من التعويض أمام قاض، ورأى الاهالي أن التعويض مجحف ولذا اتخذت الحكومة عام 1951 قرارا بتخصيص 8 آلاف فدان خارج الزمام في مركز إسنا بمحافظة قنا لتعويض أهالي قرى توماس وعافية، وبالفعل استقروا بها حتى اليوم. سياسة وإبداع وتكررت الأزمة في عام 1963 حين شرعت مصر في بناء السد العالي، وكان معناه تهجير عدد كبير من أهالي النوبة وإفراغ قراها، وذهب المسؤولون الكبار إلى الأهالي، فلم يسمعوا منهم حديثا علميا ولا خطة محددة لتعويضهم.. سمعوا - فقط - حديثا من نوعية «عشان خاطرنا» وخاطبهم الرئيس عبدالناصر في خطاب عام واستجابوا لكن حين هجروا، وجدوا القرى الجديدة بنيت بطريقة ليس فيها مراعاة لثقافة أبناء النوبة وما اعتادوه، فتحملوا وقبلوا التضحية، لكن مشاكلهم أخذت تتفاقم وتزداد، حتى حدثت أزمة عام 2010، حين أخذت المؤسسات الدولية، الأميركية تحديدا، تثير هذه الأزمة ودعت إليها بعض أبناء النوبة مثل الروائي حجاج أدول. ويتوقف الكاتب أمام ما أثير عن دعوات نوبية للانفصال، وان القصد بإثارة أزمتهم ومشاكلهم الضغط والتهديد بالمؤسسات الدولية، وهذا ما ينفيه تماما، مؤكدا أن النوبيين مصريون، وبعض ملوك النوبة حكموا مصر كلها في الزمن القديم، ويعتزون بأنهم أحفاد الملكة حتشبسوت والملكة نفرتاري. وتؤكد بعض الآثار المصرية القديمة المكتشفة وبعض المعابد ذلك وان استقرار الكثير من النوبيين في القاهرة وفي الإسكندرية واندماجهم في الحياة العامة يؤكد ذلك أيضا، ويتوقف أمام عدد من الروائيين والمبدعين النوبيين مثل الراحل ادريس علي وحجاج أدول ويحيى مختار وخليل كلفت وقبلهم جميعا صاحب رواية «الشمندورة» محمد خليل قاسم، واصبح إنتاجهم جزءا عزيزا من الادب المصري والعربي الحديث، ونال معظمهم جوائز الدولة. وقد استشهد الكاتب بالكتاب فقط، لكنه نسي دور أبناء النوبة في مختلف الفنون، ويكفي ان نذكر اسم محمد منير في فن الغناء والراحل حامد العويضي في فن الخط العربي، الذي لو امتد به العمر لأثرى هذا الفن وهناك عدد كبير من أبناء النوبة في مختلف الفنون. ويبدي الكاتب ملاحظة مهمة وهي ارتفاع نسبة التعليم بين النوبيين، بنسبة تفوق جميع أنحاء مصر، إذ لا يوجد نوبي إلا وقد نال قسطا من التعليم النظامي، ولا توجد سيدة نوبية ممن بلغن الستين إلا وتحمل شهادة تعليمية، متوسطة أو عالية، لأنهم يحرصون على التعليم ويتمسكون به الأمر الذي تعتبره الكاتبة فريدة النقاش في تقديمها للكتاب، دليلا على أن هجرة أبناء النوبة من قراهم لم تكن شرا كلها ولا كانت سلبية تماما، فقد حفزتهم على التعليم ونجحوا في قراهم الجديدة في أن يتماسكوا ويتحقق لم الشمل إلى حد ما، لكن لا يعني هذا كله أن النوبيين بلا مشاكل، والحق أنه لا يوجد مصري، اليوم، بلا مشكلة، على مستوى أهالي النوبة يوجد حتى الآن خمسة آلاف نوبي، مغترب، بلا بيوت، ولم يتم تعويضهم حتى اليوم، وهي مشكلة يجب الوصول فيها الى حل، بتوفير مساكن بديلة وأماكن إعاشة، كما لا يجوز تجاهل النوبة وتاريخها في مناهج التاريخ بالمدارس وفي وسائل الإعلام الرسمية كانت الإذاعة المصرية تخصص برنامجا بعنوان «من وحي النوبة» سنوات الستينيات ثم توقف ولم يظهر أي برنامج بديل أو مشابه له. ويدين الكاتب أي حديث عن انفصال النوبة ويعتبره حديثا مشبوها وهو يرى أن مشاكل أبناء النوبة جزء من مشاكل مصر كلها وتحل في الإطار المصري أولا وأخيرا. الكتاب: النوبة.. الإنسان والتاريخ المؤلف: عبدالمجيد خليل تقديم: فريدة النقاش الناشر: مكتبة مدبولي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©