السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كأس الخيانة

كأس الخيانة
20 يناير 2012
(القاهرة) - استنكر الجميع تصرفه فلم يقبلوا ما فعله مع صديقه المقرب الذي كان يقضي معه معظم أوقاته، فهم رغم أنهم شرذمة تروج السموم وتحقق الثراء على حساب صحة الشباب من خلال تدميرهم بالمخدرات من كل الأصناف، فإن لهم قواعد يجب الالتزام بها تبدو في ظاهرها من القيم والأخلاق، لكن أمثالهم لا أخلاق لهم ولا مانع عندهم من الخيانة والطعن في الظهر وارتكاب أي فعل من أجل المصلحة والحصول على المال، لكن ما فعله «منصور» كان غير معتاد ولم يحدث بينهم من قبل فقد استطاع أن يغري زوجة صديقه ويحرضها ضده حتى جعلها تتحول إلى معين يفيض بالنكد وحصلت على الطلاق وبمجرد انتهاء عدتها الشرعية تزوجها وتفاخر أمام من حوله بأنه حقق إنجازاً كأنه انتصر في معركة حربية وقضى على عدوه ولم يهتم بما قاله له أهل المستنقع الذين يجاورونه. كان «منصور» يعبث في شاربه الكث الطويل متباهياً برجولته، خاصة إذا سمع كلمات الإطراء من زوجته أو إذا كانت تستجيب لمطالبه وأوامره يحاول أن يقنع نفسه بأنه غير عابئ بما يدور حوله أو يقال عنه، لكنه في داخله يعترف بالندالة والخسة وسرعان ما يعود وتأخذه العزة بالإثم ليعتبر فعلته من باب الرجولة والبطولة ولا يتورع عن أن يحكي قصته للغرباء الذين لا يعرفونها وهي من جانبها لا تخجل من ذلك أبداً فهذا عندها حرية شخصية ومن حقها أن تتزوج الرجل الذي تحبه وتريده ولا ترى فيما فعلت أي خروج على العرف أو العادات والتقاليد. أصبح «منصور» وزوجته محط الأنظار لغرابة ما اقترفت أيديهما ولأنها لا تفارقه وترافقه مثل ظله أينما حل أو ارتحل فهي ذراعه اليمنى في تجارة المخدرات التي يحترفها منذ صباه فقد عرف هذا الطريق بعد أن كان واحداً من أطفال الشوارع ينام مشرداً على الأرصفة يلتحف السماء ويتسول المارة هذا يعطيه وكثيرون ينهرونه إلى أن عرف سبيل التجارة المحرمة وبدأها ناقلاً «للبضاعة» بين التجار والزبائن ثم ترقى لنقلها بين التجار وبعضهم، لكنه بعد فترة قرر إعلان الاستقلال وأصبح «معلماً» يعمل لحساب نفسه وعرف طريق الأموال الكثيرة بعد أن كان يستجدي ثمن الخبز الجاف إلا أنها بلا بركة فرغم أنه ربما يحصل على آلاف الجنيهات في لحظة فإنها لا تبقى بين يديه وقد لا تبيت في بيته فمرت سنوات طوال لم تظهر عليه آثارها وما زال كما كان على سيرته الأولى. لم يستطع إلا أن يشتري قطعة أرض صغيرة في منطقة ريفية بنى عليها بيتا من طابق واحد مع حياة غير آدمية، لكنه اعتادها ولا يعرف العيش في المناطق النظيفة فهو مثل الكلاب تحب النوم في الطين، ومع ذلك يعتبر نفسه على صواب ولا يجد له صاحباً ينصحه بعد أن خسر هذا الأخير وسرق منه زوجته بكل خسة. من الطبيعي أن تكون بينه وبين الشرطة عداوة قديمة منذ صباه عندما كانت تطارده وهو يتسول أو يسرق والآن هو مجرم كبير يحتاط في كل تحركاته ويحاول ألا يحمل أي شيء من تجارته حتى لا يلقى القبض عليه متلبساً يحتمي في شريكته فمن ناحية لن يتم تفتيشها ومن ناحية أخرى إذا تم القبض عليها فإما أن يضحي بها أو في أحسن الأحوال قد يحمل لها بعض الطعام وهي في محبسها ويتكتَّم أسراره ولا يبوح بها لأحد حتى هذه التي تزوجها وادعيا أنهما عاشقان لا يأمن لها فمن تخون مرة تخون ألف مرة. «ليس كل مرة تسلم الجرة»، فلم يكن «منصور» أكثر ذكاء من الشرطة التي تراقبه وترصد كل تحركاته وتعرف تفاصيل تجارته لكن لا بد من اتخاذ الإجراءات القانونية عند القبض عليه حتى لا يحصل على البراءة لا لأنه بريء، ولكن بسبب العيب في الإجراءات كانت النتيجة الحتمية التي تنتظره هي السقوط والقي القبض عليه، لكن النوع الذي كان معه من الأصناف الرخيصة والكمية قليلة لذا فقد صدر حكم بسجنه خمس سنوات فقط. تم اقتياده إلى محبسه وهو زنزانة ضيقة مظلمة وليل السجن طويل والأفكار والهواجس تلعب برأسه لا يرى لهذه السنين نهاية ولا يعتقد أنها قد تنتهي وزوجته تتأخر في زيارته وأصبحت لا تأتي إلا مرة كل شهر بعد أن كانت تزوره كل أسبوع وتتحجج بضيق ذات اليد فالتجارة كاسدة وعيون البوليس مفتوحة وتخشى أن تلحق به في سجن النساء المجاور ويجد لديها عذراً فيما تقول لكنه بحاجة ماسة لرؤيتها لتخفف عنه بعضاً من متاعبه وآلامه وساءت حالته النفسية وهو لا يرى بارقة أمل في الخروج إلى النور مرة أخرى. الطامة الكبرى أنها توقفت عن زيارته تماماً ولا يعرف السبب ويخشى أن تكون لقيت مصيره نفسه وربما أصابها مكروه ولا يستبعد أن يكون افتقدها إلى الأبد فلا يمنعها عنه إلا ما يعجزها وتدور الأفكار وتروح وتجيء مئات الأعذار يختلقها لها ويضرب رأسه في الحائط وهو عاجز عن معرفة ما حدث، فلا أحد غيرها يزوره لا قريب ولا صديق وأصدقاؤه الوهميون لم يحاولوا حتى مساعدة زوجته ببعض المال أو توكيل محام للدفاع عنه وقالوا لعله يحكم عليه بالإعدام ليستريحوا منه. لم يكن اهتمامه بها من باب الخوف عليها أو أنه قلق من أن يكون أصابها مكروه وإنما لأنه يحتاج إلى الطعام الذي تأتيه به والمال الذي تدسه في جيبه كي ينفق على السجائر التي ينفث دخانها عساها تخفف عنه محنته وتهون عليه أيامه فلا يدري إن قابلها الآن هل يحتضنها لأنه افتقدها كثيراً أم يصفعها لأنها قصرت نحوه في تلك الظروف البالغة القسوة فهو لم يشعر بالضعف والهوان إلا هنا، حتى الأيام الخوالي التي كان لا يجد فيها طعاماً ويبحث عن لقمة في صناديق القمامة كانت أهون عليه وأحسن حالاً فالقيود تشعره بالذل والجدران الضيقة تكاد تطبق على صدره والثواني تمر بطيئة أو لا تمر أصلاً، الأيام متشابهة بلا جديد بين الظلام الدامس وطعام السجن الذي لا مذاق له مثل الماء الساخن. مع ذلك فإن كل ما له بداية له نهاية وانقضت السنوات الخمس، لكنها تركت آثارها على وجهه ويبدو كأنه في الستين وهو لم يجاوز الخامسة والثلاثين أو كأنه خارج لتوه من القبر مثل العائد من الموت يحمل انكساراً في داخله إلا أنه يأبى أن يظهر ذلك عليه ويريد أن يبدو في حيوية ونشاط ولا يريد أن يطلع أحد على حقيقة مشاعره يغالط ويكابر ويتحسس شاربه الذي انحنى إلى الأسفل وكان يتمنى أن يجد من ينتظره في هذا اليوم خارج الأسوار ومن غيرها لكنها غائبة، المهم أنه سيعود إليها وإلى بيته وحريته ويتنفس من جديد ومضت الليلة الأخيرة التي كانت الأطول عليه لا يماثلها إلا الليلة الأولى. واستقل «منصور» السيارة العامة وجلس بجانب النافذة. لقد تغيَّرت الدنيا كلها خلال هذه السنوات التي كانت فعلاً طويلة كأنها دهر، وهناك بنايات كثيرة صعدت إلى الفضاء ومعالم الشوارع ليست كما كانت، حتى الشارع الذي كان يسكنه لم يبق منه شيء على حاله ولولا أنه عندما ترجل واقترب من بيته ووجده في مكانه لشك في أنه تائه، لكن المفاجأة أن البيت مغلق بل يبدو أنه لم يدخله أحد منذ سنوات فقد خيم العنكبوت على أرجائه وأصاب الصدأ أقفاله فاضطر إلى كسرها، لكن السؤال المهم الآن أين زوجته؟ وماذا حدث لها؟ لم يستطع أن يجلس بين الأتربة التي غطّت بقايا المفروشات البالية فانتحى جانباً واتكأ على الجدار وأشعل سيجارة لم يكملها وألقى بها على الأرض وخرج مسرعاً يسأل الجيران عن زوجته ومعظمهم تهرب من الجواب عليه، لكن في النهاية وجد من يتجرأ ويجيبه ويسر إليه أنها تزوجت أحد أصدقائه القدامى. كانت الصدمة عنيفة وقاسية أفقدته التوازن وترنح وزاغ بصره ودار حول نفسه، ليس أمامه إلا أن يقطع الشك باليقين وهرع إلى بيت صديقه تسبقه أمنياته بأن يكون ما سمعه مجرد وشاية وأنه غير صحيح ويأمل ألا يقع في الفخ الذي أوقع فيه صديقه الآخر ولا يود أن يشرب من كأس الخيانة الذي سقى منه غيره، لكن ما نيل المطالب بالتمني فبمجرد وصوله ظهرت الحقيقة المرة ورأى زوجته بشحمها ولحمها في بيت صديقه والآن عرف لماذا توقفت عن زيارته لقد باعته بالرخيص وفار الدم في عروقه ولم يفكر ولم يتريث وأسرع إلى المطبخ استل السكين وانهال عليها بالطعنات الانتقامية لا يعرف عددها ولم يتوقف عن طعنها حتى بعد أن تأكد من أنها فارقت الحياة وكان الوقت كافياً لينجو غريمه بحياته. مرة أخرى ألقي القبض عليه وعلم أن من كانت زوجته قد حصلت على الطلاق بأمر المحكمة وتذكر ليالي السجن، لكن هذه المرة قد تكون العقوبة هي المؤبد أي خمسة أضعاف العقوبة السابقة وسأل نفسه هل سيكون في العمر بقية ليعود إلى الحرية؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©