الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الطائفية في الواقع العربي... معارك بلا منتصر

الطائفية في الواقع العربي... معارك بلا منتصر
9 أكتوبر 2010 00:03
اخترقت الطائفية بين الشيعة والسنة بعض المجتمعات العربية والإسلامية كما تخترق النار الهشيم. إنها ظاهرة يصعب إيقافها بسبب فشل يتخمر في الدولة العربية وسياساتها. في العراق تعبّر الحالة الطائفية بين الشيعة والسنة عن المقدرة التفتيتية للظاهرة، أما في لبنان فالصراع السني الشيعي أصبح أكثر أهمية وعمقاً، وفي الكويت بإمكان شخص أن يفرقع البلاد ببضعة جمل كما حصل مؤخراً، أما في البحرين فالوضع يزداد تعقيداً بين الطائفتين: الغالبية الشيعية والأقلية السنية، وفي اليمن صراع مسلح بين الحوثيين الأقرب إلى الشيعة الزيدية من جهة وبين الدولة المركزية ذات الغالبية السنية. هذه مقدمات وليست نهايات، إذ يبشر الوضع بمزيد من التفتت الطائفي في دول عربية لم تؤسس قيماً تتعلق باحترام الرأي الآخر. بعد عقود على الاستقلال السياسي ينتظر كل منا في أوطاننا زلة من أحد أفراد الطائفة الأخرى لتقوم قيامتنا ونصفي حساباتنا السياسية ونطلق العنان لاستغلال العاطفة الدينية الجياشة لدى بسطاء الناس. لقد أصبحنا بفضل ضعف التعليم وعدم الحيادية حيال المسألة الطائفية، طوائف متصارعة قبل أن نكون مواطنين ملتزمين. في الخمسينات والستينات من القرن العشرين كان لسان حال العرب "لن نعيد صراعات وخلافات الأمس وكأنها وقعت اليوم". في ظل هذه الأجواء انضم شيعة جنوب لبنان إلى "المقاومة الفلسطينية" بقيادة حركة "فتح" ذات القيادة السُنية ولكن غير الطائفية، وانضم الشيعة إلى جانب السُنة والمسيحيين إلى القوميين العرب والحركة القومية بقيادة عبد الناصر، وانضم السنة والشيعة معاً إلى التيار "البعثي" واليساري العربي من المحيط إلى الخليج. في هذه الأجواء عاش المسيحي العربي إلى جانب السُني والشيعي المسلم في معظم أنحاء الشرق من دون التفات إلى اختلاف ديني. فالدين وفق التصور العربي في ذلك العصر كان ينظر إليه كأمر خاص يرمز إلى العلاقة الروحية بين الفرد وربه بينما الوطن للجميع وفق حقوق وواجبات. هذا لا يمنع أن انكسارات وانتكاسات كبرى وقعت في ذلك التفكير، كان أولها انفجار الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 . ومنذ جاءت الحركات الإسلامية خاصة منذ ثمانينات القرن العشرين والطائفية بلا مواربة، جزء طبيعي من الصورة. فكيف لا تكون الطائفية أساس المشهد في ظل تركيز الحركات الإسلامية على الفوارق الدينية بين الناس؟ لم يعد الفرق بين إنسان وآخر يتجلى في عمله وموقفه وسياسته وأخلاقه، بل أصبح أكثر وضوحاً في انتمائه الديني والمذهبي وطريقة صلاته وتعبده. وعوضاً عن بناء المشترك بين الديانات والطوائف في المجتمعات العربية أصبح الاختلاف والتصادم على أبسط المسائل من طبائع الأمور. لقد سعى الإسلام السياسي لإعادة إحياء ما وصلنا من القرون الوسطى وعصور الظلام بكل ما فيها من تعبير عن ظروف الأمس وعقائده وقيمه. لقد تحول هذا الموروث بفضل الإسلام السياسي إلى مشروع سياسي يجدد معارك الأمس بين هذه الصحابية وذلك الصحابي، وبين خلفاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين دول اندثرت وأزمان مرت وأمم اختفت. فجأة تلبدت الغيوم، وأصبح الاختلاف على صحة هذا أو ذاك يسبب نزاعاً حول قضايا لم تعد أساسية للعصر الذي نعيش فيه وللعلاقة بين الناس في حلهم وترحالهم. إن قضية ياسر الحبيب الذي سحبت جنسيته الكويتية الشهر الماضي هي آخر مثال على هذا الصراع. ومنذ شهور منع السيد الفالي، وهو رجل دين شيعي، من دخول الكويت بسبب اتهامه بالإساءة إلى الصحابة. وقبل عامين وقع اختلاف كبير مع الشيعة في الكويت على تأبين عماد مغنية، ومنذ أيام فضّت اجتماعات للسلفيين السنة في الكويت ممن تجمهروا احتجاجاً على ما قاله الحبيب بحق السيدة عائشة رضي الله عنها. والواضح أنه بإمكان ذات السجالات أن تمر مرور الكرام لو انطلقنا من أن لغة الاستفزاز تمثل مشكلة لمستخدمها وصانعها. ربما لو نظرنا إلى الأمر من زاوية مختلفة لما كانت ردة فعلنا بهذه الحدة. المؤكد الآن أن هذه الفوضى والحدة ستبقى إلى أن نجد حلاً كما فعل الغرب اتجاه كل أنواع التعبير بما فيها أكثرها استفزازاً وغرابة. فالرأي حتى لو كان غريباً يجب أن يعود على صاحبه، فإن أصاب أيده الناس وأحبوه وأقبلوا على أفكاره وإن أساء قاطعه الناس وانتقدوه وابتعدوا عمّا يقول مما سيدفعه إلى إعادة النظر. وتؤكد الحقيقة التاريخية أنه في زمن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) قال البعض عنه ما قالوا، فسامحهم، وقال بعضهم عنه أسوأ الأقوال فعفا عنهم وكسبهم إلى جانبه فأصبحوا من أشد مؤيديه المؤمنين برسالته. هذا النموذج القيادي الذي يدير الاختلاف والتنوع هو نموذج يفتقده العالم العربي في زمننا هذا. فعرب اليوم يردون الإساءة بإساءة أسوأ منها، ويردون الصاع صاعين خاصة على بني جلدتهم، ويردون الخطأ بخطأين. في النهاية نحن نجلد أنفسنا ونقسم عالمنا ونحمّله ما لا يحتمل، كما أننا نظلم الكثير من الأبرياء في الطريق. وأتساءل لماذا لا نكتفي برد مقنع يساهم في خلق أجواء أفضل؟ الواثق من نفسه لا تهزه كتابات ولا هجمات ولا مغالطات أو قذف مهما كان بذيئاً وسطحياً. الرد يجب أن يكون بالمنطق، فهو أقوى سلاح وأكثره ثباتاً وإبهاراً. بل ربما يكون الأفضل في بعض الأحيان عدم الرد. ألا نجد أحياناً كأفراد أن كلاماً سفيها يقال لنا في العلن وفي أماكن كثيرة لا يستحق منا حتى مجرد التفكير في الرد؟ أم أننا يجب دائماً أن ننجر إلى أسفل الدرك في كل خصومة واختلاف؟ ونتساءل لماذا الدخول في صراع سني أصولي مع صراع أصولي شيعي؟ من قال إنه بالإمكان إيقاف هذا الإعلام الهادر وحرية كل من يريد أن يقول أكثر الأفكار غرابة واستفزازاً؟ ألا يتحول كل هذا إلى معارك جانبية لا يمكن لطرف أن ينتصر فيها على الآخر؟ أليس واجب الحكومات أن تتعامل مع الكهرباء والماء والبيئة والتعليم والتنمية والاقتصاد والدفاع والتخطيط عوضاً عن أن تنجر إلى معارك جانبية لا تغير شيئاً من واقع؟. إن الصراع السني-الشيعي والصراعات الدينية في بلادنا العربية، من الكويت إلى العراق، تؤكد أهمية فصل الديني عن الزمني، وتؤكد ضرورة أن لا تتدخل الدولة في المسائل الدينية إلا لمصلحة التهدئة، كما تؤكد هذه الأحداث أهمية أن يكون للقضاء رأي وللعقلانية مكان. فهناك في التاريخ الإسلامي الكثير من الغرائب، وفي كتب الأقدمين الكثير من الأمور التي بعضها صائب وبعضها لا يجيزه العقل أو المنطق، بعضها دخل على المسلمين السنة وبعضها دخل على المسلمين الشيعة وبعضها لا علاقة له بالإسلام. إن فصل الزمني عن الديني هو المدخل لحماية الدول من صراعات المذاهب واختلافها. الأمر لن ينتهي سوى بتعميق المخاوف في أوطان يتفاقم فيها الخوف. لنتذكر أن الهويات الخائفة تتحول إلى هويات مقاتلة وكثيراً هويات جارحة وقاتلة كما يؤكد الروائي أمين معلوف في روايته. ألا يمتلئ التاريخ الأوروبي بنماذج أدت في النهاية إلى تدمير أوروبا مرات ومرات؟ ما ينقص العالم العربي هو الحكمة والحوار والرحمة بين فئاته. بالحوار والحكمة يمكن استيعاب الاختلاف والفوضى. بالحكمة والحوار يمكن السماح للناس بالرد من دون توترات. آن الأوان للبحث عن المشترك، للبحث عن العقلنة، للتروي، لعدم الانجرار وراء التعصب. د. شفيق الغبرا أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©