الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

شاعر "الزنوجة" المتحررة

شاعر "الزنوجة" المتحررة
27 سبتمبر 2018 00:28

لطالما تساءلت عن العلاقة التي جمعت بين شاعر «الزنوجة» إيمّيه سيزير الذي تحل هذه السنة الذكرى العاشرة لرحيله (1913-2008)، والحركة السوريالية، بل بينه وبين الشاعر أندريه بروتون «بابا» السوريالية كما يوصف، المعروف بتشدده «الحزبي» حيال إدراج الشعراء في خانة السوريالية. اكتشف بروتون الشاعر سيزير خلال زيارة له إلى المارتينيك العام 1941 وأعجب كثيراً بديوانه الشهير «دفتر العودة إلى البلاد الأم» ولم يتوان عن كتابة مقدمة له في طبعته الباريسية الصادرة العام 1943 نشرت أيضاً في ديوان «الأسلحة العجائبية» الذي أصدره سيزير بعد عام. نادراً ما كان بروتون يقبل على كتابة مقدمة لديوان، لكنه وجد في سيزير شاعراً سوريالياً بالفطرة والغريزة ووصفه قائلاً: «شاعر أسود تنتصب كلماته كسنبلة الضوء، متحدياً بمفرده عصراً بكامله».
لم يكن مفاجئاً أن تسحر قصيدة «دفتر العودة إلى البلاد الأم» أندريه بروتون في أوج ثورته السوريالية، فهي فعلاً من أهم القصائد التي عرفها القرن العشرون. قصيدة صعبة ومعقدة وبسيطة في آن واحد. وعندما نشرها في العام 1939 في المارتينيك سرعان ما عرفت رواجاً راح يتسع مع طبعاتها المتعاقبة في فرنسا وأفريقيا الفرنكوفونية بل في العالم أجمع. ومما وجد بروتون في شعر إيميه سيزير ما سماه «الأوكسيجين الجديد». وأطلق عليه لقب «الشاعر الأسود الكبير». لم يكن مستغربا إذاً أن تغري هذه القصيدة التي غزت الجامعات والمدارس أندريه بروتون، فهي لم تكن غريبة عن المفاهيم السوريالية على رغم جوها «الزنوجي» ونبرتها التحررية والتزامها. قصيدة متحررة من أسر الصوت الواحد والنمط الواحد، فيها تتآلف الغنائية «السوداء» المجروحة والبعد الذاتي أو الأوتوبيوغرافي والاحتجاج والجنون والهذيان.. إنها «القصيدة المضادة» بامتياز كما حلم بها سيزير دوماً. وكان لا بد للشاعر الزنجي من أن يصادق السورياليين ويقترب منهم، فالشعر هو بمثابة «الوسيلة العجيبة»، الوسيلة التي عبرها تتم مواجهة العالم والتاريخ، وعبرها أيضاً يتم تحرير الإنسان، أبيض كان أم أسود. وكان كتب في شأن لقائه بأندره بروتون قائلاً: «إن لقائي بأندريه بروتون له دور كبير في ما أصبحت عليه، فهو الطريق المختصر إلى نفسي». يكتب الشاعر الكبير الذي أصبح رئيساً للسنغال ليبولد سيدار سنغور عن صديقه القديم: «يوفق سيزير بين الحلم والفعل، الحلم لديه فعل بفضل (السلاح العجيب) المستخرج من مستودع الزنوجة القديم». ويرى أن «بركان مشاعره انفجر في أعماق زنوجته». أما سيزير فيصف الزنوج في قصيدته الشهيرة قائلاً: «أولئك الذين لم يخترعوا البارود والبوصلة، أولئك الذين لم يسيطروا على البخار والكهرباء، أولئك الذين لم يكتشفوا البحار ولا السماء، أولئك الذين لم يعرفوا من السفر إلا الاقتلاع...». إنها صورة جارحة تعبر عن حال الفقر والتخلف اللذين يحاصران عالم الزنوج من جراء الظلم الذي ألحقه بهم المستعمر الأبيض. ويقول عن زنوجته: «زنوجتي ليست حجراً، زنوجتي ليست برجاً ولا كاتدرائية، زنوجتي تغوص في الجسد الأحمر للأرض، تغوص في الجسد المتقد للسماء». ولئن. انتمى سيزير إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1945، فهو لم يلبث أن استقال منه بعدما اجتاح الجيش الروسي المجر عام 1956، وقد لمس في الشيوعية ضرباً آخر من «الكولونيالية» التي ناضل ضدها طوال حياته. بل رأى في الشيوعية صلافة الغرب أيضاً، «الغرب القابع على كومة من جثث الإنسانية»، بحسب تعبيره.

«زنوجة».. بداية المصطلح
كان إيميه سيزيرسليل المارتينيك، أول شاعر يستخدم كلمة «زنوجة» في قصيدته الطويلة نفسها «دفتر العودة إلى البلاد الأم» ثم راح يعمل مع سنغور الذي تعرف إليه في باريس، على ترسيخ هذه الكلمة كمصطلح سياسي واجتماعي، لكنه في قصيدته البديعة تلك منح الزنوجة مفهوماً إنسانياً عميقاً وشاملاً وأبعاداً فلسفية وتراجيدية أو قدرية. وقد شغلته قضية الزنوجة حتى كادت تسيطر على شعره وفكره ونضاله، فمن خلالها نظر إلى العالم وإلى ما وراء العالم، إلى الواقع والنفس، إلى التاريخ والحرية. وسعى كما يعبر إلى «إطلاق صرخة زنجية قوية، ترج بصلابتها مداميك العالم». وهكذا فعل حقاً وأصبح شاعر الزنوجة، الزنوجة المتحررة من ربقة الماضي الكولونيالي والذل والعبودية والعنصرية. ومعه، مثلما مع سنغور وسواه من الشعراء السود، راحت «الزنوجة القديمة تتحول جثة» كما يقول، وشرعت تولد «زنوجة جديدة» انطلاقاً من اللون الأسود نفسه الذي أصبح لون الحرية، ومن الذاكرة الأصيلة والمخيلة والحق بالحياة والمساواة.. حرر سيزير مقولة الزنوجة من ظلامية العصور القديمة التي جعلت الأسود في مرتبة دنيا وكأنه إنسان على حدة، لا تليق به الحياة. رأى سيزير أنّ سبيل الخلاص من القهر والعبودية لن يقوم إلاّ عبر رفض صورة الأسود الخاضع والعاجز عن بناء حضارة، وعبر عودة الزنوج إلى هويتهم الأصلية. أراد صاحب «خطاب حول الاستعمار» أن يُثبت للعالم أنّ الثقافة يتقدّم على السياسة وأن الحضارة الإنسانية ساهم في صنعها البشر كلهم. وسنةً تلو سنة راحت الزنوجة التي عرّفها جان بول سارتر في نص له عنوانه «اورفيوس الأسود» بأنّها «نفيٌ لنفي الرجل الأسود»، تتوسّع حتى غدت ثورة ثقافية حقيقية، وسبباً جوهرياً في انبعاث حركات التحرّر الأفريقية القائمة على أساس الافتخار باللون والجذور. وهذا المفهوم كرسّه سيزير في واحد من أشهر أبياته وأجملها: «نحن لا نُخلق سوداً/ بل هذا ما نُصبحه/ زنجيٌ أنا، وزنجيّاً سأبقى». ومما قال أيضاً صاحب «تراجيديا الملك كريستوف» في وجه العالم هذه العبارة: «أنا من عرق هؤلاء المضطهدين».

شعر من الأحشاء
ومثلما ثار إيميه سيزير على الزنوجة القديمة، ثار أيضاً على اللغة القديمة والأشكال الشعرية التقليدية، هاتكاً رهبة اللغة الفرنسية التي كان يجيدها تمام الإجادة. وبدا شعره على مقدار من القسوة والغنائية والفانتازيا. شعر طالع من الأحشاء مثلما هو طالع من القلب ومن اللاوعي والحلم والمخيلة. يقول سيزر واصفاً الشاعر: «الشاعر هو ذاك الكائن القديم جداً والحديث جداً، شديد التعقد وشديد البساطة الذي يبحث، على التخوم الحية للحلم والواقع، للنهار والليل، بين غياب وحضور، ووسط الانطلاق المفاجئ للنكبات الداخلية، عن كلمة السر ويتلقاها...».
كتب إيميه سيزير الكثير من الشعر والنصوص المسرحية، وعرفت أعماله نجاحاً كبيراً، ونشرت في أبرز الدور الفرنسية، وكتبت عنها أبحاث ومقالات لا تحصى. ورفعته أعماله هذه إلى مصاف كبار المبدعين الفرنكوفونيين. ولعل من يمعن في قراءة قصائده، يكتشف أنها تتميّز بتراكيبها «المفككة» قصداً، وعباراتها الفظّة ونبراتها المنفعلة والصارخة، وكأنّه يصرّ على نقلها بصيغتها الخام، من لا وعيه أو من أعماق سريرته، فيخطها على الورق في تلقائيتها، مضيفاً إليها صنعته أو دربته ومراسه الصعب. ولم يكن عنف مفرداته إلا وجهاً جديداً لما يمكن تسميته «مواجهة» لعنف المُستعمِر والذي فرض ثاقفته ولغته على الشعب المستعمَر. ولم تتحاش قصائده الصيغة الشفهية التي وسمت تجربته عموماً، والتي تجلّت بوضوح في التراكيب العفوية الطالعة من أنفاس الشاعر وصرخاته أو تأوهاته غير الإنثيالية. وهذا ما يتبدى في طغيان المحاكاة الصوتية على النصّ، مثل: «آه» و«اوه» و«أي»... هذه الألفاظ أو النبرات هي كلمات وذات معان. هذه الإيقاعات النبرية الجديدة لم تكن مألوفة لدى القراء الفرنسيين الذين صدمتهم قصائد سيزير وجعلتهم يتعرّفون إلى لغة فرنسية جديدة تُكتب على إيقاع الطبلة الأفريقية، أو الـ «تام- تام». ولعل من يسعى إلى ترجمة شعر سيزير يصطدم بصعوبة هذا الشعر و«وحشيته» اللغوية وتقطيعه القاسي للبنى النحوية ولعبته اللفظية، وسط غياب للنقاط التي تؤذن عادة بنهاية الجملة.
كلما قرأت شعر إيميه سيزير شاعر المارتينيك و«الزنوجة» الحرة، أشعر أنني في حاجة إلى أن أعيد قراءته. هذا شاعر لا يمكن سبر أغواره بسهولة، وهو أصلاً لا يسلم القارئ مفاتيح عالمه بسهولة، وليس على القارئ إلا أن يضني في البحث عن هذه المفاتيح.
1-تام تام

سيّان نهر دم الأرض
سيّان دم الشمس المهشمة
سيّان دم مئة من مسامير الشمس
سيّان دم حيوانات منتحرة في النار
سيّان دم الرماد دم الملح
دم دماء الحب
سّيان الدم المحترق لعصفور النار
يا طيور مالك الحزين يا طيور الباز
اصعدي واحترقي

2- العنقاء
إنني ذكرى لا تبلغ العتبة
تتوه في آفاق اليمبوس حيثما بريق نبات الافسنتين
عندما يلفح قلبُ الليل بنياسيمه
يهزّ النجمة المتهاوية فوقنا
نحن الذين نتأمل في أنفسنا

السماء اللُسينيّة تكسب قوامها الجديد
من الكَثاة الندية لجوزة الهند المفتوحة

3- موسيقى بلوز الليل
أيها الموسيقي الجميل
اغواسيرو
أيها الموسيقي الجميل
عند جذع شجرة معرّاة
في غمرة الأنغام التائهة
بالقرب من ذاكراتنا المنهكة
بين أيدي الهزيمة أيدينا
وشعوب العزم الغريب
ندع عيوننا تتدلى
ثم نبكي مولدنا
بعد أن نحلّ حبل الألم

4- العجلة
العجلة هي أجمل ما اخترع الإنسان والأوحد
هناك الشمس التي تدور
هناك الأرض التي تدور
هناك وجهك الذي يدور متكئاً على عنقك
عندما تبكين
ولكن أنت أيتها الدقائق ألا تلتفين
حول بكرة الحياة
الدم مولغٌ
فن العذاب مشحوذ مثل جذمات الشجرة
التي شحذتها سكاكين الشتاء
الايّلة ثملة من عدم استقائها الماء
وجهك الذي يضعني على خرزة البئر غير المتوقعة
وجهك وجه سنونوة البحر بلا صواري
وجهك
مثل قرية ترقد في عمق بحيرة
ثم تولد من جديد يوم ينهض العشب
والسنةُ البذرةُ

5- ولادات
منهكة.
ماء وجهي الراكد
على ولاداتنا المنهكة أخيراً.
إنه لأمر بيّن،
في مياه وجهي الراكدة،
وحيداً،
نائياً،
ليلياً،
أبداً،
أبداً،
ما كان لي أن أكون غائباً.

الأفاعي؟
الأفاعي نطاردها.
مسوخ؟
المسوخ - عندما تعضنا
ندامات كل الأيام
حيثما لا نكتمل – تخفض نفثاتها،
تشمنا.

كل الدم المراق
نلعقه،
بنبات العلس ننمو،
بأحلام أشد دقة،
بأفكار أقل اصطفاقاً،
لا تنفخوا الغبائر،
الترياق الوردي الرهيب يعادل السم الغابر،
لا تنفخوا الغبائر،
سيصبح الكلّ إيقاعاً مرئياً
ماذا نستعيد نحن؟
حتى سرنا لن نستعيده.
لا تنفخوا الغبائر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©