الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

دوستويفسكي.. جرّاح العقول الإرهابية

دوستويفسكي.. جرّاح العقول الإرهابية
27 سبتمبر 2018 00:28

ربما باستثناء الألماني جورج بوشنر، لم يهتم كاتب آخر بموضوع الإرهاب والقتل، مثلما اهتم بها الروسي فيودور دوستويفسكي. ليس هناك عمل من أعماله الأدبية ولم يشغل نفسه بالسؤال الأبدي الذي يُطرح منذ قديم الزمان: «لماذا يقتل الإنسان؟»، خاصة في أعماله الأربعة الكبيرة والأشهر، والتي هي حسب تسلسل صدورها الزمني: الجريمة والعقاب (1866)، الأبله (1867)، الشياطين (1872) والأخوة كارامازوف (1888).

موضوع الجريمة والقتل والعقاب شكل المحور الذي تحركت حوله الشخصيات، كأنه في كل رواياته تلك، جلس بالفعل في عقل القاتل، «إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح»، تلك الصيحة التي أطلقها دوستويفسكي، هي الدمغة التي دمغت أبطاله. من غير المهم تنوعهم من ناحية السلوك والمنشأ الاجتماعي، أو ناحية طبيعة جريمة القتل التي ارتكبوها، سواء كان القتل لأسباب شخصية، قتل امرأة عجوز في الجريمة والعقاب، أو قتل الأب كما في الأخوة كارامازوف، القتل بكل أنواعه، من الاغتيال السياسي حتى القتل من أجل الحصول على مبلغ من المال (القاتل المأجور)، كما في الشياطين، إلى الفوضى التي يجد فيها الناس أنفسهم وهم يقتلون بعضهم بعضاً، كما في الحلم الذي يعيشه راسكولينيكوف في الجريمة والعقاب، حيث نعيش التطبيق العملي للصيحة التي هي أقرب للإنذار من قبل دوستويفسكي، في كل ذلك، كانت قوة التصوير من الإقناع، لدرجة أن من يقرأ ذلك، من يعش المشاهد تلك بكل ما تحويه من رهبة وشدّ للأعصاب، يتساءل، من أين جاءت هذه القدرة على تصوير النفس البشرية عند دوستويفسكي، إلى درجة الإقناع؟

تعرية الجوهر الإنساني
يمكن عمل قائمة طويلة بتعليقات العديد من الفلاسفة والكتّاب الذين حاولوا الإجابة على هذا السؤال، الألماني فريدريش نيتشة مثلاً، كتب: «هل تعرف دوستويفسكي؟ باستثناء ستاندال لم يمتعني ويفاجئني أحد: سيكولوجي أتفاهم معه بشكل جيد». أو سيجموند فرويد الذي لم يخف تأثير دوستويفسكي عليه، لكن يظل التعليق الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو أكثر إلفاتاً للنظر، بالنسبة لصاحب الغريب، «دوستويفسكي هو متنبئ حقيقي. لقد تنبأ بسيطرة محاكم التفتيش الكبرى وانتصار السلطة على العدالة»، أما روايته الشياطين، فيضعها إلى جانب ثلاثة أو أربعة أكبر أعمال التي توجت التراكم الضخم لإنجازات العقل البشري «الأوديسة، الحرب والسلام، دون كيشوت ومسرحيات شكسبير.»، ثم يضيف: «لقد تعلمت في البداية محبة دوستويفسكي، لأنه يعري لي أسرار الجوهر الإنساني. لكن بسرعة، وبقدر، ما عشت دراما زمني الذي كان كل مرة أكثر دراماتيكية، تعلمت أن أحب في دوستويفسكي الإنسان، الذي عاش قدرنا التاريخي وعبر عنه بأكثر عمق» (ص 13 المسرحيات الترجمة الألمانية). وهي الجملة الأخيرة لصاحب الإنسان المتمرد، كامو، التي تهمنا بشكل خاص، للاقتراب ولو قليلاً من سر قدرة هذا الروائي العملاق بتعرية النفس البشرية، فلو لم يعش دوستويفسكي نفسه قدره التاريخي وبعمق، لما كانت له هذه القدرة على التعبير عنه بهذا العمق، كأننا عن طريق كتاباته نعيش قدرنا التاريخي أيضاً.

حياة درامية حقيقية
من يقرأ سيرة دوستويفسكي الذي وُلد في 11 نوفمبر 1821 في موسكو في أسرة طبيب عسكري ينحدر من فئة رجال الدين، وأم تنتمي إلى فئة التجار، سيتعرف على تطور هذا الأديب الاستثنائي في العالم، سيكتشف أن قوة دوستويفسكي وموهبته بالكشف عن تناقضات الجوهر الإنساني تأتي من قوة دراما حياته الشخصية. الحياة التي عاشها دوستويفسكي هي دراما فعلية، يمكن أن تشغل وحدها عشرات الروايات، إذن لا تكون كل رواية تُكتب عنها ناقصة في علاقتها بما جرى بالفعل. كان أبوه رجلاً صعب الطباع وعلاوة على ذلك كان مريضاً بالصرع الذي انتقل بالوراثة إلى ابنه. أما أمه فربت فيه المشاعر الدينية العميقة، صحيح أن دوستويفسكي، كما يتفق عليه كتّاب سيرته، ولع منذ صباه بميول التمرد وانبهر بالطموحات المثالية للكاتب الألماني فريدريش شيللر، وبأنه أحب في بدايته الأدبية روايات تشارلز ديكنز الذي كان يجيد إثارة العطف على الناس المهانين، رغم أن تعرية التناقضات الاجتماعية في روايات الفرنسي بلزاك كانت أقرب إلى نفسه، وهذا ما يفسر ترجمة دوستويفسكي لرواية أفجيني غراندي لبلزاك قبل عامين من إصداره لأول عمل أدبي له هو رواية المساكين عام 1946، صحيح كل ذلك، لكن علينا أن نعرف أن الانقلاب الكبير الذي تعرضت له حياة صاحب الجريمة والعقاب، عمله الأول الذي سيشغل دوستويفكسي نفسه بموضوع القتل، كان اعتقاله في عام 1849 بتهمة الانتماء إلى إحدى تلك المنظمات الثورية التي شاع وجودها في روسيا القصرية آنذاك، منذ منتصف نهاية القرن التاسع عشر حتى اندلاع الثورة الروسية 1905 وبعدها الثورة البلشفية عام 1917، تلك المنظمات التي اختلطت فيها فكرة الثورة والاشتراكية مع الفكرة العدمية، والتي أغلبها اعتمدت على فكرة التآمر ورفعت العنف والتصفيات السياسية شعاراً لها. كان دوستويفسكي يعيش آنذاك في بطرسبورغ وكان قد تخرج قبل فترة قصيرة من كلية الهندسة، عندما اكتشف ميوله الأدبية، أمر جعله يطرد فكرة العمل الوظيفي، كانت مدينة بطرسبورغ حينها مركزاً للحياة الأدبية ولحلقات المثقفين، في البداية تعرف دوستويفسكي على الناقد الروسي فيسارون بلنسكي، ممثل الاشتراكية الملحدة، الذي كان يتزعم كوكبة من الأدباء الشبان، والذي كان المشجع الأول الذي اكتشف موهبة دوستويفسكي، إلا أن دوستويفسكي سيترك الحلقة بعدها عندما يتعرف دوستويفسكي على المثقف الروسي ميخائيل بيتراشيفسكي الذي جمع حوله كل أولئك الشباب الذين أسرتهم في تلك الفترة أفكار الفيلسوف الفرنسي شارك فورييه الاشتراكية ودعواته إلى تغيير المجتمع، (كارل ماركس أطلق على تلك الاشتراكية «الاشتراكية الطوباوية»، كأن الشيوعية التي دعا إليها ليست طوباوية هي الأخرى).

تجربة الموت الرهيبة
«زملاء بيتراشيفسكي»، كان الاسم الذي أُطلق على الحلقة السرية التي انضم إليها دوستويفسكي، والتي تمكنت الشرطة من مراقبتها حتى القت القبض على أعضائها في ربيع 1849، ومنهم دوستويفسكي الذي كان له من العمر 28 عاماً آنذاك، ليُحكم عليه مع بقية أعضاء الحلقة بالإعدام، لكن وفي آخر لحظة بعد عملية إعدام زائفه، والتي وقف خلالها دوستويفسكي مع بقية الأعضاء في الخارج في أجواء متجمدة منتظرين فرقة الإعدام لتقوم بالحكم، صدر بحقه مرسوم قيصري يقضي باستبدال حكم الإعدام بأربعة أعوام من النفي مع الأعمال الشاقة في مقاطعة أومسك في سيبيريا، بالإضافة إلى التجنيد لأربع سنوات أخرى، إنها تجربة مرعبة بالتأكيد، فقد عايش دوستويفسكي عملياً وهو واقف على منصة الإعدام ويتدلى فوق رأسه حبل المشنقة، عايش طقوس تنفيذ الإعدام التي بقيت ملازمة له فترة طويلة من حياته، وقد وصف هذا المشهد الرهيب في روايته الأبله (1867-1869)، أما حياته وهو يقضي حكم الأعمال الشاقة فقد صورها في كتابه «ذكريات من منزل الأموات»، وعلاوة على ذلك التحق بالخدمة العسكرية جنديا في سيبيريا. ولم يتمكن الكاتب من العودة إلى الحياة الطبيعية وممارسة نشاطه الأدبي بحرية الا بعد وفاة القيصر نيكولاي الأول. عام 1859 احيل دوستويفسكي إلى التقاعد لسوء صحته بعد أن ترقى إلى رتبة ملازم أول في الجيش القيصري. ونال ترخيصاً بأن يعيش في مدينة تفير في شمال غرب روسيا، لكنه ظل تحت رقابة الشرطة حتى عام 1870.
فكيف لا تترك كل التجارب تلك بصمتها على كتابات دوستويفسكي؟ كيف لا يكتب دوستويفسكي بهذه القوة، وهو الذي على عكس كاتبين من مجايليه (ليو تولستوي وإيفان تورجينيف)، اللذين عاشا مرفهين، عاش حياة في دراما متصاعدة قبل إطلاق سراحه في منفاه، في سيبريا يؤدي الأعمال الشاقة مع سجناء محكومين بتهم مختلفة، بعضهم بجرائم قتل، وبعد إطلاق سراحه، هناك معاناته كمريض بالصرع من ناحية، مراقبة الشرطة له، حياة العوز والفاقة و ... الإدمان على القمار من ناحية أخرى؟ على الأقل كانت تلك هي حياته حتى عام 1865، عام تعرفه على مختزلة الكتابة آنا سنيتكينا، التي ستصبح زوجته الأولى، والتي من أجل الإسراع في كتابة روايته الجريمة والعقاب عقد اتفاقاً معها لتختزل كتابة الرواية وهو يلقنها، وهي زوجته هذه التي ستقوم بتسيير أموره المالية وتدافع عن حقوقه لدى نشره الرواية، الأمر الذي ساعده في الحصول على مبلغ لا بأس به مقابل عمله الأدبي، ليس ذلك وحسب، بل طلبت من دوستويفسكي أن يتعهد لها بأن يتخلى عن لعب القمار نهائياً، مقابل ذلك الزواج منه (ظهر هذا الموضوع في روايته اللاحقة المقامر التي صدرت عام 1966) ، لتأتي بعدها أكثر مراحل حياته الأدبية خصوبة، والتي كتب فيها رواياته المشهورة اللاحقة: «الأبله» (1967)، الشياطين (1972) والاخوة كارامازوف (1988).

كيف يفكر القتلة؟
ليست مهمة هذا المقال كتابة سيرة حياة دوستويفسكي، بل كان لابد من المجيء على ذلك، لكي نعرف لماذا أن دوستويفسكي «الإنسان الذي عاش وصور قدرنا التاريخي بأكثر عمق»، كما وصفه ألبير كامو، هو الأكثر معاصرة لنا، ولكي نملك ولو صورة بسيطة لما يدور في رؤوس قتلتنا وإرهابيينا، الذين بدأوا يتناسلون منذ أواخر القرن العشرين ويتلاقحون حتى اليوم، لابد من قراءة أعماله بإمعان، لابد من عمل جولة ولو قصيرة في عقول قتلة وإرهابيي دوستويفسكي، شياطينه المرئيين، والذين صحيح أنهم عاشوا في ستينيات القرن التاسع عشر، إلا أن أخوتهم هم اليوم أشباح يطوفون في كل مكان.
بلا شك أن ما كتبه دوستويفسكي فيما يتعلق في هذا الموضوع يفوق كل ما كتبه كتاب آخرون في الموضوع ذاته، (بما فيهم جورج بوشنر الذي سبقه في تناول موضوع القتل والإرهاب، خاصة الثاني، الإرهاب السياسي في مسرحيته المشهورة «موت دانتون»)، كما أنه لا يكاد يوجد عمل له ولم يتناول هذا الموضوع. لكن الإغراء الذي تطرحه معالجات دوستويفسكي لموضوع الإرهاب (بكل أنواعه) والعقاب (أيضاً بكل أنواعه)، للاستشهاد بها في أيامنا هذه، حيث يطوف شبح الإرهاب في العالم، من الصعب الحياد عنه، خاصة في السنوات الأخيرة، صحيح أن الأحداث الإرهابية المعاصرة منحتنا الفرصة لقراءة دوستويفسكي مجدداً، مرة ومرة، واكتشاف أكثر المقاطع خفية في أعماله من جديد، والتي هي من القوة بحيث إنها لا تحتاج إلى التعليق أحياناً، إلا أن إضاءة تلك النقاط «المعتمة تلك التي ربما لم تتم قراءتها من قبل، تفتح المجال أمامنا بهذه الصورة، لدراستها والتمعن عميقاً بما يعنيه دوستويفسكي بالـ «الشيطاني الذي لا يقبل الخضوع للسيطرة» في العالم وفي الإنسان، ومع ذلك من السهل التعرف عليه في العالم الخارجي ـ في أعمال دوستويفسكي يحضر بقوة شديدة ـ ، للاقتراب بهذا الشكل لفهم ولو القليل مما يدور في عقل الإرهاب، من دون الحاجة بالرجوع إلى خطاب المواجهة الثنائي المشحون دينياً، القادم من مملكتين متضادتين، الذي نعيشه من حولنا، والذي هو في تصاعد كل يوم، غايته تقسيم العالم إلى ثنائية: شرق وغرب، إسلام ومسيحية، وكل تلك الكليشهات المعروفة، والتي إذا كانت فعلت شيئاً، فإنها سممت حياتنا، وجعلت عالمنا يسقط أكثر في وحل القتل والإرهاب.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©