الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نوايا الديناميت الطيبة!

نوايا الديناميت الطيبة!
5 يوليو 2012
سعى الإنسان منذ فجر تاريخه إلى إيجاد الوسائل والطرق من أجل مساعدته على التغلب على ظروف حياته البدائية القاسية. في ذلك الزمن كانت الحاجة للبقاء هي الدافع للعمل والابتكار، لذا اخترع أدواته من الحجارة وعظام الحيوانات وأغصان الأشجار، وتبعا لذلك اخترع الرماح والسهام لتساعده على الصيد ومطاردة الفرائس والدفاع عن نفسه من الحيوانات المفترسة والمتوحشة. منذ تاريخ البشرية الأزلي وحتى يومنا، كانت ابتكارات الإنسان واختراعاته تبدأ من الحاجة وتنتهي عند الرفاهية والكماليات، إلا أن بعض الاختراعات والاكتشافات النبيلة المفيدة تحولت إلى كابوس إنساني بحق مثل اختراع الديناميت في عام 1867م على يد المهندس الكيميائي الفرد نوبل، الذي كان غرضه من هذا الاختراع تقديم المساعدة في حفر المناجم وتعبيد الطرق وشق القنوات المائية، إلا أنه سرعان ما أستخدم في القتل والهدم، عندما تم تطويره ليصبح جزءا أساسيا في الصناعة العسكرية التي أبادت الملايين من البشر منذ اكتشاف الديناميت وحتى اليوم. جميعنا يعرف أن ألفريد نوبل، وكتكفير عن هذا الانحراف الخطير، وضع جزءا كبيرا من ثروته تجاوز النصف لتأسيس جائزة حملت اسمه وباتت كما نعرف جائزة عالمية في فروع الأدب والطب العلوم.. الطاقة المدمرة بعد ذلك جاء اكتشاف الطاقة النووية التي تعتبر رخيصة نسبيا ومفيدة في توليد الطاقة الكهربائية حيث أن وقودها منخفض التكلفة، حتى تحولت إلى سلاح فتاك ومدمر. ونعرف جميعا قصة إلقاء القنبلة النووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين عام 1945 والتي قتلت في ومضة سريعة نحو 66000 شخص، وجرحت وسببت العاهات لـ 69000 آخرين، بواسطة التفجير الذي تبلغ قدرته 10 الآف طن. والأرقام السابقة تتعلق فقط بمدينة هيروشيما، أما نجازاكي فقد قدر عدد الضحايا بأكثر من ثمانين ألفاً! ليست هذه المجالات وحسب التي نزفت الإنسانية خلالها بسبب الابتكارات وتطورها، فقد حدثت تحولات عجيبة في تفكير واهتمام الإنسان نفسه بسبب عوامل التطور الاقتصادي والتقني والتجاري والتعاملات اليومية، فالثورة الصناعية في أوروبا التي انطلقت في القرن التاسع عشر أدت إلى قيام النظام الرأسمالي الذي أصبحت معه الملكية الفردية وسلوكها الاستئثاري قيمة مقدسة، وبالتالي فإن ذلك النظام فتح الكثير من المجالات لكي يستغل الإنسان قدراته في زيادة ثروته وحمايتها من الاعتداء، فأصبحت حياة الفرد محمومة ومفعمة بالصراعات والتنافس من أجل المادة.. كل تلك التطورات طحنت الفرد وجعلت منه آلة لا أكثر، ووسط هذا التهافت والسعي المتواصل طحنت الإنسانية، مما أصاب علماء الآداب والإنسانيات والنظريات بالذهول للحال المتردي الذي وصل إليه الإنسان، فبدأ الكثيرون في دراسة الطبيعة الجديدة للإنسان ومجتمعه ودراسة تلك المصانع، ومن هنا بدأ علم الاجتماع في الظهور الذي تطور على يد “أوجست كانط” الذي أرسى بدايات العلم وسط زخم الثورة الصناعية في أوروبا، وكان هدفه معالجة مثل هذا الخلل الإنساني، ثم تطور علم الاجتماع استجابة للتغيرات والمشكلات الاجتماعية في مرحلة الانتقال من النظام القديم إلى النظام الجديد.. وكما قلنا فإن كل تطور مفيد يكون له جانب مظلم في تاريخ البشرية، فلم يمض الكثير من الوقت حتى بدأت الآلة تلغي الإنسان وتحل مكانه، مما سبب تزايد أعداد البطالة وتشرد الكثيرين ونمو غير طبيعي في أعداد الفقراء، وبرغم هذا كانت الآلة أكثر دقة وانتاجية فكثرت الموارد الاستهلاكية حتى تلك التي قد لا يحتاجها الفرد، فانتجت الآلة أكثر مما هو مطلوب منها لذلك تعود الإنسان على وضع الاستهلاك غير المبرر أو الضروري والصرف على الكماليات التي لا حاجة له بها.. الماكينة والإنسان جاكوب برونوفسكي مؤلف كتاب “التطور الحضاري للإنسان” أشغلته هذه النقطة وتحدث عنها في أحد مقاطع كتابه حيث قال: “إن الماكينة أداة لاستخلاص الطاقة من الطبيعة. بداية من أبسط مغزل حملته النساء وحتى أول المفاعلات الذرية التاريخية، وكل أجياله التالية. ولكن ما أن استخلصت الماكينة مقادير أكبر من الطاقة حتى أصبحت وقد تعدت باطراد استخدامها الطبيعي فكيف تطور الأمر بحيث تبدو الماكينة الآن في شكلها الحديث تهديداً لنا؟ إن جوهر هذا السؤال هو مدى الطاقة التي تستطيع الماكينة أن تنتجها. ويمكننا أن نضع السؤال في شكل بديل: هل تدخل الطاقة في نطاق المدى الذي صممت من أجله الماكينة؟ أم أنها غير متناسبة معه بحيث تسيطر على من يستعملها وتفسد الاستعمال؟ والقضية بهذا ترجع إلى زمان أبعد عندما سخر الإنسان لأول مرة طاقة أكبر من طاقته ألا وهي طاقة الحيوان وكل ماكينة تعتبر نوعاً ما من حيوانات الجر حتى المفاعل الذري. إنها تزيد الفائض الذي اكتسبه الإنسان من الطبيعة وقد حدث ذلك منذ بداية الزراعة وعلى هذا فكل ماكينة تعيد تمثيل المشكلة الأصلية: هل تفرد الطاقة بقدر ما يتطلبه استخدامها المحدد، أم أنها تعطي من الطاقة ما هو أبعد من حدود استخدامها البناء؟ إن التعارض في مدى الطاقة المنتجة يعود بنا الطريق بطوله حتى هذا العصر التقويمي من تاريخ الإنسان”. توهج العالم بالتطور والحضارة فتغيرت كثيرا من السلوكيات والاهتمامات، وبات الركض المتواصل للإنسان يهدف إلى جمع أكبر قدر من النقود في سعي مادي واضح، فبواسطتها يحصل على الغذاء والمأوى والمسكن وهذا السعي الحثيث الذي يتسم في أحيان كثيرة بالعنف والتهافات والقسوة يشبه إلى حد ما سعي الإنسان البدائي للبقاء والذي استخدم وسائل وأدوات متواضعة لكي تساعده في مهمته، لكن في العصر الحاضر المتوهج بالرقي والتطور داهمت الإنسان عوامل كثيرة تهدد بقائه، ففضلا عن العشرات بل المئات من أنواع الأسلحة الفتاكة والمدمرة والحروب المتواصلة، غير الصناعات الضخمة التي لوثت الأجواء وأثّرت بشكل واضح على مناخ الأرض باسره، وقد شاهدنا تغييرات مناخية خطيرة كذوبان الجليد في القطب الشمالي والجنوبي، وحدوث عواصف وأعاصير مميتة مثل تسونامي.. بجانب هذا جميعه تزايدت الأمراض والفيروسات التي تفتك بالإنسان يوميا، ورغم الجهود الطبية الحثيثة والتي نسمع بين وقت وآخر عن اكتشاف لعلاجات وأمصال جدية، ظلت كثير من الأمراض دون علاج وحلول جذرية مثل أورام السرطان ونقص المناعة المكتسبة الايدز، وغيرها. صحيح أن الإنسان تمكن من التغلب على عدد من الأمراض التي حصدت الملايين فيما مضى، ووجد علاجات شافية منها مثل الملاريا والحصبة والجدري ونحوها.. ورغم أن الإنسان اليوم أصبح أكثر تطورا، وتساعده الآلة التي سخرها لخدمته لكنه أيضا أشد ألما وأكثر هموما، فالفقر والبؤس وغيرها تزيد من حيرته وغربته على الأرض، وتبعاً لذلك تزايدت الأمراض النفسية والمشاكل الأسرية بل إن بعض علماء التربية لا يتوانون عن التحذير من أن المؤسسة الأقدم في تاريخ الإنسانية، وهي المؤسسة الزوجية والتي تعتبر المنتج الأول لأفراد صالحين في المجتمعات باتت مهددة بالتفكك، ولعل ارتفاع أرقام الطلاق وانفصال الزوجين ليس في بلد دون آخر بل في كافة أرجاء العالم مؤشر على وجود هذه المعضلة، كما أن تأخر الزواج والتقدم في العمر دليل على وجود هذا السياق من المشكلة. لا أريد أن يفهم من كلماتي أنها معادية للتطور والتوهج الحضاري، فهذا أبعد ما يكون عن التفكير، لكن يهمني في هذا السياق أن تكون مسيرتنا محملة بالمبادئ والقيم الصحيحة، وألا نتخلى عن قلوبنا وإنسانيتنا وسط هذا التهافت المؤلم.. إن قسوة الإنسان في هذا العصر وصلت إلى حد بالغ وواضح، وباتت نماذج وقصص الألم الإنساني لا تصيب فردا أو جماعة قليلة بل تجرف المئات وفي أحيان الآلاف من البشر فتقتل وتصيب وتجرح فضلاً عن الآلام النفسية والروحية، وهذا بحق كان مبعث الحزن، لكل متابع للحركة الإنسانية في العالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©