الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الدين النصيحة

الدين النصيحة
6 أكتوبر 2010 20:46
من يقرأ أغلب القصائد العربية والروايات، أو يستمع إلى الأغاني أو يتفرج على السينما والدراما التلفزيونية، فإنه يحس وكأنه في معركة يخوض غمارها الآن، أو مقبل عليها، أو أنه كأجداده القدامى من البدو المنافحين عن شرف القبيلة، أو الغزاة أو قطاع الطرق أو الفاتحين. يحدث هذا بكثرة في التعبير الأدبي والفني حيث أن العرب منتصرون دوماً، بينما تقول أحداثيات التاريخ المعاكس تماماً، فهم المهزومون هزائم متتالية في القرون الأخيرة، بل أن خوفهم من الهزائم لا يجعلهم يفكرون في خوض أية معركة، ولربما من هذا المنطلق يختلقون معارك يخوضونها حتى مع أنفسهم يكونون فيها المنتصرون في نوع من أحلام اليقظة المريضة. فمتى يتحرر العرب من البطولة والانتصارات الموهومة المتتالية، ويعترفون بحقهم الطبيعي كبشر في أن يكونوا عاديون جداً ومعرضون للهزيمة من طموحاتهم وحياتهم والطبيعة قبل هزيمتهم من أعدائهم الحقيقيين كانوا أو المفترضين؟ متى سيعترفون بذلك؟ لا أحد بامكانه أن يتوقع ذلك، على الأقل في المستقبل القريب. فالقلة من المفكرين الجراحين والمفكرين الأركيولوجيين العرب وضعوا أصابعهم على مثل هذه الأوهام العظمى التي تكاد تفتك بالعقلية العربية وتكون سرطانها، ولكن هؤلاء القلة غرِّبوا. غرِّبوا من جهة على مستوى لا كرامة لنبي في أهله، وغرِّبوا من الجهة الأخرى بنسبهم وإلحاقهم بالغرب (= الغرب الأوروبي هنا) وتخوينهم، فجميعنا في حمى وطيس المعركة ضد هذا العدو، ومن يقول رأياً مخالفاً فإنه خائن. خائن لكل شيء، لهذا فإن الوعي العربي الشقي يبقى وسيبقى ملتبساً بالخيانة أمام تحديات الأمة، واستحقاقات الهوية، والانتماء إلى الوطن. ويتعذب المفكرون والكتّاب المصابون بلوثة الكتابة والوعي، والقراء القلة الذين تنتابهم لعنة البحث عن الحقيقة، وهم يتدحرجون على السلالم التي لا نهاية لها، والتي تقودهم حتماً إلى الطابق السفلي من عار الخيانة، بينما بالمقابل تبدو صور أولئك الأبطال الكثر المنتصرون وهمياً في معارك وهمية، وهم يتعاركون مع الوسائل الأثيرة، والغواني الجميلات، ورحلات القتل المبهجة، وسلام الجماهير الوفية على الشجعان العائدين للتو من حروب غرف النوم. والإنسان العربي المعاصر تحاصره الحياة ولكن يحاصرها هو نفسه كذلك، ويفتقد إلى الحرية ولكنه لا يعرفها، ولو لقاها مرة لأطلق عليها رصاصة الرحمة. والإنسان العربي المعاصر ينهشه الفقر فيهرب منه إلى الغني المزيف، ويرعبه الموت فيهرب من الحياة، يهرب من نفسه بدعوى أنه يبحث عنها، ويبحث عنها في مرايا الآخرين، وعندما ينهكه البحث يعود إلى نفسه القديمة وكأنه يعرفها لأول مرة. تناقضاته لا يكاد يستوعبها خيال، وأحلامه تذوب تحت الشمس الساطعة كشموع النسيان. لا يبني لأنه لا يعرف كيف يهدم، ولا يهدم لأن مبناه مهدوم سلفاً، ولا يحتاج إلى قوة المعاول، ولا حنكة العتالة، ولا حتى تدخلات الطبيعة. مسحوق كما ربنا خلقنا، ويفرحه هذا السحق ويبهجه ولا يكفيه، لا يكفيه فيصعد إلى الحفر بعناء مشهود كي يسحق أكثر، كي يلتذ، فمعذبيه هم الأبطال العظام، وهذا ما يزيده فخراً، ويكفيه فخراً أنه مسحوق إلى درجة لم يصل إليها الآخرون ولن يصلوا، يكفيه فخراً أن الهزائم تملأ رأسه، والجروح ما ينبض في قلبه، ولقد أثث الحفر لكي يعيش بكرامة المناضلين دفاعاً عن مزيد من الضعف. يكفيه فخراً أنه يموت كل لحظة بينما هنالك من يتمنى الموت ولا يحصل عليه، ويكفيه فخراً لأن حياته خالية من المشاكل، لأنها ليست بحياة. يكفيه فخراً أنه بطل مطلق، بطل مستمر ودائم، بطل عبر الأزمان والتواريخ والأماكن بينما الآخرون المساكين اكتشفوا ضعفهم البشري وتخلوا عن عظمة البطولة الخرافية، تخلوا عن الانتصارات المستمرة، تخلوا عن عرش الأوهام. هذا العرش بالتحديد هو عرشه المفضل، ملك هو رغم ما ينتاب رعيته من تلاشي، والملكية منزلة تعتلي المنازل، وهي سحاب كريم تارة، ووابل من أبابيل تارة أخرى، شيء لا يعيش إلا على الخرافة، ولا يُفهم إلا بها. الخرافة جنته ومجال تحققه، وبدونها كأنه اللاشي، كأنه حين سيخرج من باب الخرافة ولا يستطيع العودة، كأنه من ضيع البيت القدسي، ونهشته ضباع الخارج، وأكلت من لحمه ديدان الحياة الشرسة. وسواء هطلت عليه الأرزاق أو الحرمانات، فهو ثابت لا يغيره شيء، ثابت بأخلاقه وثابت بأفكاره وثابت بحياته وثابت بموته، ثابت كاله، إذ بطولته لا تهزها، حرمانات ولا تغير منها أرزاق. يرزق فيما رسى حياته كالمحروم، ويحرم فيما رسى حياته كالمرزوق، وجهه لا يكفي ضحكته، وعينيه ضيعت الطريق إلى قلبه، وقلبه من فُتات. يظنه الأعظم فهذا ظن الأبطال، ويعرف بأنه الأضعف، ولكن أبطال من هذا النوع تكمن ميزتهم في الهروب المستمر عن ما يعرفونه حقاً عن أنفسهم، إن حقيقته كبطل تكمن بالذات في هذا الهروب المتتالي. ناجح، أجل ناجح وعلى الجميع الاعتراف بنجاحه الواضح، أما الفشل وجماعته فابحثوا عنهم في السجون والمعتقلات والمصحات الكثيرة والمنتشرة، فالبطل لا يعرف شيئاً اسمه الفشل، البطل يعرف شيئاً واحداً فقط، إنه يعرف ما يريد، ولقد حدد ما يريده سلفاً وانتهى، الحيرة والقلق والتردد والأسئلة لا تعني أبطال من هذا النوع، إنهم ولدوا كالنجوم، ولكن على الأرض، ولربما تحتار وتقلق وتتردد وتسأل النجوم، ولكن أبطالنا يفوقونها نجومية على هذا الصعيد. فهو نجوم صماء، نجوم من أصل نجمي كريم، نجوم عرفت السماء أجدادها وستعرف أحفادها، نجوم من نوع خاص، خالدة، ولا يطفؤها التغير، وما الحياة، أو لم تكن الحياة إلا لخدمة بريقها، لتلميع صورتها في الكون، كي لا ينطفأ ذلك الضوء الماهر عن السقوط على رأس العطش، أو كي لا تهرب ملائكة تلك النجوم السمحاء، وتترك الأرض تغلي بالعذاب، ولا تغلي الأرض بالعذاب من كثرة أولئك الأبطال، وإنما من قلتهم، عليهم أن يتكاثروا، فأبطال من هذا النوع ينبغي نسخهم وتناسخهم باستمرار، والمعاناة التي تكاد أن تهتك بأرواح كبشر إلا لأنه لا يوجد ما يكفي في رصيدنا من هؤلاء الأبطال. وهم في الحقيقة لا يقصرون وينجبون قدر المستطاع، ولكن حتى محاولاتهم العظيمة هذه لا تشبع رغبة الأرض بالمزيد منهم، والشعوب المتخلفة أمثال شعوبنا عليها فعلاً السعي وبدأب للتفكير بحلول علمية وفنية وعملية لزراعة أبطال من هذا النوع وبأسرع وقت. فقد تستيقظ هذه الشعوب ولا تجد عليها إلا ألف بطل وهي تحتاج إلى مليون، ولكنها للأسف قد تستيقظ متأخرة، ولهذا عليها أن تسارع إلى فعل شيء ما والآن، وهنالك حلول سريعة كأن نقدم زوجاتنا وبناتنا للبطل كي يلقحهن بلقاح البطولة، ولكن حتى هذا لن يحدث التوازن الذي نحتاجه في بيئة الأبطال، علينا أن نهرول لجمع أكبر ما يمكن من البنات الخصبات والجميلات ونقدمهن قرباناً لمصيرنا الاستراتيجي. هذا إذا أردنا أن نتطور، إذ كيف نتطور ونحن بلا أبطال كافيين. مصيرنا على العموم في يدنا، وإذا ما ضعنا فالسبب نحن، لقد كانت أمامنا فرصة وأضعناها، ولهذا فإنه ليس من حقنا أن نلوم أحد بعد ذلك. وهذا اللوم أو المعارضة من الأمراض الرئيسية المصابين بها، علينا أن نقرع أنفسنا ونعذب أنانا، ونغلق النوافذ على وحوش دواخلنا لأننا المخطئون، وإذا ما استطردنا في هذه المعارضة الكريهة ولم نقدر أبطالنا كما يجب، ولم نسع كما ينبغي لخلق المزيد من الأبطال، فإننا الخاسرون. ونحن حقاً خاسرون الآن، ولكن يكفي خسارة حتى هذا الحد، فلنتوقف أرجوكم.. الوقت ليس بصالحنا، والأمم لن ترحمنا، والأعداء يتكاثرون على بواباتنا.. إذن فلننطلق نحو الخلق، نحو الإبداع، إبداع المزيد والمزيد من الأبطال، ولنكف بعد اليوم عن سماع من يغرر بنا، ويقودنا إلى التهلكة، هذه باختصار نصيحتي، والدين ـ كما يقول الأثر ـ النصيحة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©