الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكذب القاتل

الكذب القاتل
7 يوليو 2011 21:23
صرخت العجوز بأعلى صوتها الضعيف الذي بالكاد يصل إلى الجيران، خاصة أن المسافة ليست قريبة لأنهم يقيمون في منطقة الفيلات الراقية ولم يساعدها إلا الهدوء الشديد، فخرج من سمع منهم يستكشف الأمر ويحاول نجدة المرأة لكن في البداية لابد من معرفة الخطب الذي ألم بها، وهم لا يعرفون اسمها ولا اسم صاحب الفيلا التي تطل برأسها من إحدى نوافذها، غير أنه يبدو من طريقة استغاثتها أن الأمر جد خطير ويحتاج إلى سرعة الحركة، هرع إليها نفر من الرجال، فتحت لهم الباب وهي لا تكاد تستطيع أن تنطق بكلمة واحدة، فقد احتبست الكلمات في حلقها وربما أصيبت بالخرس، لكن مجرد دخولهم كان كافياً لمعرفة ما حدث، وهو أن رجلا في حوالي الخمسين من عمره مذبوح في صالون الفيلا وجثته غارقة في الدماء، ويبدو أنه تلقى طعنات كثيرة كما يظهر من مشهد الجثة، لكن لم يجرؤ أحد منهم على الاقتراب منها أو حتى أن يحد النظر إليها فالموقف برمته مرعب، حيث منظر الدماء التي تناثرت وسالت ووصلت إلى معظم قطع الأثاث والمفروشات والسجاد الذي يبدو أنه فاخر، يعتقدون أن القتيل هو ذاك الرجل الذي يرونه يتردد على الفيلا وأنه صاحبها، وعلموا الآن أن تلك المرأة هي أمه، وأسرعوا بإبلاغ الشرطة. حضر رجال البوليس وقاموا بتخطيط موقع الحادث ورفع الأدلة والبصمات من مسرح الجريمة، وبدأوا التحقيق لمعرفة كيفية وقوع الحادث والكشف عن مرتكبه ومن الطبيعي أن يكون أول الخيط من أقوال الأم التي فقدت السيطرة على أعصابها وتحجرت الدموع في عينيها، وتحاول ابنتاها أن تهدئا من روعها خوفا عليها لأنها تعاني أمراض السكري وارتفاع ضغط الدم والقلب، وإن كانتا غير قادرتين على التوقف عن البكاء والعويل على فقد أخيهما وموته بهذه الطريقة البشعة، والجميع لا يعرفون السبب حتى الأم التي كانت شاهد عيان على بعض ما حدث. جلست العجوز وهي ما زالت ترتجف تروي أصعب ثلاث ساعات هي الأطول في حياتها الممتدة إلى خمسة وسبعين عاماً، قالت: استقبل ابني ثلاثة أشخاص في الصالون وأنا جالسة في غرفتي بالداخل وقدَّم واجب الضيافة لهم من زجاجات مياه غازية، ثم دار بينهم حوار لم أسمع تفاصيله، ولكن بعد وقت قليل ارتفعت أصواتهم وزادت حدة الحوار بما يعني أن هناك خلافاً على أمر ما، فخرجت أستطلع الأمر وهنا بدأت الأحداث المرعبة فوجئت باثنين منهم يدفعانني إلى داخل غرفتي ويطلبان مني أموالي ومجوهراتي، ففهمت أنهم لصوص وخشيت على حياتي وحياة ابني فأرشدتهم إليها وقاموا ببعثرة كل محتويات الغرفة والاستيلاء على كل ما وقع تحت أيديهم من ثمين خفيف، واعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد غير أنني فوجئت بهما يقومان بتوثيقي بالحبال وإلقائي على أرضية الغرفة مع تحذيري من الكلام، وقبل أن يخرجوا دفعني أحدهما على الأرض فسقطت وفقدت الوعي وبعد وقت طويل استعدت الوعي ولا أدري ماذا حدث ولا كم مضى من الوقت لكن الهدوء يلف المكان، وتمكنت بعد معاناة شديدة من أن أتخلص من قيودي وأخرج من الغرفة لتقع عيناي على أبشع مشهد في حياتي كلها، فقد وجدت فلذة كبدي مقتولاً بتلك الطريقة التي خلعت قلبي من مكانه، ثم أدلت بأوصاف الأشخاص الثلاثة. بدأ البحث عن المجرمين وتم فحص أكثر من ستمائة شخص من أصدقاء القتيل ومعارفه ممن حامت حولهم الشكوك أو الشبهات، وأخيراً تم التوصل إلى القتلة من خلال الأوصاف التي أدلت بها الأم والتي ذكرها بعض الشهود، ممن رأوا المجرمين وهم يرتدون زي عمال الحي وسقطوا في قبضة العدالة واحداً تلو الآخر. جلس “هاني” المخطط المدبر رأس الأفعى يعترف بجريمته التي هزَّت الحي الراقي وحيرت رجال البوليس مع كثرة عددهم وعتادهم، وهو ثابت كأنه لم يفعل شيئاً، قال: لقد كان القتيل مستفزاً وأنا بريء من دمه فهو الذي قتل نفسه بتصرفاته وطريقته وأسلوبه في الكلام، إذ يبدو دائماً أنه يمتلك الملايين التي اكتسبها بلا مجهود من خلال تجارته في الآثار ويغطي عليها بنشاطه في تجارة التحف الثمينة والهدايا القيمة التي يطلبها علية القوم ويقبلون عليها ويدفعون فيها بسخاء، إما لاقتنائها أو لتقديمها كهدايا لمسؤولين يتمكنون من خلالها من تسيير أعمالهم وفتح الأبواب المغلقة. ومنذ عام تقريباً تعرفت على “شاهين” وهذا اسم القتيل، عندما أراد طلاء معرض التحف الذي يزاول من خلاله تجارة المقتنيات والمعروضات ولا أعرف قيمتها ولا تساوي عندي شيئاً ولا أهتم بتلك الأشياء، لكنني فوجئت به يحدثني عنها بما يشبه الخيال وجعلني أحكم عليه وعلى من يشترونها بالجنون والسفه، فالقطعة الصغيرة التي لا تصل إلى حجم كف اليد مثلاً تساوي مئات الدولارات، أما القطع الأكبر فتساوي الآلاف، بينما القطع الأثرية تساوي الملايين، وراح يحدثني عن هذا العالم الغريب الذي لا أعرف عنه أي شيء من قبل، كما لو كان يتحدث عن خيال أو ألف ليلة وليلة أو كنز مغارة علي بابا وكلها أوهام بعيدة عن الواقع والحقيقة، وكان يضرب لي الأمثلة ويستعرض لي بعض المعروضات وهو يشرحها لي ويبالغ في أهميتها ويزيد في المبالغة في الأرباح التي تعود عليه بكل سهولة ويسر وهو جالس في مكانه، أحسست بأنه كان يستمتع وهو يراني منبهراً به وبشخصيته الخيالية وبأرباحه التي لا يصدقها عقل. أحسست فعلاً بأن هذا المكان هو كنز كبير حسب أوصافه وتعبيراته، بل زاد على ذلك بأن أخبرني بأنه يمتلك فيلا كبيرة يقيم فيها هو وأمه وحدهما، بعد أن طلق زوجته التي أنجب منها ولدين وأخذتهما ليقيما معها في فيلا أخرى اشتراها لها بعد الطلاق، وفي البداية لم أكن أصدق ما يقول واعتبرته نوعاً من الكذب الكبير فبعض الناس يحاولون أن يختلقوا حول أنفسهم هالات وهمية ويدعون أنهم مهمّون في المجتمع وعلى علاقات واسعة بكبار المسؤولين، ولا يهمني في النهاية صدقه أو كذبه ولا يعنيني كل هذا من قريب ولا من بعيد، ولكن عندما طلب مني القيام ببعض أعمال الطلاء والتجديدات في الفيلا التي يقيم فيها، وجدت فيها أشياء مثل المعروضات التي يحدثني عنها ويعرضها للبيع بهذه المبالغ الخيالية التي تصيبني بالدوار عندما أسمعها. شهران كاملان استغرقهما العمل عنده وقد أكون حاولت التأخير والمماطلة للحصول منه على المزيد من المال، غير أنه لم يراع ما أنا فيه من ديون وفقر ومعاناة وأنني لا أستطيع أن أفي بالاحتياجات الضرورية لأسرتي من طعام وملبس ومسكن، فلم أقطع صلتي به بعد انتهاء العمل عنده، وبقيت أتردد عليه بين الحين والآخر، ويجد متعة في الحديث معي عن ثروته وأرباحه ويقابل ذلك غيظ داخلي وغيرة تصل إلى حد الحقد عليه، مما يثير لدي تساؤلات كثيرة لماذا يستمتع بكل هذه الأموال وأنا لا أحصل على الضروريات إلا بشق النفس، فعلاً الأغنياء يستمتعون بمعاناة الفقراء. وواصل الرجل حلقات مسلسله، وحدثني هذه المرة عن سيف أثري يخص أحد الملوك السابقين في المنطقة العربية، وقال لي إنه اشتراه منذ خمس سنوات بمئة ألف دولار لأنه ذو قيمة كبيرة حتى أن ثمنه الآن يزيد على مليوني دولار، ومع ذلك فإنه لن يفرط فيه لأن ثمنه يزداد كل يوم ولأنه نفيس فإنه لا يعرضه وإنما يحتفظ به في الفيلا، كما يحتفظ بثلاثين مليون دولار أخرى بخلاف ما يدخره في البنوك وتعج به حساباته. كل ذلك دفعني دفعاً لكي أحصل على ما رأيت أنه نصيبي في هذه الكنوز، بل من حقي أن أعيش مثل هؤلاء، وبدأت أفكر في الوسيلة التي أتمكن من خلالها من سرقة السيف ويكفي وحده لأن أصبح مليونيراً، غير أنني اصطدمت بحرص الرجل وحيطته الشديدة حتى أنه لا يفتح الباب إلا لمن يعرفه ولا يسمح بالزيارات المنزلية، وعندما أخبرت صديقي خريج السجون بما أعتزم القيام به وجدته يشجعني بقوة، وعرض مشاركتي في المهمة، وتولى التخطيط واستعان بثلاثة من أصدقائه ووضعنا خطة لسرقة السيف على أن يقوم هؤلاء بها لأنه لا يعرفهم بينما وصفت لهم تفاصيل الفيلا من الداخل، غير أنهم فشلوا مرتين متتاليتين في الدخول أو التسلق أو حتى الاقتحام المسلح. في المرة الثالثة كان لابد من البحث عن حيلة ليدخل المنفذون الفيلا في وجوده، بل وهو الذي سيفعل ذلك بنفسه، كانت خطتنا هي التنكر في زي عمال من البلدية، حيث يدعي الثلاثة أنهم مكلفون بطلاء واجهات المباني باللون الأبيض ليبدو اللون الحضاري للمنطقة، وبالفعل توجهوا إليه في الظهيرة عندما عاد لتناول الغداء مع أمه وقد أحضر وجبتين جاهزتين من أحد المطاعم كما اعتاد في معظم الأيام، وبالفعل نجحت الخطة وقام بفتح الباب لهم وحدث ما حدث فقتلوه ولم أكن معهم، المهم أنهم لم يعثروا لا على سيف ولا أموال إلا بعض المجوهرات القليلة التي لا تكفي لوجبة عشاء من التي يتناولها القتيل، وعلمت فيما بعد أنه لم يكن هناك سيف من ذهب ولا من خشب ولا ملايين كما كان يدعي، وأنه قتل نفسه بهذا الكم من الكذب، وأن الفيلا قد آلت إليه ميراثاً عن أبيه الذي بناها في هذه المنطقة عندما كانت الأسعار فيها رخيصة.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©