الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللغةُ هي الكُلُّ.. الشِعرُّ هو السِّحْرُ

اللغةُ هي الكُلُّ.. الشِعرُّ هو السِّحْرُ
14 ديسمبر 2016 20:28
سركون بولص إعداد وتقديم: عبير زيتون «أنا لست فيلسوفاً رغم أنني أتفلسف أحياناً، ولكن أنا أعرف أن في الحياة سحراً، أو سمه ما شئت. ولكن ذاك اللهب الصغير يجتذبني من مكان إلى مكان، لذلك لا أعتبر أن لي جذوراً حقيقية، ولا بلداً. بصراحة هناك نوع من «التغجر» الروحاني، والجسدي والجغرافي، وهذه مادتي.... أكتب ببطء شديد، ولا أستعجل النتائج. فأنا لست شاعراً نظامياً، أنا شاعر من نوع آخر». سركون بولص (1944 - 2007) الشاعر العراقي الكبير من أوائل مؤسسي قصيدة ما بعد الرواد، ومن أهم الأصوات التي جذَرت، وطَورت قصيدة النثر في المشهد الشعري العربي المعاصر، وهذه القصيدة لا تزال جارية تؤكد حضورها، وفاعليتها معرفياً وجمالياً إلى الآن»، وحياة هذا «الآشوري التائه» كما سماه «أنس الحاج»، بداوة كونية متنقلة تقودها جغرافية «التشعير»، منذ خرج من كركوك الستينيات، وبغداد إلى بيروت، وسان فرانسيسكو، ونيويورك، وانتهاءً ببرلين، حيث وافته المنيّة في «22 من أكتوبر عام 2007» بعد صراع مرير مع السرطان. أربعون عاماً قضاها «سركون بولص» في كتابة الشعر، وترجمته، ملازماً لهذا «الهم» كما يسميه، يستبطن الأمكنة، والأشياء، مغامراً، مجازفاً، نابشاً في أسرار اللغة، بحثاً عن لغته الشعرية الخاصة به، والمتناحرة مع تجربته الحياتية كما أراد لها غنية بالإمكانات، والاحتمالات، أجنحتها الحاضر، والمستقبل، والماضي الإنساني البحت في صراعه مع التشرد الروحي، بحثاً عن معنى ما لهذا العدم. هذه الشذريات مستمدة من كتاب «حوارات - سركون بولص.. سافرت ملاحقاً خيالاتي»، منشورات الجمل. أنا في النهار رجل عادي يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي/‏ كأي خروف في القطيع، لكنني في الليل نسر يعتلي الهضبة وفريستي ترتاح تحت مخالبي/‏ حمامة مسافرة.. إليك لك كل الدفء/‏ هذه الساعة التي ستدنينا أو تفرقنا، أو تذكرنا بأن ليلتنا هذه قد تكون الأخيرة، وتعرف أنها خسارة أخرى سيعتاد عليها القلب مع الوقت/‏ فالوقت ذلك المبضع في يد جراح مخبول سيعلمنا ألا ننخدع بوهم الثبات».» من قصيدة «تحولات الرجل العادي». ***** أنا أعتقد أن الشعر يختار، وأحياناً دون إدراك ، وهذا يعني أن للشعر موقعاً خاصاً تصل إليه بشروط معينة، تدفعك إليها تجربتك الحياتية. وأنا جاءني الشعر مبكراً منذ كنت صغيراً، وكان كالضربة التي مازلت أسترجعها حتى في هذا الزمن المتأخر، كلما حاولت أن أكتب قصيدة. وفي مفهومي أن الشعر نوع من السحر الذي من الممكن أن يغير حياتك كاملة، كما قصد ذلك «ريلكة» في قصيدة له عندما قال «عليك الآن أن تغير حياتك». ***** طموحي دائماً وأبداً، هو أن أجعل القارئ يمسح وعيه السابق، كما قد يمسح شريط مسجلة، ويبدأ من البياض، لذلك أطمح طموحاً خرافياً أن يقرأني قارئ واحد بهذه الطريقة، أن يتلقى القصيدة كأنه يقرأ أول قصيدة في حياته، ولكن هذا طموح شديد الطمع وغير واقعي. ****** عندما يدخل الشاعر عالمه الحقيقي فهو بالضرورة يحمل على كتفيه جميع أثقال البشرية، إنه لا يتقمص الآخرين وحسب، بل يسرق ألسنتهم ويتعلم لغتهم المشتركة، يتقبل أمراضهم لأنه في الحقيقة يريد أن يشفي. إنه طبيب من نوع آخر.. مشعوذ قليلاً ولكنه معذور لأنه يحاول المستحيل. ***** فائدة الشعر فائدة كبيرة ومذهلة، فلا ادعاء بإنقاذ المجتمع، ولا أية فخفخة ثقافية أن الشاعر نوع من الرسول الاجتماعي، وإنما هو جسر إلى الخلاص الشخصي، وإذا حدث ذلك بشكل صادق، فالخلاص اجتماعي أيضاً، لأن الشاعر نواة المجتمع، إنه لب الإنسان. ****** الشاعر نباش لا في مزبلة بل في كومة هائلة، أو في هرم هائل من الوقائع. إنه لايفرط بها، لأنه يدري أن هناك إمكانية للعثور في تلك الكومة الهائلة على دبوس ذهبي، أو على لؤلؤة صغيرة، وربما ولم لا يكون طموحاً على بضع كلمات. ******* أعتقد أن على الفعل الشعري في النهاية، أن ينطوي على نوع من الخطر، والمجازفة، أي أن تطل على الهاوية أحياناً. لا أقول أن تقفز إليها كما فعل «أرتو « وآخرون، وإنما أن تعرف ماذا هناك؟ نعم! رحلات كبيرة وشاسعة وكلها على أرض الواقع تنعكس في النهاية في التركيبة الخيالية، وفي تركيب المخيلة ذاتها. ومما لاشك فيه أن هذه المسائل تنعكس في شعري. ******* أؤمن بما قاله «هوراس» قبل ألف سنة إن الشاعر ينبغي أن ينتظر عشر سنوات قبل أن يفكر بنشر قصيدته، لذلك أحاول أن أنتظر.. اكتشفت في التجربة أنهم على حق. إنك كلما تركت القصيدة وحدها بدأت لديك أشياء نسيت أن تذكرها، أو أشياء نسيت أن تستخدمها. ****** الحداثة مسألة شائكة، إنها ليست مسألة غرب أو شرق، إنها مسألة إنسانية، فنية، غريزية تقريباً، إلا أنك تقف إزاء عصرك، غريزياً، موقفاً معيناً، وهذا هو (نواة) الحداثة. ***** أنا لا أوافق النقاد العرب، لأنهم ما زالوا يسيئون فهم القصيدة العربية الحديثة، لأن الشكل بالنسبة إليهم هي (الحداثة الاجتماعية)، (حداثة المفهوم) وليست حداثة (التقنية الشعرية) التي تغير (المفهوم) وتمحقه بشكل حقيقي. ***** الشاعر لايمكن أن يكون «حديثاً» بمجرد أنه «قلد قصيدة مترجمة»، وهذا مايحدث لدينا الآن، هذه نكتة تدل على «فقر ثقافي عجائبي» سائد بيننا، لذلك نجد كل هذا التخبط، أن الحداثة جرأة، فكيف يمكننا أن نكون حديثيين بينما مخيلتنا مقيدة، لذا فإذا أردت أن تكون حديثاً، فعليك أن تتخلص من القيود التي تحميك من نفسك. ******* لاتصدق الجرائد ولا المهرجانات، صدق ما يحدث في الشعر عند قلة من الشعراء. لاتصدق أن هناك جمهرة من الشعراء سيحملون لواء الشعر إلى بر الأمان. ففي كل عصر هناك شاعر، أو شاعران أو ثلاثة لا أكثر، لهم الأهمية سواء كانوا من شعراء التفعيلة أو غير التفعيلة. ****** أعتقد أن قصيدة النثر انتصرت منذ زمان، لكنه انتصار غير مسجل تاريخياً، لأن الموظفين المسؤولين عن كتابة التسجيل هم رهط من الذين لا يفهمون أن انتصار الشكل الجديد، هو انتصار للغة العربية، وطبعاً لكي يفهموا ذلك عليهم أن يكونوا حديثيين. *** النقد نوع من الجسر بين الشاعر والقراء، لكنه لا يستطيع أبداً أن يصل إلى جوهر العملية الشعرية، وحتى الشاعر نفسه لا يمكنه أن يعبر عن هذه العملية إلا أن يكتب قصيدة أخرى. *** هناك شعراء وقصائد تغيبوا عن الوعي البشري لسنوات وأجيال لمئات وآلاف السنين، ثم تكتشف لسبب ما، لأنها تلمس وتراً خاصاً في تلك المرحلة، لذلك هناك شعراء يكتبون لعصر آخر، أو ربما يكتبون لعصرهم لكنهم سيلمسون قلب عصر آخر. *** المعرفة الشعرية تختلف عن المعرفة العلمية أو الأثرية. المعرفة الشعرية مرتبطة إنسانياً بالتعبير عن مسيرة تاريخنا، مسيرة لفظية على مستوى الأعماق، وليس المسيرة فوق الأرض. *** اللغة هي الكلُّ. عالم كامل: السابق والآتي. القاموس، هذا الشيء الغريب، يحتوي كل شيء في حالة موات في حالة سبات، يأتي الشاعر ليوقظه، برفسة إن احتاج الأمر. هناك مصطلح اللغة الأم، فعلاً اللغة أم غريبة أم قاسية، والشاعر يحاول أن يذكرها ببعض الحنان. العلاقة بين الشاعر واللغة مختلفة عن علاقة الآخرين بها. إنها علاقة مثيرة يمكن له بواسطتها أن يفجر العالم. *** من هو الناقد؟ إن لم يدرك أنه جاء لينقد الوضع لا ليكون منه، فعليه السلام. *** الشعر نفسه لا يمكن عقلنته بشكل ثابت، ومن هنا تأتي الوثبات الشعرية. إنه عالم اللا يقين، حسب مفهوم «هايزنبرغ» في «فيزياء الكوانتوم» تقول الفيزياء الحديثة إن الوقع الإنساني في الكون نوع من «المرصد»، وما من شيء له وجود ثابت من دون الكائن، الذي يقف في ذلك المرصد ويسمي الأشياء بأسمائها. الشاعر هو الراصد، وقصيدته هي المرصد، والكون أمامه. *** إن المتطفلين على شجرة الشعر كثر، ما أكثرهم! وما أقل الأصوات الأصيلة التي تكاد تضيع أحياناً في ضجيج جعجعة المتصيدين لبارقة هنا وأخرى هناك تقنعهم بأنهم حقاً جزء من الشعر. هناك القليل من الشعراء، القليل جداً، ممن يعملون بصمت، ولا يحتاجون إلى الكثير من التصفيق. *** لن يكون بوسع أحد أن يحرر الشاعر غير شعره، ومدى تحمله لمسؤوليات تطويره ودفعه الى الإمام. فهو إذ يحرر نفسه، سيحرر القارئ بالضرورة، ولكنه لن يفعل هذا إلا إذا كان نفسه هو، وليس أحداً آخر. *** الشعر ليس عاماً. الشعر عملية خاصة ومتميزة، وانتحارية من حيث الذهاب إلى نهاية النفق. والنفق هو اللغة التي لايستوعبها أي قاموس. *** يختار الإنسان أن يكون شاعراً لشيئين: إما أنه مجنون أو قديس، وأنا متأكد أنه ليس.. قديساً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©