الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لعبة السيطرة والإبداع

لعبة السيطرة والإبداع
14 ديسمبر 2016 20:23
إيمان محمد توحي الفورة الحالية في الأدوات والوسائل الرقمية والافتراضية التي تجتاح الفعل الإنساني اليومي، أن التكنولوجيا أصبحت تسيطر على مفاصل الحياة بما فيها التعبير الإنساني، بدءاً من المحادثات البسيطة وامتداداً إلى الإبداع الذي يمثل ذروة التعبير والمكاشفة عن المكنون الذاتي والمنظور الفلسفي. خلقت هذه الفورة علاقات وروابط بين ما هو بشري والتكنولوجيا، وهي امتداد لتلك العلاقة الغامضة التي تطورت عن ابتكار الإنسان للآلة أو الأداة، غير أن التكنولوجيا الحديثة لها سطوة أكثر وقعاً، وتحديداً في مجال الاتصال، إذ توفر أدوات التعبير الرقمية والافتراضية نظاماً معقداً من التتبع والرقابة والتحرر في نفس الوقت، وهي علاقة لم تعد تنحصر في يوميات البشر، بل طالت أيضاً أساليب تعبير الفنانين، خاصة من يعتمد البرمجة أو التكنولوجيا بمختلف أطيافها لاسيما في المدرسة المفاهيمية. هذا الأثر المتبادل بين ما هو بشري والتكنولوجيا نجده مطروحاً بعمق في معرض «الخيوط الخفية: التكنولوجيا ومفارقاتها» المقام حالياً في رواق الفن في جامعة نيويورك أبوظبي، فأعمال 15 فناناً عالمياً تستكشف أبعاد علاقة متذبذبة بين الهيمنة البشرية وهيمنة النظام التكنولوجي الذي يبنيه، إذ يطرح هؤلاء الفنانون مواضيع العزلة والتواصل، والخصوصية والانكشاف عبر المفاهيم الجديدة التي أفرزتها عوالم التواصل الاجتماعي الافتراضية، والمعرض يستمد اسمه من الخيوط التي تحرك الدمى على المسرح، وتتحكم بها يد بشرية غير مرئية، وهي نفس اليد التي ابتكرت الدمى والرواية المحكية على المسرح، إلا أن بعض مفاصل العلاقة بين الإنسان والآلة تبدو فيها التكنولوجيا هي المسيطرة. الآلة أم الفرد ولعل عمل «اللاعب المجهول» للفنان آرام بارثول المولود في ألمانيا يعكس مدى الاستغراق الذي قد يقع فيه الإنسان في تعامله مع التكنولوجيا، فالعمل عبارة عن ستة فيديوهات معروضة على أجهزة هاتف ذكية، صورها الفنان لأشخاص مسافرين معه يلعبون ألعاباً إلكترونية على هواتفهم من دون وعي بما يحيط بهم، حتى أنهم لم يشعروا بالفنان الذي صورهم علناً ومن مسافة قريبة قد لا تتعدى الذراع، مثيراً جدلية السيطرة: الآلة أم الفرد. وهذه الجدلية نجدها معكوسة في عمل الفنان الأميركي سيبرن فيرستيج الذي يحمل عنوان «مِثل» أو like، والذي يحاول رصد تقليد التكنولوجيا للفعل الإنساني، عبر تصميم الفنان معادلة حسابية «خوارزمية» تمكن جهاز الحاسوب من الرسم بنفسه، فتظهر أشكال عشوائية على يسار شاشة عرض، تُفعِّل تلقائياً محرك البحث جوجل لإيجاد صور تطابق الرسم وتعرض على يمين الشاشة، هنا الإنتاج الفني متروك لبرمجة حسابية تحدد الرؤية الفنية وبرمجة أخرى توجد ما يطابقها، في إشارة إلى تحرر محرك البحث الأشهر على الإنترنت وغياب الرقابة على الصور. جاءت فكرة المعرض من سلسلة نقاشات بين قيمي المعرض، الفنان سكوت فيتزجيرالد رئيس الإعلام التفاعلي في جامعة نيويورك، وبانه قطان القيمة الفنية في رواق الفن في الجامعة، إذ انطلقت الحوارات من «ملاحظة التوتر الذي يصيبنا عندما لا تعمل التكنولوجيا كما نريدها، وكيف أننا نسلم أنفسنا إليها»، كما أوضح فيتزجيرالد لـ«الاتحاد الثقافي»، واعتبر أن التكنولوجيا لا تسيطر علينا بالضرورة «من منظور موسع كل ما نستخدمه يدخل في إطار التكنولوجيا، مثل النظارة مثلاً، غير أن المعرض يركز على مواضيع تتعلق بالتكنولوجيا الرقمية التي أصبح استخدامها حتمياً في يومياتنا خلال الـ15 عاماً الأخيرة.. وباعتباري فناناً يستخدم التكنولوجيا في أعمالي، أرى أنها وسيط لتنفيذ العمل، فالتكنولوجيا تصبح مثيرة عند تطبيقها من أجل استخدام التكنولوجيا نفسها، وأعتقد أن الفنان سيجد طريقة دائماً ليسيء استخدام شيء لصالحه، وقد رأينا الكثير من ذلك، ويبقى أنها ليست أسلوباً تقليدياً للتعبير الفني، بل أعتقد أنها طريقة لتحسينه أو تعزيزه.. ولا أعتقد أن هذه الأدوات تحطم الأشياء المعتادة، فهناك تغير في الطبيعة التي نقارب بها الفن، والكثير من هذه الأعمال مفاهيمية من ناحية أنها مبتكرة وتجعلنا نفكر بطريقة نقدية لكيفية استخدامنا للتكنولوجيا». تكنولوجيا قديمة في هذا الإطار يمكن فهم عمل «بكسلس» أو Pixels للفنان تيسير بطنيجي المولود في غزة، وهو سلسلة من خمسة صور لرجال معصوبي الأعين مأخوذة من كاميرات المراقبة، منفذ بقلم رصاص على الورق البياني ذي المربعات الصغيرة، والذي يشكل صوراً ضعيفة في مقاربة لصورة فلسطين المشوشة في القرن الـ21 للمراقب، هنا التكنولوجيا تفشل في كشف التفاصيل الإنسانية مع أنها توفر دفقاً فورياً للمعلومات، وتعلق بانه قطان على ذلك بقولها: «من المهم تذكر أن الرصاص على الورق هو تكنولوجيا أيضاً، فالفنان يستخدم أحد أقدم أنواع التكنولوجيات ليتحدث عن قضية معاصرة، وهذه أحد الأعمال التي تربط بين مختلف أنواع التكنولوجيات». وتضيف: «الأدوات هي المفتاح للمعرض، فالتكنولوجيا أداة يستخدمها الفنان مثل الكانفاس.. هي مجرد عناصر جديدة أضيفت إلى الفن الحديث، وهي لا تُغيب مبادئ الجمال التي نعرفها، فأعمال فيرستيج مثلاً الناتجة عن الخوارزمية يمكن النظر إليها كتجريد كامل، وهذا مفهوم موجود في تاريخ الفن، وبهذه الطريقة هو ليس جديداً من ناحية تعليقه على الفن المعتاد، وفي نفس الوقت هو جميل لكنه يعبر عن منحى جديد في الفن». تاريخ التيار يحاول المعرض أن يقدم دراسة تاريخية لبدء التيار الفني المتأثر بالتكنولوجيا، فيعرض عمل الفنان الأميركي مايكل واكين جراي الذي يحمل اسم «سبوتنك الخاص بي»، وسبوتنك هو أول قمر صناعي أطلقه الإنسان ليفتح الطريق أمام عصر المعلومات، صنع الفنان العمل يدوياً بدقة تماثل التفاصيل الأصلية للقمر الصناعي، ورأى منظمو المعرض وضعه في وسط المعرض ليمثل نقطة لبداية السرد الفني لثيمة المعرض المتمركزة على المخفي والظاهر. السلوك البشري كثير من الأعمال المعروضة في المعرض ترصد السلوك البشري عند استخدام التكنولوجيا وفي نفس الوقت توظف العلوم فيها، وترى قطان أنه من دون البشر فإن هذه التكنولوجيا مجرد «أشياء»، فتأثير الفعل الاجتماعي يعطيها قيمة، فهناك أعمال تستكشف فيها التكنولوجيا البشر، وأعمال أخرى تمكننا من رؤية أمور لا يمكننا أن نراها من دون التكنولوجيا، مثل عمل «ثريا واحدة لأحد الاحتمالات اللانهائية» للأميركي فيليب ستيرنز الذي يرينا الإشعاعات التي تحيط بنا، إذ ربط الفنان 29 مصباحاً لثريات معلقة في غرفة مظلمة بعدادات جيجر التي تقيس الانبعاثات المشعة، وعند الكشف عن نشاط إشعاعي طبيعي تومض الأضواء وتحدث نقراً، وإن كان الفنان قد استوحى العمل من كارثة مفاعل فوكوشيما الناتج عن خطأ بشري، إلا أن العمل يكشف عن عالم غير مرئي ناتج بشكل طبيعي ويحدث في كل مكان. وفي عمل آخر يكشف عن خبايا الذات البشرية، يقدم الفنان جيمي آلن «آلة الكذب»، وهو برنامج لتحليل إجهاد الصوت في تسجيلات المختلفة للسياسيين وهم يقرؤون سيرهم الذاتية، وكأن البرنامج يحاول تحري النوايا غير الواعية عند القراءة، وتقول قطان: «لقد صنعنا التكنولوجيا ولم نخطط لاستخدامها بهذه الطريق، وهو تأثير علينا أن نفكر به». التنبؤ بالمستقبل يرى فيتزجيرالد أن هناك احتمالات لا نهائية عند التقاء الفن بالعلوم، ويذكر كتاب «الفن والفيزياء» الذي وضع في التسعينيات من القرن الماضي، والذي يعطي دلائل على أن الفنان يتنبأ بما يكتشفه العلماء خلال الـ30 عاماً القادمة، ويفككه ويبسطه، ويقول: «أعتقد أن للفنان طريقته في توقع المستقبل والقدرة على معرفة ما سيحدث في الوعي الجماعي والتعبير عنه، الأعمال في المعرض مثل حد قاطع، وأعتقد أنها توسع مما نتوقعه من التكنولوجيا ومن تفاعلنا معها». من بين تلك الأعمال عمل «رؤية للغريب» للأميركية هيذر ديوي - هاغبورغ، والذي شكلت فيه ملامح وجوه من تحليل الحمض النووي المجموع من مخلفات أشخاص عابرين تركوها في أماكن عامة مثل الشعر والعلكة وأعقاب السجائر، وقامت الفنانة بطباعة هذه الأشكال بطابعة ثلاثية الأبعاد تعطي ملامح دقيقة لهؤلاء الغرباء، والمثير في العمل كما تقول قطان أن بعد اختيار العمل قرأت عن نفس التكنولوجيا مطبقة في سنغافورة لإحراج الذين يلقون المهملات في الشارع، «إنه فعلاً عمل من المستقبل» كما تصف. أعمال التكليف قدم «رواق الفن» في جامعة «نيويورك- أبوظبي» منحة لثلاثة فنانين لتقديم أعمال حصرية إلى المعرض، أولها «طيف 2» للكويتية منيرة القديري، وهي نسخ مصغرة من رؤوس التنقيب عن النفط، والملونة بألوان قاتمة قزحية تذكِّر بانعكاسات اللؤلؤ، في مقاربة لزمنين متباينين عاشهما أهل الخليج العربي بين شظف العيش وتدفق الثروات. وسيعود العمل بعد انتهاء المعرض إلى الفنانة المقيمة حالياً في أمستردام. والعمل الثاني «كانتو III» للفنان العراقي وفاء بلال المقيم في الولايات المتحدة، سينتهي إلى التحطم في الغلاف الجوي لدى عودته إلى الأرض، فهو عبارة عن نموذج مصغر من قمر صناعي يحمل تمثالاً مصغراً للرئيس صدام حسين وكاميرا سيلفي، ويخطط الفنان فعلا لإطلاقه إلى الفضاء ونقل الصور الملتقطة مباشرة على موقع إلكتروني، في عمل تهكمي من فكرة الخلود. أما العمل الثالث فهو «تمرير» للفنان إيفان روث، المطبوع بطريقة الفاينل للاستخدام الواحد، وهي إعادة تكوين لبصمة إصبع كبيرة بحجم ثلاثة طوابق في محاكاة للبصمة التي تتركها الأصابع على شاشات الأجهزة المحمولة التي تعمل باللمس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©