الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحيل «العظم».. عرس الظلاميين

رحيل «العظم».. عرس الظلاميين
14 ديسمبر 2016 20:20
نبيل سليمان فجر الاثنين 2016/‏‏‏12/‏‏‏12 بلغ ذروته، عرس الفكر الظلامي، بأسمائه جميعاً: الفكر المذهبي أو الطائفي أو الدوغمائي أو السلطوي أو السياسي أو البعثي أو... وباختصار: كل فكر غير نقدي. برحيل صادق جلال العظم يبلغ هذا العرس ذروته، وهو ما كان قد ابتدأ منذ دهر في بلاد العرب، أقلّه منذ هزيمة 1967، عندما تقدم إلى بلورة ومناجزة أسئلتها ذلك الرعيل من الشباب: صادق جلال العظم، وياسين الحافظ، وإلياس مرقص من سوريا، وأصناؤهم الكثيرون في الفضاء العربي الذي رمته الهزيمة أرضاً، من أمثال عبدالله العروي، وسمير أمين، وهادي العلوي، ونصر حامد أبو زيد و.. وعلى الرغم من أن ما كان يفصل جيلنا عن أولاء الشباب هو سنوات معدودات، فقد كنت ممن تربوا على الكتابات الأولى لهم. وكانت سعادتي، مثل كثيرين من جيلي مضاعفة، عندما ظهر منا من هو بحق رابع أولاء الثلاثة: بو علي ياسين. أمام كتبه الآن، وبعد قرابة نصف قرن، أودّع صادق جلال العظم بأن أقف أمام كتبه في مكتبتي، وأتهجد أمام ما ربّانا عليه من الفكر النقدي، منذ كتابيه اللذين صدرا العام 1969: النقد الذاتي بعد الهزيمة، ونقد الفكر الديني. ولأن فلسطين كانت البوصلة، كما شاء لها ناجي العلي، وكما لم تزل لبعضهم، وأرجو أن أكون منهم، فقد ربّانا صادق جلال العظم في الفكر السياسي بخاصة، وطوال سبعينيات القرن الماضي، على كتبه: دراسات يسارية في فكر المقاومة، الصهيونية والصراع الطبقي، سياسة كارتر، زيارة السادات وبؤس السلام. في ذلك الزمن القريب جداً، البعيد جداً، كانت حياتنا: بو علي ياسين وأنا، مشتبكة حدّ التوحد، رغم مقامه في دمشق ومقامي في الرقة، فحلب، فاللاذقية، التي سيعود إليها بوعلي أيضاً سنة 1978. ولأمر ما، كنا ننظر إلى ثلاثي العظم ومرقص والحافظ من بعيد، ليس باحترام فقط، بل بتهيب أيضاً، حتى أننا لم نلتقِ بإلياس مرقص، الذي كان يقيم في اللاذقية، إلا بعد سنوات. أما صادق فقد كان اللقاء الأول به في بيروت، التي يممت وبوعلي ياسين إليها لشهور، بين نهاية 1978 ومطلع 1979، وكان ياسين الحافظ قد رحل للتو عن ثمانية وأربعين عاماً. ولأسرعْ هنا إلى السؤال عن موته المبكر، ومثله إلياس مرقص الذي توفي العام 1991 عن اثنين وستين عاماً، ثم بوعلي ياسين الذي توفي العام 2000 عن ثمانية وخمسين عاماً، فكأن الفكر النقدي أشفق علينا فترك لنا حارسه صادق جلال العظم حتى 2016/‏‏‏12/‏‏‏12. من أرومة البعث العربي الاشتراكي جاء ياسين الحافظ، ومن بعد بوعلي ياسين، ومن الأرومة الشيوعية جاء إلياس مرقص، أما صادق جلال العظم فقد جاء من أرومة الفلسفة وفي صلبها: الفكر النقدي، وهو ما تعزز في مفردات حياته ومفاصلها الكبرى، إذ انغمس حتى قمة رأسه في الحياة الفكرية والسياسية العربية، وخاض المعركة تلو المعركة، منافحاً ومساجلاً بحرارة وشجاعة، ومانحاً للاختلاف، بل وللصراع، معاني نقيضة لما تفاقم في حياتنا الثقافية والسياسية، وبخاصة منذ زلزلت الأرض زلزالها العام 2011، إذ طغى الاختلاف المدمر، وانتقل الصراع المسلح الوحشي إلى الصراع الفكري، فتخندق مثقفون وأدباء وفنانون، مثلما فعل الساسة، وتمترسوا خلف كل ما لا ينتسب إلى هذا العصر، بل يعود بنا قروناً إلى الوراء. صوت مختلف في العام 1975 قدم صادق جلال العظم كتابه (الصهيونية والصراع الطبقي)، وكانت بوادر التبرؤ من الماركسية النقدية، وليس فقط السوفياتية أو الصينية أو الحزبية بعامة، قد بدأت بالرواج بين ظهرانينا، مثل بوادر الأسلمة، ومثل بوادر إدارة الظهر إلى فلسطين في أعقاب حرب 1973. لكن صادق جلال العظم كان صوتاً مختلفاً، كان صوتاً جذرياً آخر، وهو ما سيؤكده كتابه (دفاعاً عن المادية التاريخية) العام 1987. فلنتذكر هنا أن الكتاب الأول لـ بوعلي ياسين(الثالوث المحرم: دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي) جاء العام 1973. ومنذ ذلك الحين ابتدأ العظم بالبحث في حقول سجالية أخرى، فجاء العام 1975 بكتابه (في الحب والحب العذري)، ليفتح صفحة جديدة في دراسة التراث العربي الإسلامي، معززاً إنجاز الطاهر لبيب في كتابه (سوسيولوجية الغزل العربي – 1974). وما إن فجر إدوار سعيد صاعقته (الاستشراق) حتى أسرع العظم بـ (الاستشراق والاستشراق معكوساً – 1981) وقد عايشت إصدار دار الحداثة لهذا الكتاب في بداية ظهورها. لم يكن للفلسفة حضور بارز مباشر في كتابات العظم (أذكر: دراسات في الفلسفة المعاصرة – 1981)، وهو من مارس تدريسها طويلاً في أرقى الجامعات. لكن الفلسفة ظلت تسري في نسغ تلك الكتابات، بل وفيما أسميه: كتابات العظم الشفوية، وأعني بها أحاديثه ومداخلاته حتى في السهرات العادية، ومنها ما لا أنساه، تلك السهرة التي جمعتني به في واشنطن في منزل منير العكش في أيلول 1995، وكذلك السهرات التي كانت تعقد أيام الندوة التي نظمها قسم الفلسفة في جامعة دمشق، منذ أكثر من عشرين عاماً، فيما أذكر، وكان العظم نجم كل سهرة، ونحن نحف به، ومنا: المفكر المصري الراحل الإسلامي النقدي الجليل خليل عبد الكريم، وأحمد برقاوي، ويوسف سلامة، وفيصل دراج، ووليد إخلاصي. عندما أصدر العظم كتابه (ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب، 1994)، ثم (ما بعد ذهنية التحريم 1997)، ثارت معركة فكرية ونقدية تستبطن من السياسة ما تستبطن، شأن أية معركة ثقافية. ومن ذلك كانت المعركة بين هادي العلوي وصادق جلال العظم. وكان هادي العلوي قد رحل مبكراً العام 1998 عن خمسة وستين عاماً، ومما أورثنا من مؤلفاته النقدية: (فصول من تاريخ الإسلام السياسي - من تاريخ التعذيب في الإسلام – الاغتيال السياسي في الإسلام – شخصيات قلقة في الإسلام)، وكنت في بداية تأسيسي لدار الحوار العام 1982 قد أشرفت على نشر كتابيه: ديوان الهجاء العربي، والمعجم العربي الجديد. كان العظم قد هاجم من رفض رواية رشدي من الكتاب العرب، ومنهم هادي العلوي، الذي كان قد ثمن ما عدّه نجاح رشدي في تروية حدث تاريخي بعينه. لكن العلوي أخذ على رشدي ما عدّه البذاءة الجنسية الموجهة إلى شخصيات تاريخية ضخمة، ومسخه لشخصية سلمان الفارسي، وانتهى من ذلك إلى أن رشدي ضالع في الخطة المبرمجة لتسفيه العرب (مجلة الحرية المحتجبة – 14/‏‏‏3/‏‏‏1993). لقد جعلتني معركة صادق جلال العظم مع هادي العلوي أهديهما الفصل الأول من كتابي (فتنة السرد والنقد – 1994). وعنوان الفصل هو (الأدب والحرام). ومما شغل الفصل أن هادي العلوي، المعروف بعقلانيته الصارمة وبشجاعته في مواجهة القمع، أي قمع، والمعروف كذلك بطهرانيته وبفكره النقدي، لكنه بصدد كتاب رشدي يترك لرجال الدين النظر في التبعة الدينية. وإلى ذلك يحدد مناط اعتراضه بالنيل من شخصية تاريخية يتعلق بها آخرون، عدا عن مسخها، كما في حالة سلمان الفارسي. من عجب أن شبهة حديث المؤامرة تنبق هنا. فهادي العلوي يرى في اختيار سلمان رشدي لأسرتي الرسول وأبي سفيان نقلة من الأدب إلى السياسة (الغرباوية) الموجهة ضد العربي. ودرءاً لاحتمالات أخرى، يقترح هادي غرارات ونماذج من التاريخ الإسلامي، يراها تصلح أكثر من سلمان الفارسي لنقد الدين، لو أن النقد لوجه الله مثل (أمية بن أبي الصلت – النضر بن الحارث..). ومما ساءلت به كتابة هادي: هل ثمة إذن شخصيات تاريخية لا يجوز نقدها؟ الصراع الفكري لقد شهدت هذه المعركة ترحيلاً لمفردات الصراع السياسي إلى الصراع الفكري، وهذا مما أخذه هادي العلوي على العظم، وإذا بالأدب المكشوف الذي كتبه أبو نواس أو بودلير يتحول إلى (عمل عسكري) عندما ينسحب على ساحة الصراع الفكري والسياسي. وكان هادي العلوي قد صنف قصيدة إبراهيم طوقان (البيض الحسان) التي يستشهد بها العظم بالأدب البغائي، كأدب سلمان رشدي، وأكد أنه لو كان مواطناً في دولة فلسطين، إبان نشر تلك القصيدة، لطالب الحكومة بتجريم الشاعر بتهمة القذف المتعمد لشخصية تاريخية مع الإهانة المتوحشة لمشاعر مليون إنسان، وعدّ هذا الأدب «أدب سياسي ومغرض وطائفي وعدواني... ومن يترنم بهذه القصيدة فهو عديم الشرف وساقط ليس أخلاقياً فقط بل وسياسيا، وقبل ذلك ثقافياً وفكرياً.. وهذا الأدب لا علاقة له بأدب الجاحظ أو أبو حيان... هذاك فن، وهذا سياسة». وكانت ثائرة هادي العلوي قد ثارت منذ بلغ دعوة صادق جلال العظم إلى رمي تاريخ الشرق في المزبلة مع النفايات الخطرة. إذا كان كل هذا العنف الكلامي يصدر عن مفكر نقدي وصوفي مثل هادي العلوي، فهذا العنف يكاد يطبق على أجناب حياتنا الروحية والثقافية والاجتماعية والسياسية جميعاً، بل إنه تسلل حتى إلى الرواية في السنوات الأخيرة، فبات أمرنا، كما في السياسة، إقصاءً وتخويناً ونفاقاً إما مع الرايات السود وإما مع الأنظمة الديكتاتورية. وفي حمأة كل ذلك، ها هو صادق جلال العظم يرحل، وها هو عرس الفكر الظلامي الحاكم والمعارض يكاد ينفرد بنا، فماذا نحن فاعلون؟ كتابات «العظم» الشفوية لم يكن للفلسفة حضور بارز مباشر في كتابات العظم (أذكر: دراسات في الفلسفة المعاصرة – 1981)، وهو من مارس تدريسها طويلاً في أرقى الجامعات، لكنها ظلت تسري في نسغ تلك الكتابات، بل وفيما أسميه: كتابات العظم الشفوية، وأعني بها أحاديثه ومداخلاته حتى في السهرات العادية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©