الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عفريت ماكين

عفريت ماكين
14 ديسمبر 2016 20:19
حنا عبود كما يظهر العفريت من القمقم، وكما تظهر سيدة البحيرة، وكما يخرج الجني من الجدار فجأة، كذلك قفز اسم ماكين إلى الأذهان فجأة. فقد قرأه صديق في دليل الهاتف الأميركي، ولم نكن نسمع بهذا الاسم من قبل، ولم تكن الإنترنت وقتها قد ظهرت. كان صديقنا يبحث عن اسم معمل فقرأ بالمصادفة هذا الاسم. فطالبناه أن يتصل به فإن لم يكن المطلوب فقد يرشد إلى المطلوب. واتصل الرجل فكان الجواب أن دليلكم قديم جداً فهذا رقم جمعية أدبية سميت باسم الروائي البريطاني ماكين، أنشئت في أميركا بعد وفاته بعام وانتهت في أوائل الستينات... هكذا ظهر ماكين أمامنا فجأة من عالم مجهول، أردنا الإمساك به فأمسك بنا، كما جرى مع فيفيان وميرلين. ورحنا نبحث عنه، إلى أن اجتمعنا بأستاذ في جامعة كاليفورنيا يدرّس اللغات الشرقية، فأخبرنا القليل عن هذا الروائي، حسب ما سمحت الجلسة، ومنذ ذلك الوقت وحتى وقت طويل رحنا نبحث كل يوم عن آثار «آرثر ماكين». عاش أرث ماكين بين 1863- 1947 وهو بريطاني من ويلز. وبعد وفاته بعام واحد تأسست «جمعية أرثر ماكين» في الولايات المتحدة، وانتهت في الستينات. وتأخرت بريطانيا في الاهتمام بهذا الكاتب، إذ تأسست العام 1998 جمعية «أرثر ماكين» ومارست نشاطاً مرموقاً إلى أن حلت محلها جمعية «أصدقاء أرثر ماكين» التي وسّعت دائرة اهتمامها، وعنيت أكثر بمؤلفات هذا الروائي الكبير. وتساعد هذه الجمعية كل من يقدم بحثاً عن الفقيد الراحل، سواء المؤلفات أو السيرة الذاتية، وتسعى أن تحصل له على معونة من الدولة. ولم تكتف هذه الجمعية بالاهتمام بمؤلفاته، بل أيضاً صارت تهتم بالأحداث التي وقعت في حياته والتي له دور فيها. ولهذا الغرض أنشأت صحيفتين: الفونس Faunus (وهو الإله الرعوي الروماني الذي يقابل إله الغابات بان Pan) والماكيناليا Machenalia (نسبة إلى اسمه machen). الأولى تختص بآثاره الأدبية، ومعظمها في الرواية، والثانية تهتم بحياته أو الأحداث الكبرى التي كان له دور فيها، وبذلك تكون الجمعية قد غطت الناحيتين: النشاط الأدبي من جهة، والنشاط الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى. النظرة الأدبية لماكين عندما قفز ماكين من عالم المجهول، صرنا نتقصى آثاره ونتحرى أخباره، ونحن نلوم أنفسنا على الأوضاع التي سمحت للولايات المتحدة أن تقيم جمعية باسم ماكين، ولم تسمح لهذا الاسم، الاسم فقط، أن يصل إلى مسامعنا إلا مؤخراً. ولا حاجة إلى عرض شريط حياته، ولكن ما أحوجنا إلى عرض نظرته الأدبية، فهي مفيدة جداً للروائيين والنقاد والأدباء... وللشعراء أيضاً، كما أنها مفتاح مؤلفاته كلها. بغض النظر عن تأثير نظرة أبيه الدينية أو نظرة أمه، أو حتى نظرته الدينية، ظهرت عقيدة ماكين الأدبية كأنها مستقلة عن كل شيء ولا ترتبط إلا بالأدب والإبداع الفني. وبما أن المجال محدود أمامنا فسوف نقتصر على النقاط التالية من نظرة ماكين الأدبية: أ- هناك عالم مجهول. أنت لا تؤمن به، أنت حرّ، ولكنه موجود، فكل ما لا إجابة عنه يقع ضمن هذا العالم الهائل الذي اسمه المجهول. تريد أن تسميه عالم الغيب، عالم الأسرار، عالم الغموض، عالم الخفاء؟ لا بأس، فليكن، ولكنه مجهول. يقابله بالطبع عالم واقعي، هو العالم الذي نتعامل معه. ب- عالم الغيب هذا عالم عجيب غريب، يظل مطوياً ومجهولاً، وفي حال تكشف أمره، أو بعض أمره فإنه يؤدي إلى الجنون أو العهر أو الموت. أنه أشبه بالتيار الكهربائي العالي التوتر، يصعق كل من يدخل ساحته. وإذا أراد المرء استرداد عقله فعليه أن يغرق في الواقع، في المشاغل الواقعية فقط. حاول أن تحل، مثلاً، مشكلة الخلق والتكوين، تجد أنها مشكلة عويصة، فإن أسندت الخلق إلى الطبيعة سئلت عمن خلقها؟ فإذا استعنت بأفلاطون وقلت خلقها الديمرجوس، سألك سائل والديمرجوس من خلقه، وهكذا، مثل الدوّامة، تدور وأنت في مكانك... ولا تظن أننا أتينا بمسألة الخلق والتكوين لأنها مسألة كبرى، فمسألة البيضة والدجاجة تنتهي إلى ما انتهى إليه الحوار السابق. هذا العالم الماورائي هو الذي يقصده ماكين. ج- هذا العالم هو العالم الحقيقي للأدب والأديب، لأنك فيه تتمتع بكامل حريتك، فيصير عمل التفكيك والتركيب سهلاً ويمكنك الوصول إلى غايتك الفنية، بمزيد من التشويق للقارئ. والسبب؟ السبب أنك تتعامل مع «أسرار» وهذا ما يجعل قلب القارئ يتحرق. اكتب عن الواقع تبذل جهداً كبيراً، ولا تصل إلى الغاية الفنية التي يقدمها لك العالم الغيبي. باختصار هذا العالم الغيبي هو الخيال البشري، أو هو الهامش الأكبر للخيال البشري. وفي الخيال البشري يكون القلم أكثر حرية بكثير من عالم الواقع المربك جداً. ولا يعني هذا الانفصال عن الواقع، بل يعني رؤيته رؤية أدبية، أي السير بالواقع على تخوم عالم الأسرار، فيبدو الواقعي خيالياً والخيالي واقعياً. قصد ماكين ألا يفصل الأديب بين العالمين، وهو يعتقد أن المرء بدأ يفكر بخياله قبل واقعه، ولذلك تحدث عن السماء والخلق قبل أن يتحدث عن الأرض التي هو فيها. د- التربية الأدبية ضرورية، وتكون من كل العصور، ومن كل آداب العالم، من دون أي استثناء، ولكن العصور الوسطى قدمت من الآثار ما يجعلها الأنسب والأخصب والأرفع في هذا المجال، فكلها رومانسات وليجندات وروايات تقتحم عالم الغيب. لا توجد شخصية روائية في هذه العصور لم يدفع بها مؤلفها إلى تخوم عالم الغيب، مثل رومانسة السانغريل. هل تظن الملك آرثر صنيعة الواقع؟ هل تظن ليجندات شارلمان تطابق ما جرى في عهد شارلمان؟ إن ماكين يعتقد أن الرواية القوطية هي الرواية الحديثة، وهي أيضاً الرواية الملهمة. وأصل هذه الرواية يعود إلى الحكايات الشعبية التي لا مؤلف لها. استخدمها الأدباء وأعادوا صياغتها. ه- كل ما يقع تحت معرفتك أدخله في عالم الخيال، وإلا أفقدت الأدب ما يعتبره ماكين جوهره. خذ العلم مثلاً، إنه مضحك. إنه يكشف لك ولكنه لا يقدم أي جديد إلى الواقع. والمأساة أنه يستغل صناعياً فيكون مادة للإتجار، على العكس مما توقعه المستقبليون الإيطاليون والروس. والعلم أحد الأقانيم الأربعة التي كان يحتقرها ماكين: العلم والمادية والتجارة والبيوريتانية. و- كل هذا من أجل تحقيق النشوة والتوقير والجمال والدهشة والرعب والسرانية والخشية... وكل هذا- يقول ماكين- نجده في كلمة واحدة هي ecstasy وتعني الغبطة، أو تعني شيئاً أكثر من ذلك في تقدير ماكين، إنها نوع من الاستيلاء على كيان القارئ، فيهزه ويحدث فيه نوعاً من الإنعاش، كأنه مصلٍ في المواكب الإيليزية قبل ثلاثة آلاف سنة. وهذه الغبطة لا تحدث إلا في هذا النوع من الأدب السرّاني occult أو السحري أو الخفي أو الغامض، الذي يمسك بالقارئ ولا يجعل القارئ يمسك به. مؤلفاته كثيرة منها «حولية كليمندي» وهي مجموعة قصص، و«الإله الكبير بان» و«الضوء العميق» و«الأهرام المشعشع» و«النصابون الثلاثة» و«جبل الأحلام» و«الشعب الأبيض» والكثير من القصص والروايات والمقالات والنقد والتقارير الصحفية والسيرة الذاتية... ولم يتيسر لنا سوى قراءة «الإله الكبير بان» لأننا قرأنا عنها أنها أعظم قصة رعب في الأدب الإنكليزي. ولكن الرعب الذي يعتمده ماكين هنا ليس الرعب العادي، فيمكن لأي كاتب أن يركب من الأشياء الواقعة ما يجعل القارئ يصاب بالرعب. الرعب الذي يقصده ماكين هو ذلك الرعب الذي يبقى في القارئ حتى بعد أن ينتهي من قراءة الرواية. إنه الرعب القادم من العالم فوق الطبيعي supernatural (وهذا ما يميزه من الرواية القوطية في العصور الوسطى وعصر النهضة) الذي لا يكتفي ببث الخوف، بل أيضاً يجعلك تحمله معك لأنه يجعلك في حالة الغبطة التي سببها جعل القارئ يقف على التخم الفاصل بين عالم الواقع وعالم الإبهام والظلال وأدوات ورشة صناعة أنواع الخيال. ووقوفك ليس وقوف إرادة، بل وقوف ريادة تصل إلى هذا الحد ولا تستطيع تجاوزه، تتمنى اجتياز التخم، ولكن ماكين يحذرك بالثالوث المهلك الذي ينتظرك إذا انفتح لك هذا العالم: الجنون أو العهر أو الموت. فضيحة مدن الظلام لا نبغي مما سبق تقديم معلومات، ولا الاعتراف بجهلنا أدب هذا الكاتب أو ذاك، فما أكثر ما نجهل من أعلام الأدب! بل نريد إبلاغ القارئ أسفنا لتخلف الثقافة الأدبية في العالم الثالث. ولم يكن العرب، وهم من الشعوب الثالثية، مقصرين في الثقافة، فيكفيهم فخراً أنهم نقلوا علوم اليونان وفلسفتهم إلى الغرب، ولا نظن أن نسبة العبقرية الثابتة في كل الشعوب (1 بالمليون) قد تغيّرت في هذه الأيام، إنها هي ذاتها، لكن العبقرية الثالثية تظهر في البلاد الإفرنجية ولا تظهر في الوطن. إنه موضوع قديم جديد، كرره الكتاب والمفكرون كثيراً. واليوم نلاحظ أن الثقافة التي كانت متقدمة في بعض البلدان العربية المبتلاة بالعسكرتارية، أخذت تتراجع، وتصبح نزقة، تتوخى الانفعالات والعواطف والأهواء، ولا تسير على السكة الصحيحة، لأنها تقابل الجريمة بجريمة. أما ثقافة الدول التي لم تبتل بهذا السرطان فإنها مستريحة وتتنامى وتتطوّر وتتنوّع. والسبب- كما نعتقد- يعود إلى قوة «المجتمع المدني» فما دام النظام يسمح بقيام مجتمع مدني فإن الثقافة تنمو نمواً طبيعياً، فنعرف ماكين في حينه وغير ماكين أيضاً. هذا المجتمع المدني نما كثيراً في البلدان الليبرالية، حتى أننا عرفنا أن هناك جمعية للمعري وأخرى للخيام... ويمكن اتخاذ لبنان مثالاً، حيث نشط فيه المجتمع المدني جداً فتجد دور النشر أكثر من بلابل الربيع وتجد الجمعيات من مختلف الأنواع، حتى أن أسرة أي شخص مشهور في الأدب أو السياسة أو شغل منصباً رفيعاً تنشئ باسمه مؤسسة أو تنفق على جمعية أدبية تحمل اسمه، أمثال الياس الهراوي والياس سكاف وجبران تويني والرئيس المغدور رينيه معوّض... والنشاط الأدبي من أهم الأنشطة التي تقوم بها هذه المؤسسات، وكذلك المؤسسات الأخرى، ففي كل عام تقدم المؤسسة جوائزها للبارزين في العلم والأدب والشعر والفن. ومؤسسة جبران صار لها متحف ومكتبة ونشاط سنوي. هذا المجتمع المدني لا يمكن أن ينمو في ظل أنظمة طواغيت العسكرتارية. سألنا في الولايات المتحدة عن تمويل هذه الجمعية الأدبية أو تلك، فعرفنا أن الدولة مجبرة بموجب القانون (بند «حق المواطن في السعادة»- بالطبع تكون السعادة في المعنويات وليس في الماديات) أن تدفع كل نفقات هذه الجمعية... طبعاً كل شيء بحسابه، فإن حدث شيء من التقصير امتنعت الدولة عن المساعدة ولكنها لا تمنع المؤسسة من النشاط. الشرط الوحيد المطلوب ألا تكون جمعية ربحية، مشاركة في السوق الاقتصادي. كما عرفنا أن المؤسسات الخاصة، الصناعية والتجارية الكبيرة، تقدم الكثير من المساعدات لهذه الجمعيات، مما يفيض في بعض الأحيان عن حاجتها ويغنيها عن مساعدة الدولة، فتقوم الجمعية بشراء الكتب الأدبية وتوزيعها على المدارس، حتى ينتقي كل طالب الكتب التي تناسب هواه وميوله... ولهذا نجد بعض أصدقائنا ينفرون من مقاييس التقدم المادي، ويكتفون فقط بمقياس واحد هو «المجتمع المدني». هذا المجتمع ذاكرة جيدة لكل ما هو نبيل وجميل ورائع. ففي حين أهملت الموسوعات (عدا البريطانية) اسم ماكين، تمسك به المجتمع المدني، وروّج له، ولا تزال جمعيات باسمه في بلاد الإنكليز حتى هذه الأيام. بلاء العسكريتاريا الثقافة التي كانت متقدمة في بعض البلدان العربية المبتلاة بالعسكريتاريا، أخذت تتراجع، وتصبح نزقة، تتوخى الانفعالات والعواطف والأهواء، ولا تسير على السكة الصحيحة، لأنها تقابل الجريمة بجريمة. أما ثقافة الدول التي لم تبتل بهذا السرطان فإنها مستريحة وتتنامى وتتطوّر وتتنوّع. والسبب يعود إلى قوة «المجتمع المدني» فما دام النظام يسمح بقيام مجتمع مدني فإن الثقافة تنمو نمواً طبيعياً. هذا المجتمع المدني لا يمكن أن ينمو في ظل أنظمة طواغيت العسكريتاريا. حق المواطن في السعادة سألنا في الولايات المتحدة عن تمويل هذه الجمعية الأدبية أو تلك، فعرفنا أن الدولة مجبرة بموجب القانون (بند «حق المواطن في السعادة»- بالطبع تكون السعادة في المعنويات وليس في الماديات) أن تدفع كل نفقات هذه الجمعية. كما عرفنا أن المؤسسات الخاصة، الصناعية والتجارية الكبيرة، تقدم الكثير من المساعدات لهذه الجمعيات، مما يفيض في بعض الأحيان عن حاجتها ويغنيها عن مساعدة الدولة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©