الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طريق النور

طريق النور
14 ديسمبر 2016 20:06
المارية حامد * حل الظلام، أسدل المساء ستاره وساد الهدوء في أرجاء المدينة، لكن أفكاري لم تستكن بعد، فقررت أن أقضي بعض الوقت في مشاهدة التلفاز، ومتابعة ما يحدث هنا وهناك في أرجاء المعمورة... رحت أقلب قنوات التلفزيون كما أقلب صفحات كتاب ممل أو كتاب كتب بلغة غير شيقة أو مبهمة! الأخبار سيئة كالعادة لم يتغير شيء، والبرامج التلفزيونية لا تستحوذ على اهتمامي في الأصل، فمستواها في نظري أقل من عادي... توقفت قليلاً ثم عاودت المشاهدة مرة أخرى لعلني أجد ضالتي، لكن من دون جدوى!!!... بما أنني غير مهتمة لأمر هذا التلفاز العظيم رحت أراقب أفكاري، وخطر لي أن أدون في الحال كل فكرة تمر في بالي... «التغيير» أول كلمة تجلت أمام شاشة فكري، رحت أحللها، أجول في معناها وأنا أتساءل لم «أتت لزيارتي» في هذا المساء الصيفي الهادئ؟ هل لهذه الكلمة علاقة بما شاهدت للتو على التلفاز، فيما أنا مأخوذة بأفكاري؟!... تجلت من جديد كلمة «نعم» على شاشة ذهني «الداخلية»، انساب الهدوء إلى كل كياني، وانتابتني مشاعر من السكينة للحظات. مددت يدي، حملت قلم الرصاص بين أصابعي ووضعت دفتري الصغير أمامي، ثم خفضت صوت التلفاز وأنا أحدث نفسي: «هيا حان موعدك مع الكتابة، سجلي أمامك كل ما يأتيك من تساؤلات وأفكار». أخذت نفساً عميقاً وبدأت «نغمات» أفكاري تراقص قلم الرصاص بين أصابعي، وكانت هذه الكلمات أول الغيث: الحياة إلى تطوّر مستمر فإذا بها تخضع دائماً وأبداً لقانون التجدد والتغيير، بما في ذلك الكرة الأرضية، حيث إن تضاريسها ومناخها في تغيّر دائم، ولكن ماذا عن الإنسان؟ هل يخضع هو أيضاً لقانون التجدد والتغيير؟... أين الإنسان من التطور؟... ما هو مستوى وعي الإنسان في هذا الزمان؟! هل تطور وعيه أم لا؟... وإن لم يحدث التطور المنشود فما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك؟! هل هي أسباب داخلية – فردية، أم هي أسباب خارجية - جماعية؟!!! أم الاثنان معاً... خاصة وأننا في هذه الأيام نعيش تناقضات كثيرة، في عالمنا العربي بشكل خاص وفي العالم بشكل عام... نعيش ثورات خارجية سطحية وثورات داخلية فردية نسبية... الكل يتساءل، والكل لديه علامات استفهام! على سبيل المثال ماذا حل بنا؟ لم هذه الفوضى؟ لم هذا الألم وهذا الضياع؟ ولم هذه الحروب والنزاعات المتزايدة؟. استوقفني صوت الريح من أفكاري فجأة إذ راح يدوي في الخارج، ثم رأيت نوافذ غرفتي الزجاجية رطبة. ذهبت باتجاه باب الشرفة فآتتني رائحة التربة المبللة، كانت حبات المطر تتراقص هنا وهناك على أرضية شرفتي الرخامية، واسترسلت في حديثي مع نفسي قائلة:»كم أحبّ هذه الرائحة، اشتقت إليها، فالمطر شحيح في هذه البقعة من عالمنا العربي!». تذكرت موعدي مع الكتابة فعدت إلى الداخل، وعند اقترابي من مكتبتي استوقفتني فكرة أخرى في الحال، وهي أن أقوم باختيار كتاب من مجموعة كتب الإيزوتيريك ليجيب عن تساؤلاتي فيكون رفيقي في هذا المساء المنعش. ومن بين ما يفوق التسعين كتاباً باللغة العربية اخترت كتاب «محاضرات في الإيزوتيريك - الجزء الثالث»، وعند تصفحي لهذا الكتاب شدني عنوان إحدى المحاضرات وهو «إلى أين نسير؟»، فقمت بقراءة سريعة للمحاضرة، ثم همست قائلة لنفسي:»الموضوع مناسب جداً مع تسلسل أفكاري»، ابتسمت وأنا أستطرد في حديثي مع نفسي:»اختياري لهذا الكتاب الليلة ليس صدفة». يقول المعلم الدكتور جوزيف مجدلاني (مؤسس مركز علوم الإيزوتيريك، الأول من نوعه في لبنان والعالم العربي، ويوقع مؤلفاته بالأحرف الثلاثة الأولى من اسمه، ج ب م)، يقول في الصفحة مئة وسبعة:»التطور هو ناموس الوجود، هدف الخلق، درب الخالق في المخلوق، ودرب المخلوق نحو الخالق... ويستحيل على أي بشري الخروج عن المسار الإلهي، أو مخالفة المشيئة الإلهية، أو معارضة ناموس الوجود. فالإنسان ذرة من الخليقة، ومن الوجود، ومن مشيئة الخلق... بل هو نتيجة مشيئة الخلق، وهدفها بعد تحقيقه! إذا ما القينا نظرة شاملة على البشرية عبر الأزمان والعهود الماضية، نجدها سائرة من نضج إلى ارتقاء، من نمو إلى تطور... على كل صعيد. فالتطور الفكري يجاري التطور التكنولوجي، كذلك التطور الثقافي والحضاري، والطبي والعلمي، إلى ما هنالك... لكن ثمة جانباً واحداً لم يعره الإنسان الاهتمام اللازم لتطويره، ألا وهو التطور الباطني، أو تطوير كيانه الداخلي! تكنولوجيا اليوم قادرة على رصد حركة الكواكب والأجرام السماوية لعدة أعوام مقبلة... لكنها عاجزة عن إدراك ما يحصل في النفس البشرية وفي المشاعر، وفي الباطن الخفي من أمور وتطورات!». وجاء في الصفحة عينها أيضاً: «من منطلق عدم معرفته بذاته يبدو إنسان اليوم أعجز من أن يعلم إلى أن يسير... طالما هو يجهل أمور نفسه! رغما عن ذلك، نجده يسعى نحو التطور من دون أن يعي الحافز وراء ذلك. إنسان اليوم يتطور ويسعى نحو التطور، لأنه يشعر بحاجة إلى التطور، لابل لأن طبيعته الإنسانية تفرض عليه ذلك. فالتطور طبيعة فطرية فطر عليها الإنسان منذ الخلق، من أجل إيصاله إلى حيث يجب أن يصل، إلى مرحلة التكامل الإنساني، إلى المدى البشري بقدراته... ومن ثم العودة إلى الخالق. وهل أعظم تطوراً من الاتحاد بالخالق؟!». انتهى الاستشهاد. ما معنى الحرية؟ عدت إلى حضرة أفكاري مرة أخرى، وبعد دقائق تجلت كلمة «حرية» أمام شاشة ذهني الداخلية، وتذكرت الهتافات الجماعية المطالبة بالحرية وبالتغيير في أكثر من بلد عربي، وراودني سؤال جديد: ما معنى الحرية؟ وهل الحرية حق يمنح؟ وتذكرت أيضاً تلك الوجوه المطالبة بحقوقها وكأنني أشاهد فيلماً سينمائياً، عادت إلى ذهني صورة الشوارع والطرقات الممتلئة بالأجساد البشرية الغاضبة... نعم، المشاعر هي الصفة الغالبة في العالم العربي، أي أنها المحرك والمؤثر الأساس (بشكل عام) في حياة الفرد في مختلف النواحي الاجتماعية، السياسية وغيرها... وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدل على أن الفكر مغيب عامة ويعود ذلك لأسباب عدة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، التربية في المراحل الأولية وطرق التعليم، حيث إن الفكر مقيد والتلقين هو الأسلوب المتبع، إضافة إلى النقص في الابتكار والإبداع الفردي، ناهيكم عن غياب الانفتاح على العمل الجماعي والمشاركة وإبداء الرأي وتقبل الرأي الآخر... زد على ذلك التعلق بالميراث القديم من عادات وتقاليد ومفاهيم لا تتماشى مع التطور الحالي ومع متطلبات الزمن الراهن، لا بل تراها وقد أصبحت عراقيل في حياة الفرد... عدت إلى الكتاب، «محاضرات في الإيزوتيريك - الجزء الثالث»، رفيقي المثالي في هذا المساء الهادئ... داعبت أناملي صفحاته ووقعت عيناي على عنوان آخر استأثر على اهتمامي، ألا وهو، «الحرية إيديولوجية الوعي»، وقد جاء في الصفحة الثالثة والثلاثين منه التالي: «الكل يطالب بالحرية، إنما نادراً ما نرى اثنين يتفقان على مفهوم موحد لها، لأن كل شخص يفهم الحرية من منطلق تفكيره ومفهومه للأمور، وأيضاً من منطلق محيطه وحقل عمله ومستوى ثقافته. يتظاهرون من أجل الحرية، وكأن الحرية كنز ائتمنت عليه الحياة! وهم يطالبون بحصتهم من هذا الكنز... لا بل إن كل فرد يعتبر هذا الكنز حقه الخاص، وعلى الدولة أن ترده له. يطالبون بحرية الفكر، وحرية المرأة، وحرية الإعلام، وحرية التنقل بين البلدان من دون سمات دخول ولا حدود... يطالبون بحرية التصرف، وبالحرية الجنسية، بحرية المعتقد وحرية الرأي والتعبير...إلى ما هنالك من حريات لا تنتهي! والغريب في الأمر أن من يسمع الإنسان العصري يطالب بكل هذه الحريات يعتقد أنه عبد مقيد بأغلال... أو أسير ضمن جدران التقاليد البالية والعقائد المزيفة والرقابة الصارمة... وإن افترضنا جدلاً أن الأمر كذلك، إلى حد ما، لا بد من التساؤل: من تراه كبل الإنسان بتلك القيود وألقاه وراء قضبان المحدودية؟! يكيلون الاتهامات للمجتمع، للتربية العائلية، للتقاليد المتوارثة، أو لنظام الدولة! وإن كان أحد «هؤلاء المتهمين» يفضل الإنسان المقيد على الإنسان الحر، فهل الحياة نفسها تفضل العبودية على الحرية، أو الظلام على النور؟! معاذ أن يكون ذلك! وإلا لما أوجدت الحياة الحرية ولا النور... الإنسان هو نفسه من وضع القيود والأغلال وأقام الجدران والحواجز والسجون حول تفكيره... هو الذي اختلقها بإرادته وأوجدها لنفسه بسبب جهله لمعنى الاستقلالية في الحياة... ومخافة الضياع في خضم الأحداث، بسبب الفوضى التي جعلها طريق حياته! والتاريخ البشري يثبت أن الإنسان هو من وضع التقاليد، هو من توارثها وقيد حياته بها... هو من نص الشرائع، ثم خضع لها... وهو من رسم طريقه وفرض على نفسه أن تسلكها. لم لا يثور الإنسان أولاً على التقاليد البالية وعلى القوانين المهترئة، وعلى كل ما يكبّل وعيه أو لاوعيه، لا فرق؟! ألأنه يخشى التطور والتغيير ورؤية كل جديد؟! لعله يهاب التجدد في حياته. ونراه من جهة أخرى يتشكى ويتظلم من أغلال الكبت وقيود القهر والمذلة والهوان... ويطالب ليس بحرية واحدة بل بحريات عديدة في الوقت نفسه. وهذا ما يدل على مدى التخبط العشوائي في حياته، وعلى استشراء الفوضى وانعدام التنظيم!». ويستطرد الكتاب أيضاً في الصفحة الرابعة والثلاثين عن الحرية إذ يوضح، «الحرية موجودة، وهي حق للإنسان. لكن الحرية من دون تنظيم ذاتي انفلات وعبثية... الحرية من دون استقلالية فردية تخبط نفسي وصراع وثوران في اللاوعي... الحرية دونما مسؤولية فوضى! ولو توافرت هذه النواقص، لأقمنا بنياناً نموذجياً لنظام اجتماعي راق. فحرية الفكر من دون وعي ومسؤولية واستقلالية فردية تؤول إلى فوضى في الرأي، أو مجرد كلام فارغ... والحرية الجنسية من دون وعي ومسؤولية، تصبح عبثية جسدية وشرود عن المبادئ والقيم... وحرية التنقل بين البلدان دونما تنظيم، لهي الفوضى بذاتها، ناهيكم عن فقدان الشعور بالانتماء... وسوى ذلك من معصيات ترتكب باسم الحرية. موجز القول، الحرية يجب أن تترافق مع الوعي – وإلا فمن الأجدر تأجيل المطالبة بالحرية. هذا يعني أنه كلما اكتسب المرء مزيداً من وعي، اتسع مدار وعيه وبالتالي مفهومه للحرية التي يطالب بها. فحرية المتعلم تختلف عن حرية الجاهل، وحرية الشخص الواعي تختلف عن حرية الشخص الغافل... كذلك حرية الحاكم تختلف عن حرية المحكوم. هذا وكلما اتسعت رقعة الحرية، ازدادت المسؤولية الملقاة على عاتق من يتمتع بهذه الحرية!»، انتهى الاستشهاد. حالما انتهيت من قراءة هذه الكلمات، راودتني فكرة وهي أن لكل سؤال جوابا، هنا في الكتاب عينه، فقد سبق أن حصل معي ذلك مرات عدة!. تعجبت لسلاسة ما يحدث معي في هذه الأمسية المميزة، من حيث سلاسة الأفكار، والحلول والإجابات التي تتوارد إلى ذهني على الفور بمساعدة هذا الكتاب القيم الذي اخترته من بين كتب عديدة في مكتبتي!.. ثم عدت إلى تصفح الكتاب عينه من جديد فوجدت في الصفحة السادسة والثلاثين منه التالي في الحرية: «ولأن ما من حرية مطلقة في هذا العالم، إذ كل ما هو تحت الشمس يخضع لقانون النسبية ولنظام السبب والنتيجة... وحيث إن كل شيء نسبي، كذلك الحرية هي نسبية، تتوسع بتوسع الوعي، وتتقلص بتقلصه. فالوعي هو القسطاس الذي بموجبه يستطيع كل شخص اختيار مدى الحرية التي يملكها. أما تلك الحرية المطلقة التي يتغنى بها الشعراء، ويتوق إليها الفلاسفة، ويسعى البحاثة لسبر كنهها... حرية الروح التي ينشدها النساك ويطمح إليها المتدينون، حرية الروح هذه هي ما سيبلغها الإنسان الذي اكتمل بوعيه وتكامل بانسانيته، فصار أهلًا للاستقرار في كنف خالقه. فتلك هي الحرية الكبرى، أسمى مراتب الحرية في المطلق. من هنا نستنتج أن الحرية هي ايديولوجية الوعي... أكانت في نطاقها المحدود أو في مداها اللامحدود...»، انتهى الاستشهاد. كم أنا محظوظة هدر صوت الرعد، فأعادني إلى تساؤلاتي من جديد. جلت بنظري في أنحاء الغرفة كأنني أبحث عن شيء ما! توقفت عن الكتابة، وتأملت شعور السعادة الذي يسري في كياني... وحدّثت نفسي مرّة أخرى قائلة: كم أنا محظوظة بتعرفي إلى علوم الإيزوتيريك، إنها تضيء سماء وعيي منذ أربع سنوات ونيف، وما أزال غارقة في بحر معرفتها الغزيرة المعطاءة والشاملة. دوى صوت الرعد من جديد، نظرت إلى الأفق البعيد من نافذتي فرأيت خيوط الفجر الأولى تنساب في الأجواء تخترق المطر وتكشح العتمة! تفاجأت إذ انقضى الليل وأنا منشغلة في حواري مع نفسي، تمعنت في ضياء هذه الخيوط الآتية من آفاق بعيدة، نظرت إليها وهي تشق طريقها بثبات وهدوء ساحر لا مثيل له... فاذا بها تشكل أمامي لوحة فنية يحار أمامها الفنان مهما علا شأنه وأبدع في فنه، خاصة إن هو أراد أن يجسد هذا الاحتفال الكوني في لوحة فنية فريدة. همست قائلة لنفسي بفرح وانشراح داخليين «هذا النور الآتي من البعيد هو انعكاس نور الوعي فينا»... نعم إنه نور الوعي، الوعي الذي يتواجد في كل إنسان على هذه الكرة الأرضية، متى تفعل هذا الوعي في كل نفس بشرية فسيكون وعي الإنسان مثل هذا الضياء الذي يمخر عباب مساحات الظلمة، ظلمة اللاوعي في النفس البشرية!. عدت بذاكرتي إلى الوراء، إلى اليوم الذي وقعت فيه عيناي على هذا الكنز الثمين، سلسة «كتب الإيزوتيريك»، وتذكرت أيضاً أن الكتاب الأول الذي قرأته من هذه المجموعة كان بعنوان «تعرف إلى وعيك»، ومنذ ذلك الوقت لم يفارقني هذا الكتاب، أحمله معي أينما توجهت... أتصفحه من وقت إلى آخر، أحياناً حين أشتاق إلى تلك الذكرى، وأحياناً أخرى عندما أشعر بحاجة إلى دفعة إلى الأمام تشحذ إرادتي وتجعلني أجتهد أكثر في الطريق الذي اخترته لنفسي في هذه الحياة، ألا وهو طريق التطور والحرية والوعي... طريق النور... ألا بالتطور فلتزدهر أيامي... وبالحرية فلتنتعش نفسي... وبالوعي فلتشرق حياتي... وبهذه الأقانيم الثلاثة مجتمعة، فلتتفتح نفسي على كل مفيد، ولتغتني خبرتي الحياتية بكل ما هو إيجابي وخير، ولتفيض أعماقي بزاد السكينة والنور، ولتنطلق نفسي في أبعاد ذاتي بثقة وثبات وحيوية... نعم إنه الوعى، ولا شيء سواه، طريقي لمعرفة نفسي والترقي في معرفتي لها وصولاً إلى نقائها حيث خلاصها فمنتهاها. ................... * كاتبة إماراتية التطور.. ناموس الوجود
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©