الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فينوس

فينوس
6 يوليو 2011 20:11
الشمس من عليائها تسحب أناملها وتعاني صراع وجودها بين ركام من السحب المكفهرة، الريح تصفق الزوايا بهدير وتيارات وصراعات.. وأنا كنت ألملم شعري المتناثر أمام المرآة.. في محاولة للتصالح مع الذات، وكأني من تلقاء نفسي أحاول أن أخبئه عن الأنظار لما فتحت فينوس الجراح، عن الجمرات ولهيبها. “الطريق سيظلم، الشمس بدأت في الغياب، سأعود لاحقا” إني أبتعد.. كوني قريبة.. أنا ذاهبة إلى.. في الدار، تعود لروحي الطمأنينة، جزء منها تملؤه الرهبة. إني أتقمص الدور وصراع خفي في روحي ولا أشعر بلذة الحياة لكن ما زلت أحيا كبقية الأحياء. أسند رأسي إلى الجدار هزيلة بلا قدمينِ، قد غادرت وأغلقت الباب بعد أن نسيت أن بحة صوتي علقت على مقبضه، ودمعاتي سكبت مع فنجان قهوة بارد مُر ثار الزبد عليه.. لم أعد أطيق البعد عنها، هذه الدنيا لا أعيشها إلا لأجلها فكيف سأتركها وحيدة تمضي.. في هذا الوقت هي تحتاجني وبشدة وأحتاجها. أنصت لصوت.. بكاء.. بكاء قلبي وآخر شذرات قلبها تجثو نحو مسامعي. عندما كانت صغيرة كانوا ينادونها بقولهم إنها قديسة.. قال قائل.. إنها راهبة.. أحدهم لا بل هي إرهابية! ـ لماذا الخوف؟ لماذا يا أمي؟ في كل مرة كنت أوبخها كانت الدموع تثير شفقتي وحنيني، وخوفي عليها من متابعة بعض القنوات.. والمشاهد التي قد تؤثر في عقلها.. وحين لم تعدل عن قرارها ومسيرها، اتهمتها بأنها عاجزة عن تكوين صداقات والتعايش مع الحياة بمفهوم عصري وحضاري، حتى لا توصم بأنها رجعية التفكير... لكن صوتا موغلا في ذاتها وفي ملامحها كان يصرخ إنها من هناك.. ظبية.. عيناها فصيحتان.. جبينها.. سحنتها.. طهرها.. كل شيء يشي بأنها من بلاد الرمال.. أما هنا فهي تتهم بأنها نبت يغذيه الشيطان.. إذن هي حالة حرجة في بلد أجنبي.. ربما هي تدفع ضريبة وجودي وأبيها! هي لا تتقن الشعر، لا تعرف نثر الكلمات، قراءاتها بالألمانية والأخرى بالإنجليزية، هي تسرع الخطوات في اتجاهين: الأول مدرستها والثاني مركز المسجد بواجهته المتواضعة لا يبدو كمسجد فهو امتداد لبناية سكنية تقطنها جاليات عربية مسلمة. إنها فينوس.. دعوة الحب.. والجمال.. شاءت الأقدار ذات يوم أن وقفت أمام طابور طويل فيه أناس يحملون شعارات التسامح.. الحب.. الحوار.. في مقابل لغة الرفض والإقصاء.. ـ منذ ذلك اليوم لم يهنأ لي بال ولا نوم، تصاعدت الشهقات واندفع جسدي المرتعش ارتعاشة الشوق لاحتضان الروح، خرجت مرة أخرى... مندفعة كقطة عمياء.. بدت أزقة المدينة تضيق والشرفات أوصدت مقفلة، جدرانها عارية بشقوقها، بعض الحروف التي كانت عليه فرت هاربة والأخرى أراها تكاد تتسرب من عليه. سرت في ذات الاتجاه وأمام الباب مباشرة أخرجت حجابا نفضت عنه تثاؤب الخزائن ثم ارتديته على عجل. شعرت حينها بقشعريرة تسري في بدني. يارب... في زاوية المركز المحاذي للمسجد وجدتها كانت تجلس جلسة لبقة، بدت كملاك في خطاب مع السماء، الغبش في عيني وأنا أنظر إليها كأني أغوص في مساماتها المشوبة باللون الزهري شفيفة كنسمات الصباح. لم أحزن ولم أفرح، لم أبك ولم أضحك، لم أشح بوجهي عنها ولم أنادها. لم أقل لها أنتِ من رحم مسلمةِ ودم عربي في المهجر، وأنشدتِ النشيد الغربي حاملة علما ما لمست بقاياه أمكِ. يوم ولدت على هذه الأرض الباردة أحتضنتك فشعرت بعطر الأرض المنسية ودفء لغة دهن العود المعتق في جسدك، ومزيج من الحرارة تلك التي جاءت بأهلك من لهيب الاحتلال والحرب. احتضنتك بقوة كأني أخفيك عن أعينهم خلف الضباب، بعيدا حيث لا يجدوننا، مولودة تحملين جواز سفر لا يشبهكِ، يحررك من كل شيء إلا من قيد يلف جبينكِ.. أصداء تترنم بآذان ودقات قلب سكن حب محمد فيه وتبقين مواطنة أجنبية، وليخيم الصمت على الدفاتر... فعلت ذلك لأجلك يا ابنتي. منعت عنك الحجاب كي لا يطعنوكِ بنظراتهم ويحرقوك بألسنتهم، ليصبحوا عاجزين عن ردك إلى القمع والظلم، إلى مصير مجهول، تحت وطأة الإرهاب في بلد يصلي للسماء.. كل هذا.. ألا تقدرين تضحيتي؟! التفتت فينوس نحوي... رسمت ابتسامة أشرقت من بين شرفات التهجد. آه من هذا الخوف، جاءت لتطمئنني، تشد على يدي: الله معنا، لن يتركنا، هذا ديننا.. وهذه عزتنا! كانت لغتها حمامة بيضاء.. صوتها ما أحلاه! تأملت سعادتها والقنوط الذي يتدثر في مهجتي امتدادا لدثار عتيق، يزداد تمزق الدثار ويزداد.. والخوف لاحدود له. بعد أن أنهت التلاوة طلبت منها العودة للبيت معاً، وعدتها أنني سأتفهم موقفها ولن أمنعها، وبينما كنا نسير، وجدتني أخلع حجابي وأحشره في حقيبة يدي. طالعتني فينوس قائلة: لا تخافي، ارتد... وجاءها صوتي بزفرة: في البيت سنتحدث. أثناء الطريق استوقفنا سائق سيارة أجرة، وقفت على يمين فينوس وأنا مواجهة للشارع وتحدثت معه قائلة: لا شكرا المكان الذي سنقصده قريب من هنا. ظل السائق واقفا مكانه، لعله لم يسمعني بوضوح لضجة الطريق وتلك الموسيقى التي تصدح بها سيارته، شممت معها رائحة كريهة، لم نعره اهتماما وأكملنا المسير، لكنه ما لبث أن حرك سيارته باتجاهنا تابعنا بضع خطوات، فإذا بنا نصاب بالريبة، ونسرع في خطونا، “ما زال يتبعنا” كانت تشد على ذراعي فينوس، انعطفنا وسلكنا طريقا ضيقا بين المنازل المتجاورة، فإذ بنا نسمع صوت باب السيارة يفتح، لم أشأ الالتفات للخلف كي لا يتراءى لي ظله، وابنتي المذعورة تتشبث بي بخوف يزداد. قلت لها بأقصى نظرات اللوم: أرأيت بنفسكِ! ـ أمي لا وقت لهذا الكلام.. ـ لقد غضب النازي الوحشي لأنك ترتدين الحجاب، كم مرة أخبرتك أن قانونهم.. والمجتمع.. والثقافة.. ولم يكن الموقف يتسع للتوبيخ! حوائط هنا وهناك، المشهد يبدو كأننا في قلب متاهة لا نهاية لها.. دائرة وتبتلعنا.. أقدامنا ما عادت تقوى على حملنا وأفئدتنا تضرب بشدة.. لم يسمعنا أحد من الساكنة.. هل سيتركوننا لقمة سائغة بيد الوحشي؟ أم هل هم يترصدوننا لينقضوا تاليا علينا؟ في آخر الطريق خلاص.. خرجنا نلهث بأنفاسنا ثم تلفتنا يمينا ويسارا، وإذ به يخرج من بعدنا، مخمور بيده زجاجه يهلوس بهذيان ويترنح بخطاه، لكأن غصة وقفت في حلقي فحالت بين الصدر واللسان، لم تتحدث فينوس بل اكتفت بالنظر طويلا إلى السماء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©