الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فدوى طوقان: وجدتُها!

فدوى طوقان: وجدتُها!
6 يوليو 2011 20:05
كأن حياة فدوى طوقان في حضورها التذكاري حضور لوطنها فلسطين بتعاقب نكباتها وانكساراتها. فالشاعرة (نابلس 1917 ـ 2003) أتيح لها من العمر ما جعلها شاهدة على خسارات اختلفت مسمياتها وتوحدت نتائجها. ولكنها مبكراً حاولت تقديم قضية وطنها فنياً لا عبر الشعارات المستهلكة، واتخذت من الحداثة الأولى وما عرف بالشعر الحر شكلا يؤطر ثوريتها، ويعضد تمردها الذي مارسته في الحياة والسياسة برفض التقاليد المحددة للمرأة اجتماعياً ومقاومة الاحتلال سياسياً. تعد السيرة الذاتية للشاعرة “رحلة جبلية رحلة صعبة” بجزأيها أحد أهم المفاتيح لقراءة شعرها الذي سيبدو محدود القيمة في سجلها المنشور إزاء بوحها الجريء ودقة ملاحظاتها وحرارة تجربتها وحيويتها، تقول في سيرتها: “بين عالم يموت، وعالم على أبواب الولادة، خرجت إلى هذه الدنيا”، مشيرة إلى انحلال الامبراطورية العثمانية، واحتلال الإنجليز لما تبقى من فلسطين. وتتسع إشارتها تلك لتشمل حياتها الشخصية، فهي لم توهب اسماً إلا بعد أيام من ولادتها، ولا تذكر الأسرة الميلاد الحقيقي للشاعرة، إلا عبر تاريخ موت قريب لها. فكان على الشاعرة أن تبحث عن (ولادتها) في الموت مرة (أخرى) أي بين دورة الولادة والموت. ذلك الدوران السيزيفي يؤكده قول الشاعرة: “حملت الصخرة والتعب، وقمت بدورات الصعود والهبوط، الدورات التي لانهاية لها” واعية الطابع السيزيفي لحياتها والصخرة التي قدر لها أن تحملها: فكانت تلك الحياة رحلة جبلية صعبة حكمت تجربتها أيضا، فمثلت كفاحاً حقيقياً مستمراً. وتمر الشاعرة بسلسلة حرمانات يهمنا منها اضطرارها للتوقف عن كتابة الشعر زمناً، وحرمانها من مواصلة تعليمها، وعيشها حبيسة البيت أو ركن الحريم، وقسوة الأسرة وسوء معاملتها الذي وصفته بأنه “غرق في بحر من اليأس”.. بجانب كبت وكبح موهبتها الشعرية التي كانت تعبر عنها بسريّة وخوف، لم يمنعا اندماجها من بعد بأفق الحداثة الشعرية التي عبرت إليها من بدايات تقليدية ورومانسية، تشارك فيها شاعرات زمنها كنازك الملائكة وسلمى الخضراء الجيوسي ليس باختيار الشعر الحر فحسب، بل في تأمل الوجود والذات والعالم، وهو ما انعكس في قصائدهن وميز الشعر النسوي المبكر. ولكن هذه السيزيفية الممثَّلة في وصف حياتها برحلة جبلية صعبة دائمة الدوران، ستجد في الشعر العاطفي خاصة صوراً مجازية واستعارات بديلة ربما كانت عناوين دواوينها تجسدها بوضوح، مثل “وحدي مع الأيام” و”أعطنا حبا” و”أمام الباب المغلق” و”اللحن الأخير” أما ديوانها “وجدتها” (1957) الذي نستل منه قصيدته الرئيسة التي أخذ الديوان عنوانها، فقصائده تشي بتلك السيزيفية الممزوجة بتفلسف وبحث عن النفس المعذبة والمنتهكة وطناً وذاتاً، ويمكن انتقاء قصيدتها في لقاء شعراء الأرض المحتلة بعد عام 1967، لتأكيد امتزاج حزنها بتفاؤلها فقد غدت المدينة بعد الاحتلال أطلالا تقف عليها لتستثير ذاكرتها وتسترجع الزمن الذي مر على الأرض المنتهكة بالاحتلال. فزادت الصخرة ثقلاً وتنوعت المعاناة ليظل الشعر متنفساً يهب الحياة هواء منعته الأسرة والمجتمع والآخر والاحتلال. تعود كتابة القصيدة إلى زمن مبكر في تاريخ التحديث الشعري والمواجهة الحادة للمجتمع والذوق الزائد مع الدعوات لتجديد القصيدة العربية، ولو بشيء محدود من تنويع التفعيلات، وتعدد القوافي، وهدم الشكل التقليدي للبيت بشطريه، فقد كان ذلك كثيراً على الذاكرة الشعرية المثقلة بقرون من النتاج الشعري المتماثل فنياً، حتى صار الخروج عليه تعديلا وتخفيفاً من المنكرات التي حاربها المجتمع وكال لها اتهامات شتى ليس أقلها خطراً المروق والتنكر للتراث، فوجدت شاعرات الجيل الأول في تلك الأشكال التحريضية ما يوافق تمردهن ورغبتهن في تغيير دور المرأة ومكانتها وشخصيتها. قليلا ما تصلح الحقائق العلمية مراجع للنصوص وموجهات لقراءتها، فالشعراء لا يعبأون بتلك الحقائق؛ فقد ظل القمر، مثلا، ملهماً لهم كصورة تقليدية للجمال رغم ما اكتشفه الرواد الفضائيون من جهمة وظلام فوق سطحه، والزمن كذلك لا وجود لحقائقه ومُدده وتوقيتاته، بل بما ينعكس ظاهراتيا من أثره في النفوس، ولكن فدوى طوقان استثمرت صيحة نيوتن: وجدتُها حين سقطت تفاحة من الشجرة التي كان يتفيأ تحتها، فاكتشف القانون العام للجاذبية الذي يفسر سقوط الأشياء باتجاه الأرض، وتلك الصيحة ظلت رمزاً مجرداً من سياقه العلمي، يدل على دهشة الاكتشاف والفرح بما يزيله الإنسان من غموض ولغز في حياته. والشاعرة وجدت شيئاً في سياق مماثل نقلت إليه صيحة نيوتن، فتكلمت عن حقيقة عثرت عليها، في وجود شجرة غير متعينة إلا على الورق وفي خيال الشاعرة، لتهتدي عبر غصن منها إلى نفسها التي كانت تبحث عنها. وقد كان للصيحة النيوتنية (وجدتها) حضور واضح في القصيدة، فهي المولّد البؤري لها، ولا يمكن تتبع حركات القصيدة ونموها إلا عبر متابعته، ففضلا عن وجودها لافتة عنوانية للديوان، فهي تعتلي القصيدة عنوانا لها، كما يبدأ كل مقطع شعري بها، وكأنه فاصلة بين أجزائها، فكان لتكرار الصيحة وجود نصي مهيمن لا يمكن فصله عن دلالتها الكلية. الاكتشاف الأخير في المقطع الرابع هو الذي يزيح الصيحة من مرجعها العلمي، ليضيفها لوجود الذات وعثور الشاعرة على نفسها التي كانت ضالة عنها فوجدتها، ولكن في طقس احتفالي بالطبيعة، وبغصن شجرة منها تحديداً، فكان للطبيعة هنا دور مركزي في نمو الدلالة وتدرج الشاعرة في العثور على ما كان ضائعاً واستوجب الفرح باكتشافها. تخبئ القصيدة كثيراً مما يندرج في المسكوت عنه، فالفرح الظاهر في النص والتغني بيوم صحو جميل وجدت فيه الشاعرة ضالتها (بعد ضياع طويل) سيحال إلى معاناة طويلة من ذلك الضياع، حتى كانت النهاية باهتداء النفس إلى ذاتها المكررة للتأكيد. لقد ترك نيوتن تفاحة شجرته وراح يقيم معادلاته، ليؤكد الجاذبية الأرضية، أما الشاعرة فكان الاهتداء الذاتي (بعد ضياع بعد بحث طويل) لمرحلة وعي قمعته الأعراف والقوانين، وغيبت رغباته وملامحه وكيانه، فجاء يوم الصحو الجميل بشمسه ونخيله مؤطراً باعتدال مناخ نيسان وهوائه وصفاء طقسه، ليكون مناسَبة للبحث عن أمثولة، طالما توختها القصائد الرومانسية وهي تمجد الطبيعة وتتغنى بمجاليها ومرائيها، وبكائناتها المبرأة مما يصيب البشر من بغضاء وعدوانية واحتراب. الحضور المؤثر للطبيعة لا يتوقف على الاهتداء إلى النفس عبر وجود غصن جميل يقاوم الزوبعة ويعود جميلا بعدها، بل في تقسيم القصيدة إلى أربعة مقاطع يبدأ كل منها بكلمة: وجدتها، يفصل بينها بياض يمهد للمقطع التالي، ونلاحظ أن عددها أربعة مقاطع، فكأنها فصول الحياة الأربعة، وهي تؤرخ لحياة الغصن الذي وجدت الشاعرة في مقاومته وجماله ما قادها إلى اكتشاف ذاتها التي عثرت على كنهها في ضرورة البقاء والصمود، كما يفعل هذا الغصن الذي لا نعرف شجرته ولا حضور لها في النص، وكأن الشاعرة تريد تأكيد مهمة البحث عن الذات خارج انتمائها الطبيعي الذي فرض عليها، ولم يكن لها فيه اختيار. فجاءت لتصحح ذلك الضلال والضياع لتهتدي ـ بما في الكلمة من عثور معرفي ـ النفس بنفسها على نفسها، ويكون للدوران والبحث السيزيفي مستقر هذه المرة، فلا يعود للعواصف والسحب ودوران الأيام كما في المقطع الرابع من أثر على الشاعرة، فأنوارها لا تنطفئ، فقد زال عنها كل ما أظلم من فترات حياتها ودفن ثاوياً في الماضي. تشارك الشاعرة زميلتها نازك الملائكة في البحث عن الذات واقتسام المؤثر الرومانسي، والعودة للتأمل والاحتفاء بالطبيعة في بواكيرها الشعرية التي لم تبتعد فدوى طوقان عنها كثيراً، فرفضت التجديد الجذري المزيل لهيمنة القافية وتراتب التفعيلات والإيقاع التقليدي، ورفضت أن تساير الحداثة الشعرية في آخر أشواطها، لأنها ارتضت هذا المنهج الذي وجدت فيه ضالتها، واهتدت عبر أمثولة الغصن على نفسها التائهة. ولعل هذا في قراءة تأويلية ما مؤشر على ما تريده لوطنها كي ينال حريته، ويظل جميلا قوياً فيهتدي إلى نفسه بنفسه، ويتحرر من الوصاية كما يتحرر من الاحتلال. وجدتُها فدوى طوقان وجدتُها وجدتُها في يوم صحو جميل وجدتها بعد ضياع طويل جديدةَ التربة مخضوضرةْ نديانةً مزهرةْ وجدتُها والشمس عبر النخيل تنثر في الحدائق المعشبة باقاتها المذهبة وكان نيسان السخّي المريع والحب والدفء وشمس الربيع وجدتها بعد ضياع طويل غصناً طرياً دائم الاخضرار تأوي له الأطيار فيحتويها في حماه الظليل إن عبرت يوماً به عاصفة راعدةً من حوله راجفة مال خفيفاً تحتها وانحنى أمامها ليّنا وتهدأ الزوبعة القاصفة ويستوي الغصن كما كانا مشعشع الأوراق ريّانا لم تنحطم أعطافه اللدنة تحت يد الريح ويمضي كما كان ، كأن لم تثنه محنه يضاحك الجمال في كل ما يراه ، في إشراقه النجمة في الشمس في الأنداء في الغيمة وجدتها ، يا عاصفات اعصفي وقنّعي بالسحب وجه السما ما شئت ، يا أيام دوري كما قدّر لي ، مشمسةً ضاحكه أو جهمة حالكة فإن أنواري لا تنطفي وكل ما قد كان من ظلِّ يمتد مسوداً على عمري يلفه ليلاً على ليلِ مضى ، ثوى في هوّة الأمسِ يوم اهتدت نفسي إلى نفسي .
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©