الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سقوط الأقنعة

سقوط الأقنعة
5 يوليو 2013 00:15
عندما توفي جدي تجددت أحزاني بفقد أبي الذي رحل قبله عامين وتكفل جدي بكل أموري واحتياجاتي، ولقيت منه ومن أعمامي الأربعة كل رعاية وعطف واهتمام، وحاولوا جميعاً أن يعوضوني عن رحيل أبي فبالغوا في تدليلي، وخاصة جدي الذي لم يكن يجعلني أغيب عن عينيه حتى أن أعمامي وأبناءهم جميعاً كانوا أحياناً يغارون من هذا الاهتمام الكبير، ولكن عندما يتذكرون أنني يتيم يتغاضون عن الأمر، وقد كنت ممتناً لهم جميعاً لهذا الشعور، وتلك المعاملة، ولكن الآن فقدت سندي في الدنيا وأصبحت يتيماً فعلاً فمن ذا الذي يعوضني عن فقدان جدي؟ بكيت كثيراً وأنا أتخيل نفسي فيما هو آت من الأيام. أبي رحمه الله كان أكبر إخوته البنين والبنات وقد كنت أكبر أبناء وبنات العائلة وكانت أمي مثل جدتي في المعاملة والمكانة والجميع يوقرونها ويحترمون رأيها ويستشيرونها في معظم الأمور، وبحكمتها كانت تنال الاحترام وكثيراً ما يؤخذ بقولها، ولم تتغير الأمور بعد وفاة جدي وقد تولى شؤون العائلة عمي الأكبر، وهو رجل لديه حكمة تعلمها من أبيه ومن الكبار الذين عاصرهم، كنت معجباً بشخصيته ويبدو فيه المكر المحمود والمعارف المطلوبة ولديه معلومات بالناس والأنساب والعائلات والبلدان التي حولنا وهادئ الطباع وقليل الكلام وهذه ميزة نادرة في هذه الأيام وكنت معجباً جداً بذلك فيه، فلأنه كثير الصمت كان يسمع دائماً أكثر مما يتكلم وهذا يجعله يحكم على الأمور بشكل جيد وكذلك تكون أحكامه صائبة. من الطبيعي عندما يموت أي شخص يتم تقسيم الميراث وقد ترك جدي لنا مساحة كبيرة من الأراضي الزراعية، ورأى عمي أن تظل الأسرة الكبيرة التي تشكل عائلة بكثرة عدد أفرادها، كما هي متوحدة متحدة يعيش الجميع معاً، كما كانوا على حياة جدي ولم يكن ذلك إجباراً لأحد، وإنما بالتراضي بين الجميع ولقي رأيه ترحيباً من الجميع إلا بعض زوجات أعمامي اللاتي كن يردن الاستقلال بحياتهن والخروج من تحت سيطرة كبير العائلة، ولكن المصلحة العامة تغلبت في النهاية واستمرت الأوضاع وكل واحد يعرف دوره وهم جميعاً يعملون بالزراعة والنسوة في البيت يقمن بأعمالهن في الطهو والنظافة وغسل الملابس بالتعاون مع بعضهن، ولم يخل الوضع من بعض المناوشات المعتادة بين زوجات الإخوة لكنها كانت تنتهي بسرعة لأن الرجال كانوا حازمين في التعامل مع هذه المشاكل. سارت بنا الأيام هكذا إلى أن تخرجت في الجامعة وطوال فترة الدراسة يتولى عمي الإنفاق عليَّ، وقد كنت الوحيد في العائلة الذي التحق بالجامعة بينما كل أبناء أعمامي تخلفوا ورسبوا وتركوا الدراسة ليعملوا مع آبائهم في الزراعة إلا اثنين بالكاد حصلا على مؤهلات متوسطة ولم يعملا بها، فلم يجدا وظيفة مناسبة والتحقا مثل الآخرين بالعمل في الحقول في أرضنا الزراعية، بينما لم تتعلم ولا واحدة من الفتيات على الإطلاق فلم تلتحق واحدة منهن بالمدرسة من الأصل، فليس لتعليم البنات مكان عندنا وها قد حصلت على ليسانس الحقوق، كانت أول مرة تزغرد فيها أمي منذ مات أبي وبعده جدي قبل أكثر من عشر سنين كانت السعادة تطل من عينيها، فأنا كل من لها في الدنيا ودعواتها دائماً تمطرني ليل نهار وبالمناسبة، فقد ترملت وهي صغيرة السن في عنفوان شبابها وهي في الخامسة والعشرين ووهبتني حياتها ولذلك لا أجد ما يمكنني أن أعوضها به مهما فعلت. بطبيعة الحياة كلما كبر الإنسان كبرت معه مطالبه واحتياجاته وهكذا أنا كنت كذلك، فإنني بحاجة إلى مبلغ كبير لشراء مكتب لأمارس فيه مهنة المحاماة حسب تخصصي الدراسي وليس أمامي سبيل إلا اللجوء إلى حقي في الميراث وعندما فاتحت عمي الكبير، الذي في مقام والدي، كنت أتوهم أنه سيفرح ويبادر على الفور بتلبية مطلبي قبل أن أكمل كلامي خاصة، أن هذا حقي ومن ناحية أخرى مستقبلي الذي أسعى لبنائه، لكن عمي بدهائه المعهود لم يرفض بشكل مباشر، وإنما راح يلف ويدور في الكلام ليقنعني بوجهة نظره وبأفكاره وملخصها أن الأرض مثل العرض تشترى ولا تباع ثم إنها كنز لا يجب التفريط فيه، بل يلزم الحفاظ عليه وتنميته وأن قيمتها تزداد باستمرار ومن الخسارة التصرف فيها، ثم الندم عليها، علاوة على أن من العار في بلادنا بيع الميراث حيث يمثل دليل شؤم، وأيضاً إشارة إلى فساد الذرية التي يقال إنها لم تحافظ على النعمة ورغم أن هذا الكلام صحيح نسبياً، فقد كان ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب لأنه يعني ببساطة أن عمي يتمسك بكل ما تركه جدي ولا يريد أن يعطي كل واحد حقه بزعم الحفاظ على تماسك العائلة، ولكن لا أستبق الأحداث ولننتظر ما يحدث ولا أستطيع الحكم على النوايا. أسفت أنا وأمي من هذا الموقف وترك في نفسينا أثراً سيئاً وأردنا ألا نشق عصا الطاعة على عمي كبير العائلة ولا نريد أن نكون سبباً في تفتيت الترابط الأسري وتوفي اثنان من أعمامي كانا مريضين أحدهما لم ينجب، والثاني كان معاقاً، فلم يتزوج من الأصل وهنا ظهر خلاف خفي مبعثه الطمع في التركة فقد كان جدي متزوجاً من ثلاث نساء واحدة تلو الأخرى أولاهن جدتي أم أبي ولم ينجب منها سواه، ثم تزوج الثانية وأنجب منها عمي هذا «الكبير»، وآخر من اللذين توفيا وابنتين، ثم تزوج الثالثة وأنجب منها ولدين وثلاث بنات والحديث الهامس أن كل واحد من أعمامي يريد أن يحصل على نصيب شقيقه المتوفى وحرمان الأخوات من نصيبهن بشكل غير مباشر بادعاء أنهن ليبقين مرتبطات بالأسرة ولا تنقطع صلة الرحم. اضطررت للعمل في حرف لا تليق بواحد مثلي خريج جامعة ولديه ممتلكات يكفي عائدها لحياة كريمة، ولكن لا أريد أن أتخلى عن شهادتي ومؤهلي الجامعي لأعمل في الزراعة. وما زلت أبحث عن نفسي في المهنة التي درستها وأحببتها وهي المحاماة ويدور الآن حديث هامس آخر حيث يريد عمي ويخطط كي أتزوج ابنته، والهدف من ذلك أنه يعلم أنني لن أعود إليهم مرة أخرى وسيستقر بي المقام في المدينة قريباً من المحاكم والنيابات طبقاً لظروف عملي، وهذا يعني بطبيعة الحال أنني عاجلاً أو آجلاً سأبيع كل نصيبي من الميراث، فأراد بذلك أن يضرب عدة عصافير بحجر واحد أولاً أن يزوجني ابنته، وثانياً وهذا هو الأهم أن يحتفظ بنصيبي من الأرض في حيازته وبما أننا سنزداد ارتباطاً فسيمنعني من الحصول على الميراث، وبالتالي عدم التصرف فيه بالبيع وتلك الأفكار كارثية بكل المقاييس فابنة عمي فتاة أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، ثم إنني لا أشعر نحوها بأي مشاعر فهي بحكم تربيتنا ونشأتنا في بيت واحد مثل أختي. أكن لعمي كل الاحترام والتوقير فهو في مقام أبي تماماً وهو الذي تولى تربيتي وتعليمي ولا يمكن أن أجرؤ على مواجهته أو مخالفته مهما كان الأمر، وفي الوقت نفسه لا أستطيع أن أتقبل ما يتم التخطيط له من وراء ظهري وأمي من جانبها عندما بلغها ذلك كانت صريحة معي وقالت إن هذه حياتي ومن حقي وحدي الاختيار وأنا صاحب القرار وتتركه لي بلا أدنى تدخل وما سأختاره ستوافق عليه وبذلك أخرجتني من الحرج، فلو أن أمي احتارت بين الرفض والقبول ما استطعت مخالفتها وكي أتجنب الرفض المباشر لهذا العرض كان لا بد من اتخاذ موقف واضح قبل أن يأخذوا القرار ومن كثرة الحديث عنه يصبح أمراً واقعاً وحينها يصعب الإفلات منه، واستجمعت الحيل والأفكار وقررت أن أستفيد من طريقة عمي وتحدثت مع من حولي من أقاربنا بانني لا أفكر في الزواج قبل أن أحقق أمنياتي وأحلامي بعد أن أصبح محامياً مشهوراً، وهذا يتطلب دراسات عليا وربما السفر إلى الخارج بجانب المسكن في منطقة راقية تليق بمكانتي، وقد وصلت الرسالة واضحة إلى عمي بأن هذا رفض مغلف ووسيلة هروب من المأزق، وقد ترك ذلك شرخاً في العلاقات الأسرية التي صدعوا رؤوسنا بها أكثر من اللازم ويفعلون كل ما يريدون باسمها. تغيرت معاملة عمي مع أمي التي ما زالت تقيم معهم في منزل العائلة الكبير ولم يعد يستشيرها كما حدث في السابق حتى لو كان الأمر يخصنا، وأحوالي على ما هي عليه من السوء وضيق ذات اليد ويعجز لساني عن التفوه ولو بكلمة شكوى وتذرعت بالصبر إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، والسنون تمضي وحياتي متجمدة بلا تقدم فلا تحققت أمنية العمل ولا أفكر في الزواج وأنا أقترب من الخامسة والثلاثين، وأمي لا تكرر على لسانها إلا قولاً واحد هو أنها تريد أن تفرح بي وترى أحفادها قبل أن تموت وكادت تعلن التمرد على التقاليد وترفض العادات التي لم يعد لها وجود بهذا الشكل إلا عند عمي، فلا نرى عيباً في الحصول على حقنا والتصرف فيه كما نريد وهذه ليست بدعة في زماننا بل كل الخلق يفعلون ذلك ويسيّرون حياتهم بما بين أيديهم من أموال. تركت الأمور تجري في أعنتها وظللت أعيش حياة الشظف والكفاح في انتظار الفرج إلى إن دبت خلافات «الحريم» فلم يطقن صبراً وأعلنت كل واحدة منهن التمرد وهي تحث زوجها على حقها في الانفصال والمعيشة وحقه في الميراث الذي طال عليه الزمن وتكاثر، فالأطفال كبروا وهم بحاجة إلى الزواج والبنات جاءهن الخاطبون وفي النهاية، فإن كل واحد سيتحمل نفقات أبنائه وبناته، ولن يكون هذا مشاعا مثل أمور المعيشة العامة واقتنع الجميع وتكاتفوا وأعلنوا العصيان ووضع نهاية لهذه القيود وضرورة تكسيرها وبدأ التقسيم وظهر صراع الأبناء والأحفاد وأطماعهم وأنا بعيد عن كل ذلك أراقب ما ستسفر عنه تلك المناوشات وهم بعيدون عن مواطن الاتفاق، وظهر الجميع على حقيقتهم ولم تكن الروابط التي تغنوا بها إلا وهماً وبناء من رمال إنهار مع أصغر موجة. أخيراً وبعد تدخل بعض الكبار حصلت على نصيبي وما أعطوني إلا ربعه بحجة أنهم تحملوا مصروفات تعليمي وأنني لن أزرعه، بل سأبيعه وأرحل والأنكى من ذلك أنهم ما زالوا طامعين فيه ويريدون شراءه بثمن بخس ويقفون في وجه من يريد أن يشتري بسعر السوق وانكشفت جميع الأقنعة. نورا محمد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©