الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مرج البحرين»

«مرج البحرين»
3 يوليو 2013 22:07
حنان جمادي* وقفتْ على خيطِ الشِعر تنتقي مفردات الوجْد الباطن، تريد أنْ تنظِم له قصيدة على البحر الكامل: متفاعلن... متفاعلن... متفاعلن... بيد أنّها لم تتمكن من مجاراة الوزن وحادتْ عن الايقاع سابحة في محيط تُرهقها ملوحته، فعادتْ تمنح الصمت لنهرها العذب ناثرة أشواقها وردا على شرفات الانتظار... انتظار نضجها الأدبي.. انتظار نضج عشقها من جنونه.. والانتظار انتظاره... على الورق ذرفتْ كلام معشوقها صوفي الحب “من لا ِورْد له بظاهره لا وجْد له في باطنه”. شردت في بحره الواسع، الراكد، متقلب المزاج، كشق تلهو رياح ضلاعته اللغوية بسفن لهفتها، ترسيها في ميناء الأمنيات وخيال قصيدة لم يكتبها شاعرها الصائم عن نظم الصبابة، وكنهر وبحر تقف الكلمة برزخ بين أجّاجِه وفراتها فيهديها الصمت.. الصمت صمته.. هي الزلال، يسحر انسيابها وبساطتها عمقه، يعصف بأمواج غيرته العاتية جمالُها، تصبُ فيه بكلها فلا تبقي ولا تذر، وبلون السماء تتزين شفافيتهما، لتنهمر قصتهما السيالة مانحة هدأته حبا زبديا يكلِله الجفاء والهجر، وتمنح انجرافها لؤلؤا مكنونا عصيا على البوح... تذكره حين ودّعها ذات مطر خريفي ليركب بحر مغامرة الهجرة بعد أن أعياه البحث عن عمل يحلل حبهما، واصفرت شهادة جامعية كان قد حصل عليها ليتعكّز بها على فقره، لم يُجنه دبلوم الماجستير سوى منحة عقود الادماج المهني لحاملي الشهادات، منحة كانت فقط تحفظ ماء وجهه من تسول مصروفه اليومي من عند أمّه الأرملة التي تسد أفواه اخوته الست براتب والده ـ رحمة الله عليه ـ التقاعدي وتكسوهم بما تخطه يداها.. ألم يقل لها أنا العاجز عن كفالة نفسي فكيف أكفل مستقبل الياسمين؟! وعلى ورقها الملون بأحلامهما كتبت سواد غربة روحها بدونه، ناجت طيفه الباسم بأيام مطر الياسمين عندما شيدا على شاطئ الألفة بيتهما، أثثاه بالوفاء الأسطوري في زمن الغدر، في الحلم أيضا كانا يرقصان على نغمة ضحكة طفليهما، يناغيان سعادتهما، يركضان على شاطئ الوله يداً بيد، في انتظار فجر جديد يهبهما غبطة تجسيد الأماني، لكن الفجر لا يحقق الأحلام دوما، قد ترحل الأمنيات.. تطير مع النوارس متفرقة بين ضفتين.. ضفة البؤس حيث تعيش في وطن جريح يسكن قلبه كما قصائده، وضفة الشقاء حيث يقضي أيامه لاهثا ببلاد الغربة، يجمع أمانيها الممددة على رسائلها الالكترونية المعتقة بالانتظار والشوق... وها هو المنهك من ركود الأيام قد أعياه حبها، أعياه حتى بات يتمنى رحيلها، والفكاك من قيد روحها الملائكية.. كتب لها رسالة وداع بطول رواية، عميقة عمق لغته الشاعرية، غير أنّه قرّر أن لا يرسلها مكتفيا بعدم الرد على اتصالاتها والاستجابة لعطش روحه لروحها، فالصمت شكل من أشكال الوداع حين تخوننا اللغة، وتضيق منابع الصفاء من أرواحنا لنقرر العزلة داخل ذواتنا متشرنقين بحزن يسبق حياة فراش رمادي الجناح تجتذبه أضواء الآهات.. آهات تهدم وجدانه كلما قرأ قطرات كلماتها الشفافة، وصارع أمواج حرقته كي لا يقول لها انسيني، ارحلي، اتركيني. لكن السنوات جعلته ينصاع أخيرا لواقع مرارته، ورفقا بها ضغط على أيقونة الارسال... قالها: وداعا، انسيني... ثم أطلق العنان لسحاب حزنه بالانهمار، لثم صورتها التي بالكاد كان يستطيع رؤيتها بعينيه خجلا من قلبه ومن حبال عهده المقطوعة، كعادته في أوقات اليأس اتخذ وضعية جنين برحم الذكريات، وبشدة احتضن شاشة الحاسوب.. وهي تقرأ الرسالة قهقهت، قهقهت لتثير انفجار بركان حزن في داخلها حمما حمما، ركضت لأمّها، حضنتها كما لم تفعل مذ كانت طفلة، همست في أذنها.. ـ أخبريهم أنّي موافقة.. ـ أمتأكدة يا ابتني؟ البارحة حدثتنا عن جملة الفروقات بينكما، وانّ نسبة التوافق منعدمة، بل أكدّتِ أنّها مستحيلة.. ـ حدث المستحيل يا أمّاه، أنا الآن أعيشُ المستحيل... قالتها وهي تواري وجهها الغارق في دموعها الملتهبة، أسرعت لسريرها، تدثرت بما تبقى منها، قبّلت صورته الموضوعة تحت وسادتها، اتخذت وضعية الجنين، أجهشت بالبكاء وأنشدت نغمة الوداع نحيبا، وهي تجف، تضيق، لتترك حيزا لتحجر قلبها للظهور. كانت جدران الغرفة كما الأرض تسمع صهيل أحزانها، سالت دموع السماء تبكي معها فجيعتها فيه، يواسيها حب رجل آخر يلوح في الأفق الرمادي لأيامها، وشاءت أن يتم كل شيء بسرعة، كامرأة متلهفة للاقتران بحبيب عمرها، لمنبعها الأساسي، لنفسها التي خلقت منها وانتظرتها منذ الولادة لتحقيق الاكتمال. أو كامرأة قررت الاقتران بالنسيان مطلقة الانتظار طلاقا بائنا بينونة كبرى.. لتلبس ثوب السعادة المزيفة، المغلفة بزغاريد حناجر ما عرفت الحب يوما لتدرك معنى الموت على شاكلة فرح.... استأذنتهم يومها فقط لتلقي على قاتلها آخر كلماتها... ـ أما تزال على قيد الحياة يا وجعي؟! ـ ما يزال الوجع يحبك يا نهري... أجابها فورا وهو يدري أنها تسير الى حذفها بدونه وان كان عاجزا عن كفالة الياسمين فهو أيضا عاجز عن رؤيتها تجف من الحياة وتنشد تراتيل الذبول لصفصافات الحلم على ضفاف حبها.. يعجز عن طمر منبع طالما سقته عذوبته.. قرأتها غير مصدقة أنّه على العهد والوعد لتغمرها شلالات فرح وهيستيريا ذهول، كطفلة ركضت نحو امّها، حضنتها وهمست في اذنها: ـ أخبريهم انّي لا أريد الزواج.. سأظلمني وأظلم الرجل معي.. عادت لغرفتها تجر ثوبها المزركش، ومثل سندريلا تركت خلفها فردة الحذاء، بعض الحلي، ووالدتها المتسمرة تحاول استجماع قواها لنقل الفاجعة لأهل العريس.. حملت دفترها الأزرق المزدحم برسائل شوق وخواطر حنين، أخذت تنثر الشجن فيحاكي نثرها الشعر، ثم نامت على ورقها الأبيض ليوقظها صوت أمّها وهي تقرأ آخر جملة رسمت بقلمها الأسود. “من لا وِرْد له بظاهره لا وجْد له في باطنه”. * قاصة جزائرية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©