الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شباب اللوحة.. وشيخوختها

شباب اللوحة.. وشيخوختها
3 يوليو 2013 22:01
من الضروري أن نفهم أشياء كثيرة تتعلق بالفن التشكيلي، لكي نسبر أغوار هذا الصندوق المعلوماتي المهم الذي يسهم بشكل فاعل في تكوين ثقافتنا التشكيلية، ومن ذلك لابد أن نطلع على كيفية صناعة وديمومة اللوحة التشكيلية في الزمان والمكان. تمر اللوحة ـ أي لوحة ـ بعمر معين طال أو قصر فهو عمر لابد لها أن تنقرض فيه، تتلاشى ولا يبقى سوى اسمها أو صورة رسمها الذي تتناقله الكتب، وتخلق وراءها تاريخها منذ نشأتها حتى موتها الفيزيائي حيث لا تتكرر بعد ذلك مطلقاً. ومن الغرابة حقاً أن هذه اللوحة تستمد قيمتها من التاريخ “الزمن”، الزمن بمعناه الفيزيائي هو النافخ في روح اللوحة وهو مهشم تلك الروح في اللوحة ذاتها.. سلمان كاصد الزمن يعطي اللوحة قيمة عليا، قيمة فنية وتاريخية ومادية، وهو ذات الزمن الذي يأكل من جسد اللوحة فيحيلها إلى تراب. يبدأ فعل الزمن في نسيج اللوحة في قماشها أو ورقها، من تحت جسدها يبدأ ينخر في عظامها فينتقل إلى خيوطها الدقيقة ليفرق بينها أولاً ويعيد تلك الخيوط إلى شكلها الأول الذي كانت عليه ـ بلا لون ـ حيث تبدأ الألوان تتغير لتأخذ شكلاً خابياً، ضعيفاً، مريضاً، ومن هنا يبدأ التدهور حيث تتعاضد الرطوبة والحرارة والأوبئة والزمان والمكان في خلق هذا التدهور الذي ينقل اللوحة من زمن الطفولة إلى زمن الشباب حتى زمن الشيخوخة والموت. ولهذه الأسباب كلها كان دور المرممين، البنائين الجدد، أولئك الفنانون البارعون الذين يعيدون للوحة شبابها، إلا أنهم من النادر والمستحيل أن يعيدوها إلى زمن الطفولة مثلما ولدت على يد الفنان صانعها الذي خلق وجودها من العدم، صنع ملامحها، خطط جسدها، ركب خصائصها، اختار ألوانها، رسم أبعادها حيث كان الصانع الأول. لهذه الأسباب كلها لابد لنا أن نفهم الكيفية التي يعيد فيها البناؤون اللوحة إلى شبابها، كيف يتبعون ريشة الفنان الأول صانعها، وهل يخطئ البناؤون أولئك فينحرفون عن مسار الفنان الأول فتبدو اللوحة أشبه بامرأة عجوز وضعوا فوق وجهها المساحيق فبدت أكثر تشويهاً؟ اسم الرسام قرأت لبيكاسو مرة عندما سُئل عن السبب في اختياره القماش الرخيص ليرسم عليه فقال في ذلك “لابد أن نعرف أنه مهما قاومت اللوحة الزمن فإنها لابد أن تتلاشى ولن يبقى سوى اسمها واسم رسامها وكل شيء يزول إلا الأسماء فهي التي تبقى”. أقول: لا بد لنا أن نفهم الكيفية التي يعيد فيها البناؤون اللوحة إلى شبابها، وهنا كانت ضرورة أن نفهم من المهتمين بهذا الجانب الطرائق التي نحافظ فيها على روح الفن ـ لوحة كان أم تمثالاً أو لقى أثرية ـ ولهذا السبب رأيت أن أقدم جانب من الحوار التقني الذي دار في ندوة “تسخير العلم في كشف أسرار الفن” والذي اشترك فيه ثلاث خبيرات في صيانة الأعمال الفنية الإبداعية وهن ماري لافندير مديرة مختبر الأبحاث والترميم في المتحف الوطني الفرنسي، ولورنس دي كار مديرة التنسيق الفني في وكالة متاحف فرنسا، وهازل بيج مديرة المقتنيات في إدارة متاحف الشارقة، ذلك الحوار الذي نظمته هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة في منارة السعديات بأبوظبي ضمن الفعاليات الثقافية المصاحبة لنشأة متحف “حوار الفنون ـ اللوفر أبوظبي”. صيانة وترميم ترى ماري لافندير أن العلم وسيلة مهمة في عملية معرفة تاريخ وزمان انتاج العمل الفني وهو السبيل الأكثر فاعلية وقوة في ديمومة العمل التاريخي وإعادته إلى شبابه. إن العلم حسب لافندير هو الطريقة الوحيدة لمنع التدهور الحاصل في الأعمال التاريخية، إذ أنه يقلل من التناقضات، وهو في الآن نفسه من يؤكد أصالة الأعمال وعدم أصالتها، وهو من يعيد ويحدد انتماءها ويحد من عملية التآكل وذلك في جعل عوامل التعرية التي تحصل في العمل التاريخي غير مؤثرة. وتناولت لافندير الفروقات بين أعمال العصور والقرون الإبداعية حيث ترى أن أعمال القرن الثامن عشر من حيث المواصفات تختلف كثيراً عن أعمال القرن العشرين ولهذا فإن تاريخ الانتماء يتحدد أولاً عبر الزمن ثم بعد ذلك عبر الفن. وعن كيفية الوصول إلى التاريخ الحقيقي والدقيق للوحة أشارت لافندير إلى نموذج لقطع سيراميكية تعود إلى القرن 19 قبل الميلاد من بلاد الرافدين والشرق الأوسط والبحر المتوسط وإيطاليا وأشارت إلى الكيفية التي نحدد من خلالها المواد التي شكلت هذه القطع الفخارية، مما يستدعي تكنولوجيا شديدة الدقة، هذه التكنولوجيا المصغرة تعتمد على إشعاعات دقيقة، تبث الى جسد القطع لتقرأ تشكلات المواد فيها، وكنموذج هناك قطعة من منطقة ديلوز الفرنسية وهي من الرخام، لم تكن بيضاء كما جاءتنا الآن إذ هي بالأصل متعددة الألوان، فالأزرق لونها الأصلي قد اختفى، وهذه تعد الخطوة الأولى التي نقرأ من خلالها العمل الفني. أصالة العمل ولماري لافندير مفهومها عن تدهور الأعمال الفنية وكيفية منع هذا التدهور عبر ترميمها وإعادة الحياة إليها، وقالت: “إن بإمكان العلم أن يؤكد أصالة العمل الفني ويحدد عملية التآكل. إذ وجدنا أن أعمال القرن الثامن عشر تختلف عن أعمال القرن العشرين وذلك بفعل العلم والتقنية، كما وجدنا ما هو غير أصلي وفقاً لمجموعة من الاعتبارات العلمية”. وأضافت: “إن إخضاع العمل للأشعة السينية يمكننا من معرفة المواد التي صنعت منها وتاريخ إنتاجه وأعتقد أن التدخلات اللاحقة لا تلحق الضرر بالمادة التي صنعت منها اللوحة حيث إن هناك عناصر كيميائية تحدد لنا تاريخ القطع ومادة الزنك في المواد الذهنية، التي ربما تتكون منها”. رأس نفرتيتي وقدمت لافندير نماذج من أعمال نحتية ولوحات منها قطعة لتمثال رأس نفرتيتي وصلت إلى اللوفر عام 1923 وهي مصرية حيث قارنتها بقطع معاصرة لها عبر المقارنة الضوئية واستخدام الأشعة السينية واكتشفت عدم اصالتها اذ انها ليست أصلية ولم تأت من العصر الفرعوني الذي عاشت فيه نفرتيتي او حتى من العصور اللاحقة. وأكدت لافندير أن التحليل من خلال تركيب شعاع ضوئي يبين لنا المادة الكيميائية التي صنعت منها إذ أن الأزرق الغامق هو الكوبلت والفاتح هو النحاس وأن انعدام اللون الفاتح يعني أن مادة النحاس غير موجودة، وإشارة إلى أن هناك تحليلات أخرى تبين لنا حامض التيتانيوم التي لم تجدها ليؤثر ذلك أن هذا التمثال الذي هو صورة نفرتيتي ليس أصلياً. وتقدم لافندير نموذجا آخر لجمجمه من الكريستال وثالثا لجماجم أخرى احتسبت فيها كمية الهيدروجين، وقورنت بالقطع الموجودة التي تعود لفترات قديمة في محاولة للوصول إلى تاريخ حقيقي ودقيق للقطعة. وتناولت لافندير بشرح عملي الموناليزا وسنتانو لدافينشي باستخدام كاميرا خاصة ذات عدسة مركزة وقدمت اللوحات قبل الترميم وما بعده وعبر استخدام تقنية كشف الألوان على إحدى اللوحات حيث تم اكتشاف شخصية المرأة المغطاة باللوحة». وراء الألوان وعندما عرضت لافندير تفصيلاتها عن احدى اللوحات والتحليلات التي اقيمت عليها عبر استخدام الأشعة السينية وطريقة كشف الألوان عبر التقنية العلمية تعرف المكتشفون على خبايا وجود شخوص وراء الألوان. وترى لافندير أن “العلم يبقى الصديق الصدوق لعالم الفنون حين يتم استخدام كاميرا تكشف عن التقييم المبدئي لنوعية اللوحة وثبتها التاريخي والتعرف على خباياها والرسوم الخفية فيها وهذا عبر مفهوم وطريقة التصور العكسي الذي يعزل الألوان عن الخطوط حيث لا يتم ذلك إلا عبر تدخل متحفظ عبر الاعتماد على النظر المجهري”. وبالرغم من ذلك فإن لافندير تطرح مفهوماً آخر غاية في الخطورة تقول فيه إن العلوم لا تقود إلى أعمال الترميم إذ العملية ذاتها جمالية بحتة. تحدثت لورنس دي كار عن لوحة بول غوغان “مصارعة أولاد بريتني” وفصلت في شرح تشكلات اللوحة من حيث تاريخها 1888 وأهميتها وتقنياتها وماذا تشكل في منهج غوغان الانطباعي وأسلوبه البدائي كونه من رواد هذا المنهج مع دمجه الغربي وغير الغربي كونها جزءا من مسعاه الروحاني وليس الديني وقد رسمها في عالم غير ملموس لم تطأه الحضارة ولم يشوه بعيداً عن الإبهار البصري. وتفصل لورنس مفهوم المصارعة من قبل الأطفال في بريتني في فرنسا وبما تشكل اللوحة من ثقافة غوغان أو ربما أنها رمز لبعض الصراعات بينه وبين بعض الفنانين المعاصرين له، أو أنها تلتقي مع رسومات اليابانيين وأعمال المانجا. وقالت لورنس: “لنلاحظ أن الطفلين قاما بالتصارع وأن الثالث يتسلق الجدار وأن ملابسهما وضعت أسفل الرسمة وأن الرسمة تمثل الجانب الرمزي من أعمال غوغان ولهذا بعد فحصها وجدنا أن الرسمة وصفها الفنان بتوقيعه وأنها معروفة وتم عرضها في المجموعات الفنية وهي أصلية”. وتحدثت عن فحص اللوحة حيث تقول إنها بحثت عن تخطيطات تحضيرية وراء الرسمة أو أي أعمال أخرى فلم تجد، وأشارت إلى كيفية مط قطعة القماش وتفقد التفاصيل والى كيفية أخذ صورة الأشعة في المختبر، أي عن الرؤية الداخلية التي حاول جوجان أن يعبر عنها وبكل ذلك تم استخدام الأشعة تحت الحمراء، إلا أنها أشارت إلى عدم وجود رسومات تحضيرية ما قبل رسم اللوحة من قبل غوغان. كما تطرقت إلى مفهوم التلميع “الورنيش” في اللوحة وتعبيرات غوغان المبالغ فيها في رسمته. رسومات تحضيرية أحب غوغان الرعوية عندما ذهب إلى بريتني حيث كتب في رسالة له إلى فان كوخ “أحب بريتني، هنا حياة برية، هنا نغمة جلية في هذا الموقع من العالم” وهو وصف شعوري تجاه المكان والألوان في هذه اللوحة. وقالت لورنس “لم نجد رسومات تحضيرية للوحة غوغان” ومن خلال صورة بالأسود والأبيض وتحت إنارة معينة يظهر السطح ولا يوجد تعليق على هذه الصورة سوى أن اللوحة بحالة ممتازة كما رسمها غوغان دون زيادة أو نقصان أضيف إليها بعض التلميع من قبل معتني الصورة فيما بعد ولا ورنيش عليها. تاريخ لوحة غوغان لوحة “الأولاد وهم يتصارعون” هي مباراة مصارعة بين صبيين صغيرين بجانب نهر أفين رسمت منذ 120 عاماً وتحديداً في صيف 1888. بول غوغان كان يعمل وسيطاً مالياً في سوق الأوراق المالية وبسبب الكساد المالي في باريس لم يعد باستطاعته أن يكسب قوت يومه فتوجه نحو الرسم ثم أبحر إلى تاهيتي في البحر الجنوبي. رسم صراع الأولاد في بونت أفين في مقاطعة بريتني بفرنسا، ويعبر العمل كما أعماله الأخرى عن حرية التعبير والاهتمام بتبسيط التركيبة واللون والشكل، المصارعة هذه جزء من تراث بريتني وهي رياضة تمارس بقدمين حافيتين بمباراة لا تزيد عن سبع دقائق. رسمت اللوحة على قماش الكانفاس بألوان زيتية بأصباغ ملونة ثم خلطها مع زيت جاف، وعندما تمزج مع الكبريت تحصل على اللون الأصفر أو مع الكوبلت نحصل على اللون الأزرق. ولم تنتشر اللوحات الزيتية حتى بداية القرن الخامس عشر وعندما يتم الانتهاء من رسم لوحة زيتية على قماش الكانفاس يختتم الفنان العمل في بعض الأحيان بوضع طبقة من الورنيش لحماية اللوحة من الأوساخ والغبار. أهمية لوحة غوغان “الأولاد وهم يتصارعون” تنبع من كونها من روائع غوغان العظيمة، أبدعت على خمس مراحل مختلفة ضمن منهج الفن البدائي وهي حركة فنية متميزة بتناسق الجسم بصورة مبالغ فيها، حيث التناقضات التامة إذ نرى قدم الطفل كبيرة بشكل غير عادي للطفل الظاهر في مقدمة اللوحة، كما نرى تعامل غوغان مع المساحات بدون رسم الخط الأفقي بالاضافة إلى عدم وجود الظل والضوء والتركيب المسطح والتعامل البسيط مع الألوان، وبتأثير الفن الياباني نرى طريقة غوغان في رسم مسطحات مليئة بالألوان والخطوط العريضة. الأعمال الاستباقية قدمت هازل بيج جدولاً بالحرارة والرطوبة الذي يرافق اللوحة، كما أشارت إلى حجم اللوحة وإطارها واتخذت نماذج للشرح من المتحف الإسلامي ومتحف الفنون في الشارقة وتم ذلك من خلال سلايدات عرضت على شاشة القاعة الكبيرة. وقدمت هيج نماذج لمخطوطات عربية ورقية تاريخية وتحدثت عن الورش التي يتم فيها فحص وترميم الأعمال في المتحف البحري في الشارقة. وتعاون متاحف الشارقة مع جامعة الشارقة ومختبرها التحليلي ومع إدارة المقتنيات التراثية واستخدام الأشعة السينية الكاشفة للألوان. تحدثت هازل بيج عن خبرتها في معارض الشارقة وعدد المتاحف المشرفة عليها وإدارة التحليلات وطرائق الحفاظ على الأعمال من حيث الأعمال الاستباقية ومراعاة درجة الحرارة والرطوبة المناسبتين لتجنب تدهور اللوحة وترديها، ومستوى الإنارة التي تعرضها والحشرات والموبئات التي تؤدي إلى تلف النسيج، وعن خطط الطوارئ ومد أنابيب الماء والكهرباء في الجدران والسقوف. وتحدثت هيج عن كيفية مسح عناصر الرصاص والكروم والكالسيوم والمادة الطبشورية والتيتانيوم والزنك في اللوحة وتأثير ذلك في إعادة الترميم حيث تحيل هذه المعلومات إلى خبايا القطعة وأهميتها. توقفت هيج عند التحليل المخبري وكيفية ملاحظة المواد الكيماوية على العمل التراثي حيث تمسحه الآلة لتجد الفلزات والنحاس. رأت هيج في إحدى القطع الفنية وهي صورة على غلاف شعري كيفية تحليل المختبر وكيفية مسح كل عنصر في الصورة على حدة لاحتساب المواد فيها وتوقع وجود الرصاص والكروم أيضاً والكالسيوم والمادة الطبشورية والتيانيوم، الذي استعلم عام 1920 وأن الكروم هو مستحدث الخطوط الغامقة لتقرر هيج أن التحليلات تحيلنا إلى خبايا القطعة الفنية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©