شهر الصبر وجهاد النفس وأجر بلا حساب

أحمد محمد (القاهرة) نفحات شهر الصوم الربانية لا تنقضي، فكل الشهر هبات ونعم، فالمقصود من الصيام، حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الظمأ والجوع من حدتها، ويذكرها بحال الجائعين من المساكين، وتضييق مجاري الشيطان. الصبر والمصابرة فمن أهم أحكام الصوم ومقاصده أنه يربي في الصائم ملكة الصبر والمصابرة، ويقوي عزيمة المؤمن وقدرته على التحمل والصبر ويعده لمواجهة الصعاب والمشاق والشدائد التي قد تعترضه في حياته بروح إيجابية، وصيام شهر رمضان تدريب على الصبر والثبات لنيل عظيم الأجر والثواب من المولى سبحانه وتعالى، والصبر والمصابرة سبيل الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين. وشهر رمضان مدرسة عظيمة وصرح يستلهم منه العباد كثيراً من العبر والدروس النافعة التي تربي النفوس وتقومها، وإن مما يجنيه الصائمون في هذا الشهر العظيم والموسم المبارك تعويد النفس وحملها على الصبر، ولذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم رمضان بشهر الصبر، قال: «صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْر». البر والإحسان قال السيوطي، شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر الحبس، فسمي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح، وفي هذا الحديث وصف النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بأنه شهر الصبر لأن رمضان يجتمع فيه أنواع الصبر كلها، الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على الأقدار المؤلمة. فرمضان فيه الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، والبر والإحسان والجود والكرم وإطعام الطعام والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار وغير ذلك من الطاعات، وهي تحتاج إلى صبر ليقوم بها الإنسان على أكمل وأفضل الوجوه، وفيه كف اللسان عن الكذب والغش واللغو والسب والشتم والصخب والجدال والغيبة والنميمة ومنع الجوارح عن اقتراف المعاصي، وهذا يكون في رمضان وفي غيره، والبعد عن هذه المعاصي يحتاج إلى صبر حتى يستطيع العبد حفظ نفسه عن الوقوع فيها. الحر والبرد قال ابن القيم، والنفس فيها قوتان قوة الإقدام، وقوة الإحجام، فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره، ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه أقوى من صبره عما يضره فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعي هواه إلى ارتكاب ما نُهي عنه، ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات، ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك، وأفضل الناس أصبرهم على النوعين، فكثير منهم يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام ولا يصبر عن نظرة محرمة. والصبر من أعظم خصال الخير التي حث الله عليها في كتابه العظيم، وقد أمر به وأثنى على الصابرين، وأخبر أن لهم المنازل العالية والكرامات الغالية في آيات كثيرة، قال سبحانه: (... وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون)، «سورة البقرة: الآيات 155ـ 157»، وقال: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، «سورة البقرة: الآية 153»، وقال: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، «سورة الزمر: الآية 10»، وقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، «سورة آل عمران: الآية 200»، وقال: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ»، «سورة البقرة: الآية 45»، قال ابن جرير، وقد قيل إن معنى الصبر في هذا الموضع الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا.