الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لاهوت التحرّر الإسلامي

لاهوت التحرّر الإسلامي
13 سبتمبر 2018 04:01

د. عز الدين عناية

كتاب الإيطالي ماسيمو كامبانيني الصادر خلال العام الحالي بعنوان لافت «لاهوت التحرّر الإسلامي.. لدى حسن حنفي» عن دار جاكا بوك بميلانو، هو إعادة قراءة لما جرت العادة بنعته في الأوساط الثقافية العربية بـ «اليسار الإسلامي» لا «لاهوت التحرر الإسلامي». فـ «اللاهوت الإسلامي» مصطلحٌ فيه تنافرٌ وغير معهود في الاستعمال العربي، لِما يتضمنه من تناقض ولِما بين مفهوميْ «العلوم الشرعية» الإسلامية و«علوم اللاهوت» المسيحية من تباعد في المضامين والمناهج والمقاصد. مع ذلك ثمة ما يبرّر تعسّف كامبانيني في التطرّق إلى لاهوت التحرّر الإسلامي لا إلى اليسار الإسلامي، سيما وأن الكتاب يتوجّه إلى القارئ الغربي.

محدودية عربية.. وجهل غربي
نشير إلى أن الساحة الثقافية العربية في الحقبة المعاصرة قد حفلت بالعديد من الأسماء الفلسفية اللامعة، استطاعت أن تتطرّق إلى محاور مهمّة في النظر الفلسفي بشكل عام، وأن تسهم في إعادة قراءة المنجَز التراثي وتطرح مراجعات لا بأس بها. غير أن هذا المنجَز على أهميته في الداخل، يبقى رهين التناول المحدود وحبيس اللسان العربي الذي أُنجزت فيه مجمل الأعمال. وتكاد الألسن الغربية على تنوعها، تجهل المنجَز الفلسفي العربي المعاصر، وهذا عيبٌ فادحٌ في علاقات الثّقافة بين حضارتين. فالألسن الغربية إن تجشّمت عناء التشوّف لما ينتجه «الهامش العالمي» الذي من ضمنه العرب، فهي تترجم روايةً من هنا أو قصيدة من هناك، غالباً ما تتلاءم مع الذائقة الغربية أو تجد هوى في مخيال الغربي الطافح بالأحكام المسبقة والتهويمات «الإيزوتيكية» عن الشرق، وتحجم عن ترجمة الأعمال الرصينة. وبالتالي ثمة فلاسفة ومفكرون وعلماء اجتماع ومؤرخون عرب، ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في الداخل، لا يعرفهم المتخصّص الغربي ناهيك عن القارئ العادي. وحتى الذين كتبوا أعمالهم بالفرنسية أو الإنجليزية، من الكتّاب العرب، وافتقروا إلى ماكينة ترويج دعائية وحاضنة أكاديمية في الغرب، أمثال العروي وجعيّط وشرابي فقد كان مصيرهم كمصير الكتّاب الذين يكتبون بالعربية، ولم تنج من هؤلاء سوى قلّة قليلة أمثال إدوارد سعيد أو سمير أمين، اللذيْن ربطتهما أواصر قوية باليسار الغربي وبتيار نقد الإمبريالية عامة الذي عمل على ترويج مقولهما.
المفكّر والفيلسوف المصري حسن حنفي، ذائع الصيت في البلاد العربية، هو أحد هذه العينات المجهولة في الأوساط الغربية. في إيطاليا على سبيل الذكر لم تترجَم أعماله على كثرتها ولم تُدْرَس ولم تدرَّس. أكاد أجزم بعدم وجود دارس فلسفي إيطالي ملمٍّ باللسان العربي أو قادر على المطالعة بالعربية، وهو ما يشاطرني فيه الرأي مؤلّف الكتاب (ص: 7)، وهو من حاول بنفسه عرضَ مقتطفات من آراء حنفي.

من العقيدة الى الثورةفي كتاب «لاهوت التحرّر الإسلامي» الذي نتولّى عرضه، يبرز كامبانيني أن تحويلَ الدين إلى إيديولوجيا مع حنفي، قد شكّل رهاناً كبيراً في المشروع الضخم الموسوم بـ «من العقيدة إلى الثورة» الذي انكبّ عليه. فليس الدين لدى حنفي رؤية غيبية مفارقة تنشد الخلاص الأخروي، بل هو رؤية متفاعلة مع قضايا الإنسان وهمومه، ومع كفاحه ونضاله في عالم الشهادة، ومن هنا اقتضى تطوير تأويلية فاعلة في فهم الدين قادرة على إرساء خطة للنهوض. فالتحرّر يمثّل نقطة انطلاق محورية لدى حنفي في عملية تثوير التراث وتجديده. عبر تبنّي الجانب الحيوي في هذا الرصيد المعرفي الهائل، ومن هذا المأتى حرص على إنجاز رؤيته السياسية الدينية، التي ارتأى كامبانيني نعتها بلاهوت التحرّر الإسلامي، إيماناً بالصلة المتينة التي تربط «الدين بالدنيا» في الإسلام.
منذ مطلع الكتاب يلحظ كامبانيني التقارب الرؤيوي لدى حنفي مع المفكر الإيطالي الراحل أنطونيو غرامشي (1891-1937) لا سيما في عمله الرئيس «دفاتر السجن»، خصوصا بشأن جملة من المفاهيم مثل مفهوم الهيمنة، والكتلة التاريخية، والمثقف العضوي، والمثقف الجمعي. فقد انشغل غرامشي بإكساب الشرائح الخاضعة قوة هيْمنة، بما يعني نظرية استيعاب، تسمح بفهم الرؤية المقابلة وتفسيرها لدى الطبقات المتنفّذة، ومن ثمَّ تحقيق «التقدّم الذهني الكُتلوي».
فالتأويل في الدين الذي سعى حنفي بحزمٍ إلى إنشائه، يحيل على حلقة هرمنوطيقية بين القارئ والنص. فليس المدلول لغوياً فحسب، بل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعانٍ مضمَرة في النص وبمصالح وحوافز خارجة عنه أيضا. وكما يذهب حنفي ليس المعنى كامناً، بل هو نتاج تلك العلاقة الجدلية الرابطة بين النص والكائن البشري كحيوان سياسي، حاضر ضمن سياقات اجتماعية سياسية تصوغ النص وتوظّفه. وبهذا المعنى حتى هرمنوطيقية النص المقدّس هي حدثٌ سياسيٌّ.
ذلك الانتقال من العقيدة إلى الثورة هو ما يحقّق التمثّل الأيديولوجي للإسلام الفاعل وفق حنفي. فلا يتعلّق الأمر مع (منظِّر التحرر) بإلغاء اللاهوت وإيجاد الإنسان، بل كلّ ما في الأمر هو تحوير اللاهوت إلى أنثروبولوجيا. ولا يقتصر الأمر على إيجاد كوجيتو تأمّلي، بل على نحت كوجيتو عملي، هو ما يطلق عليه التوحيد الفاعل أو العملي.
في هذا المشروع التحريري الذي يخوضه حنفي، يعيد لاهوت التحرر - كما لخّصه كتاب «اليمين واليسار في الفكر الديني المعاصر» (القاهرة، 1996) - تركيبَ عناصر أصول الفقه الإسلامي، ليغدو مفهوم الربوبية تمثّلاً للتغيير. فمفهوم الألوهية ليس مفهوماً مفارقاً، بل هو حركة وفعلٌ داخل التاريخ لا تغدو فيه الربوبية موضوعاً عقلياً أو فكرة مجردة بمنأى عن قضايا البشر. فاللاهوت المحافِظ يجعل من مفهوم الألوهية مفهوماً غريباً عن هذا العالم، لما يطبع ذلك اللاهوت من طابع عمودي يغيّب الإنسان عن قضاياه الجوهرية، فيخرج الدين برمّته من العالم ويفصله عن الفعل البشري.

رؤية للتغيير
من جانب آخر آثرَ ماسيمو كامبانيني تقصّي جذور التحرر، ضمن السياق الداخلي للفكر العربي المنتمي إليه حنفي، وكذلك ضمن السياق العالمي الذي غالباً ما حاول حنفي التشبّث به. ذلك أن موضوع التحرر نجد صدى له في أدبيات مبكرة، ولكن الملاحظ أن ذلك المطلب الذي رام إثارة موضوع العدالة والتحرر، لن يغدو مطلباً ملحّاً في الفكر العربي، وسيبقى موضوعا عَرَضاً أمام الهاجس السياسوي الطاغي، المطالِب بتطبيق الشريعة وأسْلمة الدولة. وبالتالي لن نجد لمفهوم التحرر، بمدلوله الاجتماعي العميق، وإلى مشارف الحقبة الراهنة، حضوراً بارزاً لطغيان النظر السياسي.
وفي مسعى للإحاطة بجذور منشأ طروحات التحرر لدى حنفي، حاول كامبانيني تنزيل رؤية الرجل ضمن إطار عالم ثالثي أشمل ينشد التحرر ويتطلع إلى بناء التنمية. سيما وأن حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، قد شهدت تحمّسا لطروحات التغيير. ففي جنوب القارة الأميركية، ومنذ انعقاد مؤتمر مادلين في كولومبيا (من 26 أغسطس إلى 6 سبتمبر 1968)، بدا الجوّ العام متحمّساً للخيار المنهجي الذي يصل اللاهوت بالواقع الاجتماعي السياسي. تلخّصَ ذلك في بروز خطاب تحريري، بالمعنى الاجتماعي، لصيقٍ بقضايا المهمَّشين والمحرومين، ومفعَم بالدلالات اللاهوتية. بدتْ كنيسة أميركا الجنوبية للمرة الأولى تجنح صوب الاستقلال عن روما، ولا يجد رهبانها وأساقفتها في «تعليم الكنيسة الاجتماعي»، المستند إلى فحوى «الرسائل البابوية العامة» و«الإرشاد الرسولي» الصادرة عن أحبار الكنيسة، سوى شكل من أشكال البحث عن التوازن في الموقف بين الرأسمالية والاشتراكية.
لذا لم كان عسيراً على «لاهوت التحرر» في أميركا اللاتينية تحوير مفهوميْ الخلاص والخطيئة وإعطائهما دلالات واقعية اجتماعية جنب تلك المضامين الغيبية. ليغدو التحرر من الخطيئة بمفهومه الديني يوازي التحرر من الظلم والحيف، ويرتقي بالاستغلال الرأسمالي إلى مصاف الخطيئة البنيوية. ضمن هذا الانشقاق في الدين، يمكن تحديد خمسة عناصر جوهرية للاهوت التحرر، كما تبلورت مع الرواد الأوائل:
* خيار الفقراء بوصفه الشغل الشاغل الذي تدور حوله الكنيسة واللاهوت.
* أسبقية فعل التحرير على التأمل اللاهوتي.
* توظيف أدوات العلوم الاجتماعية بقصد صياغة رؤية واقعية.
* تأكيد البعد الإنساني للإيمان والتوجه نحو التغيير الجذري للواقع السائد.
* قراءة النص المقدس وتأويله في ضوء قضايا الواقع.
كانت محاولة حنفي لبناء لاهوت تحرر سعياً لدمج الكيان الجمعي في موجة التحرر العالمي، وإخراجاً له من دائرة الاتهام بالرجعية والتحالف مع الرأسمالية، في زمن كان فيه اليسار هو إيديولوجيا التغيير الرائجة في العالم. لكن ذلك يقتضي إعادة إنتاج العلوم الكلاسيكية لا سيما علم أصول الفقه بدلالات حديثة.
فممّا هو بيّنٌ أن تعويلَ حنفي على منهج اعتزالي يحتفي بالتعاطي العقلاني مع الدين، لم يجد قبولاً حسناً في الأوساط التقليدية، وبالمثل في أوساط الإسلام السياسي، لمقاربة حنفي الجريئة في التعامل مع النص الديني. فالتحرر الديني بمفهوم حنفي، وعلى غرار لاهوت التحرر في أميركا اللاتينية، هو بحثٌ لجعل المضامين الدينية مواكبة للعصر، وهو تطلّع لبلوغ التغيير. لكن الجلي أن التعويل الاشتراكي في لاهوت التحرر الأميركي لا يجلو صريحاً مع لاهوت حنفي، بل ما يبدو معلَناً بقوة هو التصالح مع العقل.

الاستغراب مقابل الاستشراق
من جانب آخر يتقاسم حنفي مع الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد فكرة أن الأنا الغربية في مسعاها للسيطرة على الآخر، قد صاغت عِلماً أطلقت عليه الاستشراق، وهو في الواقع علم للهيمنة الكولونيالية. ولاستعادة شعوب الشرق، خصوصاً منها الشعوب العربية، ذاتها المستَلبة، يحظّها حنفي على ضرورة تطوير «علم الاستغراب»، أو بالأحرى إحداث وعي ثقافي سياسي يسمح بالتحاور بندّية مع الغرب وامتلاك الشرق لوعيه بذاته مجدداً، وهو السياق التربوي الذي في ختامه يغدو الشرق والغرب موضوعين ثقافيين متفاعلين. وبالفعل، التحول من الاستشراق إلى الاستغراب هو تحولٌ في ميزان القوى، كما يردّد حنفي. غير أن طروحات حنفي في المجال لاقت انتقادات جمة، رأت أنه كما اختلق الغرب شرقه، أسّس حنفي لاختلاق الشرق غربه. غير أن حنفي في الواقع ليس خارج سياق الإلمام بالانتقادات التي توجهت للاستشراق مع مدرسة ما بعد الاستشراق، حتى يذهب إلى إعداد نسخة مقلوبة من الاستشراق.
يبقى مشروع حنفي، كما يرى كامبانيني، برغم الانتقادات وبرغم مختلف الصعاب التي جابهها، فكراً متيناً ونقطة مرجعية لبناء الكيان الإسلامي (homo islamicus) من منظور حداثي تاريخي.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©