الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مشاكلة الظُّبا و الظِّباء

مشاكلة الظُّبا و الظِّباء
26 أكتوبر 2017 02:55
كأنها جاءت من جزيرة حوريات كوتنجلي... رشيقة كالظبا والظباء، تمشي على أطراف حوافرها الضيقة بين واحة الشمس ومملكة الماء، تنقر الفضاء برؤوس النجمات الموقدة كشموع الآلهة، ويا إله الحوريات، كيف خلقت البلاد من طين وماء، وخلقت هذه المدينة من رضاب المنتهى ودم المجرات وعرق البرزخ....ويلاه ! المارية البيضاء وملعب الغواية الأيائل التي تعدو في حدائق القمر، بعد أن يلفح نسيم البحر قرونها الناعمة التي تتمايل من بعيد كفروع الأشجار الغاوية، تخترق لمح البصر كأنها نسور سماوية بلا أجنحة، أو أسراب مجنحة من أحصنة البيغاسوس، تحلق بلا سماء... حين لا تجد مدنا تبكي عليك لما تودعها، ولا تحن إليك حين تفارقها، ولا تنتظرك حين تعود إليها، ولما تحس بالفقد حين لا تفتقدك الأمكنة، ولما تستوطنك الغربة وتهجرك البيوت، وتنساك ذاكرتك، وصورك العتيقة ومراياك المهملة، تعال إلى جزيرة المارية التي تصاحب أيائلها الغرباء والعشاق والشعراء والطيور المهاجرة، لتكشف لك روحك فوق صفحة الغيب، وتحرس لك قبرك في الظلام، وهي تجر عربات أبولو بين سرير الأبد ونتوء المجهول، هنا فقط تستطيع أن تغفر لإيثاكا فضيلة الوصول مادامت الخطيئة هي الرحلة التي تشكل البعد الزمني الأخير في مدار العودة ! بعيدا... هنا... في هذه البلاد... طريق لا تؤدي إليك ولا تصل إلى سواك، إنها طريق الظل الذي يطاردك وأنت لم تزل تقتفي أثره وتسير في أعقابه... أواه أيتها المنافي، ألم تتعبي منا بعد؟ في مدن البياض، سقف واطئ، مكفهر، كخيمة الغراب، يكاد يثقل رأس الغرباء الذين يرفعونه كمظلة سوداء ترد عنهم غبار النجوم، وليمون الجنة. في مدن البياض.. طوابير لتماثيل محنطة تسحق إنسانيتك لأنها تشفرها برمز رقمي هو في واقع الحال هويتك الوطنية في وطن ليس لك، كل ما فيك غريب عنها، ولا تستطيع أن تغترب أو تكون في مكان غيرها، لا تستطيع حتى أن تعود إلى وطنك لأنك انتميت بشكل أو بآخر لمنفاك، الذي سكنت فيه عمرا ولم يسكنك، مفارقة مضنية، تلتبس عليك بها، محاولة تفهم الأمكنة دون أن يعجزك غموضها عن فهمها، ولذلك تأخذك طريقك في صباح متثائب إلى جزيرة الظباء، لتحتسي قهوتك برفقة الماريات هن يستدرجن ظُبيَ الإله «خنوم» إلى ساحة المبارزة، يلعبن بودع الغواية ومستحضراته البيولوجية، ومحفزاته الإنزيمية، ثم يأخذن قيلولتهن في مركب الآلهة، ويسترحن كمحاربات في خدر الظهيرة.... ! سُمْرة الظُبا بين ألونه والطارج والسامري وأغاني البحارة... تشهق روحك بين الرواح والخطيفة... بين بحة الرياح وغنة الربابة، فتجنح لامتشاق الظبا في وجه المدى، لتراقص بها قمرة البدوي أو تبارز بها سُمرة البدور. الغريب عاشق استثنائي للمكان... يألفه ويؤالفه حين يناكفه ولا يخالفه، فالمشاغبات الحميمية بين الغريب وبينه ما هي إلا مبارزة ناعمة قد يضطر بها المتبارزان لامتشاق السيف من القلب لا غرسه فيه..... ويا ويح الذي لا قلب له كي يؤويه! فتاوتها، ورشاقة نصلها الحاد، وشبوبيتها، وهي التي شابت نواصي الليل ولم تشب.... كلها مواصفات غوائية تكاد تفطر وجد العاشق وولهه لحسنها وأناقة تشريفاتها وفورة طعانها في حروب الشرف، سمرتها العربية صقيلة رقيقة، تراها كالحاجب يعلو خط الكحل كموشمة تطل من غمزة البراقع، يا لهذه القواطع الفتاكة التي تلعب باللب وتأسر الخاطر وتطرح المحب دون أن تريق قطرة دم واحدة من غمد القلب ! سيّابيّة الغربة قد لا تستطيع أن تسم الغربة بغيرها سوى مع السيّاب، حتى كأنه يسمها باسمه، لتتخذ طابعها كحالة إبداعية من مزاجه الخيالي قبل واقعه المتخيل، وهو الغريب على الخليج، الذي يؤمه جوابو البحار، وتتبدى له من ورائه العراق التي يرى فيه وجه أمه في الظلام، وهو إذ ينفصم عن المكان جسديا يندغم فيه روحيا، ليغدو الخليج مفرقاً انشطارياً لعنقودتين: الكينونة والتقمص، وما بينهما تتداعى المفارقات بين الذاكرة والمخيلة، وبين الإياب والحنين...ولذلك تعد وحدته وحدة مزدوجة لا ازدواجية، فلولا عذوبة عذابها، ماكان للسياب أن يكتب الشعر بهذا الأسى الآسر.. الذي يدرك فيه مكمن الانفصام الإبداعي كلما أصيب بنوبات توحد غربوي: البرد وهسهسة النار ورماد المدفأة الرملُ  تطويه قوافل أفكاري أنا وحدي يأكلني الليل. و أيضا: كالشاطئ المهجور قلبي، لا وميض ولا شراع في ليلة ظلماء بلّ  فضاءَها المطرُ الثقيل لا صرخة اللقيا تطوف به ولا صمت الرحيل! لا شك، أن هناك أمكنة ليست لك، ولكنها لعروة الوثقى التي تربطك بمكانك أنت، مهما بعدت عنه، أو كانت هي بعيدة عنك، وبين قسوة الغربة وألفتها، تتراوح الأرواح، فمرارة الحنين وسوداويته منوطان بوحشة المكان الغريب، وأما رقته وطراوته فمنوطتان برعشة الغريب العاشق، وأما السياب فله لعنته، التي يتقمص بها كل أساليب العودة وأدواتها بمرونة قاهرة وخشونة ساحرة: تمنيت لو كنت ريحا تمرّ   على الظل ولْهى   فلا تُعذَلُ ويستأثر الموجَ إغراؤها وترديدها النائح المرسلُ وتمضي وتمضي به للسماء غمامًا بأرجائها يرفلُ فأخلو بظلّك بين النجوم وقد جال فيها الدجى المسبلُ ففي كل تقبيلة نجمة تغوّر أو كوكب يذهلُ خيالك من أهلي الأقربين أبرّ، وإن كان لا يعقلُ أبي.. منه قد جردتني النساء وأمي.. طواها الردى المعجلُ وما لي من الدهر إلا رضاك فرحماك فالدهر لا يعدلُ  !. أصعب الصعب أن يعترف الغريب بغربته، ولكنه الاضطرار الأجمل الذي يفرضه عليك وطنك لا منفاك، لكي تعترف باندماجك به حين تقر بانسجامك الخصومي مع غربة الذات: لأني غريب لأن العراق الحبيب بعيد، وأني هنا في اشتياق إليه، إليها.. أناديك عراق فيرجع لي من ندائي نحيب آه من السياب.... يترنح كالمنتشي بين مشاكلة الظبا والظباء، كغريب بلا غربة، وكعاشق بلا حبيبة، ونبي بلا سماء، وبدوي بلا بادية، وسندباد بلا رحيل.... كأنه لغة بلا صاحب أو كتابة بلا حروف أو قلم بلا محبرة... إنه حالة أو فكرة.. تكونت بهما مزاجات الغرباء بأبعادها العاطفية وشحناتها الكهربائية وانشطاراتها السرية ومراياها المكممة وظلالها المخطوفة، وتقمصاتها الإبداعية وتداعياتها النفسية... يا أيتها اللغة.... يا واهبة اللعنة والغربة والقسوة والألفة... كيف تصبحين وحدك المعنى، واللامعنى، تتمثلين للغريب بيضاء فاتنة كمارية، أو كلسعة الظبا ممشوقة فتية، يشيخ الغريب ولا تهرم بركاتك السحرية، كأنك تعويذة الأبدية....لا منتهى لك وانت المنتهى... لك الماورائيات واللامرئيات واللانهائيات..وللغرباء أن يضيعوا بك كأنك متاهة منشود لمفقودين في صحراء موعودة، كجنة، يستلذون معها لعبة التيه دون أن يتوهوا بها.... ويلاه! «مارية» الغرباء حين لا تجد مدناً تبكي عليك لما تودعها، ولا تحنّ إليك حين تفارقها، ولا تنتظرك حين تعود إليها، ولما تحس بالفقد حين لا تفتقدك الأمكنة، ولما تستوطنك الغربة وتهجرك البيوت، وتنساك ذاكرتك، وصورك العتيقة ومراياك المهملة، تعال إلى جزيرة المارية التي تصاحب أيائلها الغرباء والعشاق والشعراء والطيور المهاجرة، لتكشف لك روحك فوق صفحة الغيب، وتحرس لك قبرك في الظلام، وهي تجر عربات أبولو بين سرير الأبد ونتوء المجهول، هنا فقط تستطيع أن تغفر لإيثاكا فضيلة الوصول ما دامت الخطيئة هي الرحلة التي تشكل البعد الزمني الأخير في مدار العودة ! منافي البياض في مدن البياض.. طوابير لتماثيل محنطة تسحق إنسانيتك لأنها تشفرها برمز رقمي هو في واقع الحال هويتك الوطنية في وطن ليس لك. كل ما فيك غريب عنها، ولا تستطيع أن تغترب أو تكون في مكان غيرها، لا تستطيع حتى أن تعود إلى وطنك لأنك انتميت بشكل أو بآخر لمنفاك، الذي سكنت فيه عمراً ولم يسكنك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©