السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هربرت ماركيوز.. الفيلسوف «العميل»

هربرت ماركيوز.. الفيلسوف «العميل»
26 أكتوبر 2017 02:55
نص: أنجيلو بولافّي* من الخاصيات المهمة المميزة لمسار الفكر الغربي الحديث عدم الركون لتقديس صيرورته التاريخية، وتعهّدها الدائم بالانتقاد والمراجعة والنقض والترميم، فهو في الوقت الذي يصنع فيه أساطيره وينحت فيه أيقوناته، لا يفتأ أن يردفها بمراجعات بنيوية لا تقلّ شأناً عن احتفائه بها. المراجعة هي إحدى السمات البارزة المشهود بها للعقل الديالكتيكي الذي قام عليه الغرب، وذلك بخلاف حالة التقديس الأبدية التي نجدها تستحكم بالعقل الشرقي، الذي يستنكف عن مراجعة أسسه وأساطيره وأوهامه، وإن تقادمت وتسرّب إليها الوهن، ليدور في حلقة مفرغة، طوراً مستحضراً ريادتها، وأخرى مستعيداً إنتاج إشكالياتها دون قدرة على التجاوز والتخطي. الفيلسوف اللامع هربرت ماركيوز هو إحدى تلك الأيقونات البارزة في المسار الفكري الغربي الحديث، لم تشفع له ريادته وتقدميته ومنزعه الثوري من إقامة مراجعات عسيرة لماضيه الفكري والسياسي، فالبناء والتفكيك، والطرح ونقيضه، هي سمات ملازمة للفكر الغربي المستبطن بقوة لـ«نزع الوهم» و«التنقية الأسطورية»، فأن يلهب المفكر الساحات، ويشغل المنابر الفكرية، لن يكون ذلك ضمانة لإخراجه من دائرة الانتقاد والمتابعة، إذ صحيح أن هربرت ماركيوز أحد الرموز البارزة في الفلسفة الغربية المعاصرة، لكن ماضيه السياسي، وتقلّبه الفلسفي، خصوصاً ما أميط اللثام عنه من تنسيق وتعاون، يبلغ أحياناً حد التآمر، مع وكالة المخابرات الأميركية (السي آي إيه) هو شأن مهمّ. في هذه المراجعة الرصينة التي نعرضها للقارئ العربي، على لسان أحد الأعلام الغربيين ـ الفيلسوف الإيطالي أنجيلو بولافّي ـ نكتشف أن هربرت ماركيوز كاتب ذو أبعاد بعد أن تصورنا أنه كاتب ذو بعد واحد. وفي ما يلي نص المراجعة: *** مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت سطوة الشيوعيين في فرنسا وإيطاليا سانحةً لاتخاذ خطوة بوسعها الاستحواذ على السلطة في البلدين، وما كان حضور قوات الحلفاء في أوروبا حائلاً دون ذلك التمشي، غير أن مصلحة الاتحاد السوفييتي حينها كانت تقتضي تجنّب قطيعة معلَنة مع الحلف العسكري. في تلك الأوضاع خلَص الشيوعيون إلى قناعة، مفادها أن بلوغ سدة الحكم متاحٌ عبر التنسيق والتحرك ضمن وفاق حكومي، فقد كان التطور الحثيث للشيوعية، في فرنسا وإيطاليا، نتاجَ الظرف المميز الذي خيّم على البلدين، ففي إيطاليا ـ على سبيل المثال ـ خلّف اندحار الفاشية، جنب أوضاع الهزيمة في الحرب، فراغاً سياسياً. وكانت الكتلة الشيوعية حينها مؤهلةً لاقتناص تلك الفرصة، بوصفها الفاعلة والمؤثرة في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة، هكذا لخّص هربرت ماركيوز (1898 ـ 1979) الوضع العام السائد في أوروبا وتحديداً في فرنسا وإيطاليا، في تصديره لتقرير سرّي تم الانتهاء من تدبيجه في مفتتح شهر أغسطس من العام 1949 بعنوان: «عناصر قوة الأممية الشيوعية»، صيغ بناءً على وثائق معنيّة بالتحليلات الاستراتيجية. جهد استخباري فقد سهرَ على صياغة ذلك التقرير مكتب أبحاث المخابرات التابع لوزارة الخارجية الأميركية في ذلك العهد، ذلك أن الفيلسوف هربرت ماركيوز الذي بادر في سنوات جمهورية فايمار بإدراج وجودية هايدغر (التي غدا لاحقاً أحد أبرز منتقديها) جنب اشتراكية ماركس في جانب الدعامات المتسترة للشمولية، قد تحوّل إلى أيقونة فلسفية لانتفاضة 1968 الشبابية في الولايات المتحدة وفي أوروبا. الأمر الذي كلّفه، في فترة ما، تتبّعاً من قِبل وكالة الاستخبارات الأميركية، رغم التعاون الوثيق معها، وهو المؤلِّف الذائع الصيت لكُتب حائزة على أفضل المبيعات في العالم مثل: «الإنسان ذو البعد الواحد» و«الإيروس والحضارة»، ناهيك عن كونه الناقد الشرس «للتسامح القمعي» لمجتمعات الرأسمالية المتأخرة التي تمثّل التجربة الأميركية نموذجها الأصلي من منظوره. طبعاً ما كان التيقن من ثبوت تعاونه مع المخابرات الأميركية صادماً لحوارييه فحسب، وإن تسرّبت شائعات حول ذلك منذ أيام الانتفاضة الطلابية، لكن مع تفاعل الأحداث لاقى حدث التعاون مع المخابرات حينها انتقادات واسعة في الأوساط الثقافية، وتمت إدانته بصرامة وحدّة، ويمكن أن نذكّر في الأثناء بالاحتجاج العارم إبان إلقاء هربرت ماركيوز محاضرته الشهيرة في روما في مسرح الإليزيو، في شهر يونيو من العام 1969، رفقة دانيال كوهن بنديت زعيم انتفاضة 68 في باريس، الذي طالب الفيلسوفَ الألماني الأميركي بتوضيح «ماضيه الفاضح» مع وكالة الاستخبارات الأميركية، وعلى الأقل منذ أن أُزيح الستار، بين 1975 و1976، عن الأنشطة التي مارسها قسم الأبحاث ومكتب التحليلات (RGA) المعني بوسط أوروبا وقسم الأبحاث والتحليلات ومكتب المخابرات الاستراتيجية (Oss)، اللذيْن جرى دمجهما لاحقاً في وكالة الاستخبارات الأميركية (السي آي إيه)، اتخذت الأمور مجرى مغايراً وخرجت من التعامل المتوتّر والمؤدلَج إلى تعامل علمي رصين، إذ بفضل الأبحاث الرائدة والموثوقة لألفونس سولنر، المنشورة في مجلّدين في ألمانيا سنة 1986 بعنوان «أركيولوجيا الديمقراطية في ألمانيا»، بِتنا على دراية بالضغوطات التي مورست على جمْع من المثقفين اليهود أثناء صراعات الحرب العالمية الثانية، ممّن عبروا الأطلسي فراراً من الاضطهاد النازي بقصد التعاون مع السلطات الأميركية ولتقديم معلومات عن المجتمع الألماني، وعن تداعيات هزيمة القوى الديمقراطية والجمهورية، وعن آليات اشتغال نظام الرايخ الثالث، فقد كان فرانز ليوبولد نيومان من أوائل الذين وفّروا تحليلات نظرية معمّقة تتعلقّ بالاشتراكية القومية النازية، ظهرت منذ سنة 1942، بعنوان: «بيهيموث: بنية الاشتراكية القومية وتطبيقاتها»، فضلاً عمّا قام به أوتو كيرشهايمر، تلميذ الاشتراكي الديمقراطي كارل شميت والفيلسوف هربرت ماركيوز، وقد استمر جميعهم في التعاون مع الحكومة الأميركية حتى بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، وذلك لتيسير عملية تنقية ألمانيا من آثار النازية، ليُستأنَف ذلك التعاون مجددا مع اندلاع الحرب الباردة في أوروبا، وذلك بقصد صدّ الخطر الشمولي السوفييتي الداهم. التحوّل العظيم في مرحلة أولى مبكّرة تعذّر تمييز صائغي تلك التحليلات الاستراتيجية لفائدة المخابرات الأميركية، واستعصى تحديد هوياتهم بدقة لضبط ما قاموا به بخصوص الأوضاع الثقافية والسياسية في أوروبا، أما الآن وبفضل الاشتغال الدؤوب على الأرشيفات المتنوعة الذي خاضه الباحث الإيطالي رافائيللي لاوداني، خصوصاً من خلال أرشيفات ولاية ماريلاند في الولايات المتحدة، تيسّر تسليط أضواء كاشفة على محور رئيس على صلة بالهجرة اليهودية الألمانية، «من الضفة إلى الضفة»، كما أطلق عليه هنري ستيوارت هوغز، وبالتالي بِتنا على دراية بأنواع المصادر والوثائق التي جمعها لاوداني، والتي أصدرها في مجلد باللغة الإنجليزية أولاً، ناهز 800 صفحة، بعنوان: «تقارير سرية عن ألمانيا النازية.. مساهمة مدرسة فرانكفورت في مجهود الحرب»، من منشورات جامعة برنستون، 2013. لتصدر ثانية بالألمانية خلال هذا العام تحت عنوان: «Im Kampfgegen Nazideutschland. Die Berichte der Frankfurter Schule für denamerkanischen Geheimdienst 1943-1949» (منشورات كامبس فرلاغ فرانكفورت / نيويورك، 2017)، ضمن السلسلة الرسمية التي يصدرها معهد الأبحاث الاجتماعية بفرانكفورت، الذي يديره في الوقت الحالي آكسيل هونيث الذي خلف الفيلسوف يورغن هابرماس. خيار إصدار الكتاب في ترجمة ألمانية، أي باللغة الأم للكتّاب المعنيين، ما كان عفوياً أو عرضاً، بل كان له مبرّر أسلوبي وكذلك مسوّغ سياسي ورمزي، وعدم الاقتصار في ذلك على النصوص التي صاغها هؤلاء الكتّاب بالإنجليزية، وبالفعل لمّا صاغ كلٌّ من هربرت ماركيوز وفرانز نيومان وأوتو كيرشهايمر تقاريرهم لفائدة المخابرات الأميركية، كان الثلاثي يتكلم ويعبّر بـ«لغة إنجليزية ركيكة» (broken English)، تلك اللغة العرجاء التي ميّزت المهاجرين الجدد في ذلك العهد، وهو ما حال بالتأكيد دون الارتقاء إلى تعبيرات راقية وعميقة في الكتابة، وما قلّص من فرص التلقي وجعل الاطلاع على نصوصهم في منتهى العسر، بل حال أحياناً دون فهم فحواها ومقاصدها، ناهيك عن أن إدراج مقتطفات من الصحف والمجلات والكتابات الألمانية والاستشهاد بمقولات متداخلة أوقعت صائغي تلك التقارير في سلسلة من المبهمات وأضفت غموضاً على النصوص، فضلاً عن وقوعهم في سلسلة من الأخطاء الفاضحة أحياناً، على غرار استعمال مصطلحات ألمانية مختلفة المعنى بمقابل عبارة إنجليزية وحيدة، لكنّ نشرَ النص بالألمانية وحرص معهد الأبحاث الاجتماعية بفرانكفورت على ترجمته إلى اللغة الأمّ للكتّاب المعنيين فيه سعيٌ أيضاً لاستعادة كتابات الشتات الألماني، وهو من هذا المنظور اعتراف رمزي وردّ اعتبار أخلاقي لمن جابه ألمانيا النازية وناضل ضدّها، فقد شكّل الاعتراف بالنشاط السياسي والثقافي لمن اختاروا المهجر واختبروا واقع المجتمع الأميركي إقراراً بإسهام هؤلاء في إنجاز ذلك التحول العظيم، أو كما وصفه المؤرخ هانريش وينكلر بـ«المسار الطويل نحو الغرب» الذي جعل من ألمانيا الراهنة بلداً ديمقراطياً وليبرالياً. مراجعة متأنية للتاريخ وبالفعل ما قام به الباحث رافائيللي لاوداني برعاية معهد البحوث الاجتماعية بفرانكفورت يُعَدّ إسهاماً قيّماً، فهو علاوة على كونه أرشفة علمية لجرح غائر، سياسي وفلسفي، تعرضت له ألمانيا في أربعينيات القرن الماضي؛ هو إعادة بناء للأحداث أيضاً من قِبل لاوداني في مقدّمته الموسعة والرصينة، من خلال التعرض لأدْوار كلّ من أدورنو وماكس هوركهايمر وفريدريك بولو ونيومان وكيرشهايمر وماركيوز، فقد ذهب شقٌّ من المراجعين لتلك الحقبة في تفسير ظاهرة النازية كونها جانباً من سياق تحول عام، حوى في طياته سواء الشيوعية السوفييتية أو المجتمعات الديمقراطية الغربية، متحدثين في ذلك عن نظام اجتماعي جديد «Staatskapitalismus»، حلّت فيه مقتضيات السلطة بشكل نهائي بدل الربح. وهي بخلاصة رؤية كارثية ومتشائمة جمعت كلاً من هتلر وستالين وروزفيلت، وبالمثل شملت أوسشويتز وغولاغ وهوليود، وهو ما تولّدَ منه الوعي العميق المسمى بـ«ديالكتيك التنوير». في حين اقتنع شق آخر من المراجعين بأن النازية هي شكلٌ من أشكال الرأسمالية الاحتكارية ذات التوجه الشمولي، كان ينبغي أن تقف في وجهها مناهضةٌ باسم قِيم التنوير والتحرر السياسي والاجتماعي. إنها الدواعي التي بررت مجابهة «الماركسية السوفييتية»، عقب سقوط النازية، وجعلت من الضروري انبعاث ماركس «حقيقي» بقصد الوقوف ضد أشكال التهديد الجديدة لشمولية موسكو، مع الاحتفاظ بالمنزع النقدي المسلَّط في الآن نفسه على التردي الحاصل في الرأسمالية الأميركية المتأخرة. ماركسي في الـCIA يمتاز هربرت ماركيوز بين أقرانه الفلاسفة، باتجاه عقلاني صارم، فكانت نظريته النقدية في مواجهة المثالية والذاتية والبرجوازية، فحاربها في أكثر المواضيع خصوصية مثل: الماهية والوجود، العقلاني واللاعقلاني، المادية والمثالية. وأكثر ما عرف به هو تنظيره لليسار الراديكالي وحركات اليسار الجديد ونقده الحاد للأنظمة القائمة. ولد ماركيوز (1898 - 1979) في برلين لعائلة يهودية، خدم في الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى ودرس في جامعتها وحصل على الدكتوراه من جامعة فرايبورغ عام 1922، وعمل بعدها لغاية عام 1928 في بيع الكتب، ثم أصبح مساعداً لمارتن هايدجر في دراساته، وكان منتسباً لمعهد الدراسات الاجتماعية في فرانكفورت، ذي التوجه الماركسي. وبعد تسلم الحزب الاشتراكي القومي (الحزب النازي) السلطة قام الحزب بإغلاق المعهد وسافر ماركيوز بعدها إلى سويسرا لمدة عام، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وانضم إلى معهد الدراسات الاجتماعية هناك في جامعة كولومبيا عام 1934. وخلال الحرب العالمية الثانية تعاون مع أجهزة الاستخبارات الحربية الأميركية (مكتب المعلومات الحربية ومكتب الخدمات الاستراتيجية) في الدعاية المضادة للنازية وتفكيك النازية. خلال الخمسينات درّس الفلسفة والسياسة بشكل متتابع في جامعات كولمبيا وهارفارد وبرانديس وفي جامعتي كاليفورنيا. ............................................ * فيلسوف إيطالي متخصص في الفكر الألماني، والمقال صادر في «ريبوبليكا آر2» الإيطالية بتاريخ 20 يوليو 2017.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©