الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمد بنيس يستنطق الجسد

محمد بنيس يستنطق الجسد
29 سبتمبر 2010 20:23
أصدر الشاعر المغربي محمد بنيس كتابه الجديد “كلام الجسد”، وذلك عن دار النشر التي أسسها “توبقال”. والكتاب الذي جاء في 157 صفحة من الحجم المتوسط والمزين بلوحة للفنان العالمي هيمت نشر ضمن سلسلة “ذاكرة الحاضر”. في هذا الكتاب يغوص محمد بنيس ليستنطق الجسد ليصل إلى مدى علاقته بالإبداع وبالشعر خصوصا، وبنيس يضع الجسد في لبّ الإشكالية العويصة، إشكالية رافقت قلق الشاعر منذ سنوات. وعن هذا القلق يقول في مقاله الافتتاحي لهذا الكتاب والتي عنونها بـ”استقبال الشّطْح”. يقول بنيس “كنت، منذ نهاية السبعينيات، وضعت الجسد في مركز القصيدة. لم يكن ذلك اعتباطا ولا نزوة. كتابات وأعمال دلتني على معنى الجسد الواقعي، الحي، في العمل الشعري. وكان ديوان “في اتجاه صوتك العمودي” ثم “بيان الكتابة” شطحا وافدا على القصيدة وعلى فكرتها. هكذا أحسست الجسد وهو ينطق بكلماته الأولى. لم تتأخر آراء معترضة على الإعلان على نفسها، بحجة الحقيقة الشعرية، التي تنتصر للفكرة على الكلمات، للمفهوم على الجسد، أو للحقيقة الإيديولوجية، التي تعبر عن تقدمية مريضة. أنظر اليوم إلى مقاومتي لتلك الآراء المعترضة فأجد المعرفة وحدها كانت تؤيدني وتحميني من الندم أو النكران. لا شيء أوقف الجسد عن الكلام، ولا منع الجسد من الاستمرار في اكتشاف واستكشاف كلامه. سنوات كان الجسد يبحث عن كلامه، الذي لم يكن رهن إشارتي ولا موضوعا في حُقّ من أحْقاق البلاغة. لا شيء من ذلك. كان الجسد هو نفسه الذي يدُلني على كلامه، في الكتابة. وأنا أتتبع الصوت واهتدي بالأثر. وإذا كنت أرى أن الكتابة هي التي لازمت ممارستي الشعرية وغير الشعرية”. لذلك، “فإن النصوص، التي تجتمع في هذا الكتاب، كانت تنبثق مرة بعد مرة. مع الحواس تنبثق”. فليس الجسد بالنسبة لمحمد بنيس “سوى هذه الحواس وهذه الأعضاء التي بها يحسّ الجسد نفسه وغيره في آن”. ويتساءل محمد بنيس قائلا “أليس الجسد هو المادة الأولى لحياتنا؟ سؤال يفيد أن الجسد صنو الحياة. فلا حياة بدون جسد ولا جسد بدون حياة. عندما ينتفي الجسد نكون أمام الموت. والموت وحده. ولأن الجسد حيّ فإن كلامه لا نهائي. كلام الذات التي لا تعرف الاستقرار. رحيلها دائم، رحيل في المجهول. ولذلك فإن الكلام، كلامها، كلام الجسد، مهدد أبدا، من شك إلى شك، ومن مضيق إلى مضيق، حيث الحبسة تتكلم، والصمت يعيدنا إلى البدئي، وجها لوجه مع ما لا يسمى. وليس لك، عند ذاك، سوى أن تستقبل الشطح الوافد منك عليك، كلاما يمجد الهذيان، ينقلك إلى المنفلت، المتمرد، المخيف. هكذا يظهر الجسد أمامك في المكتوب، يمتدّ في متعة وشهوانية لا حدود لهما. تخرج الكلمات على ذاتها. تضيع. فلا شيء غير الليل، فيها وفي الكلام. آنت لا تدري أي قوة جذبتك وقادتك إلى هناك. تتبع الكلام في جسدك، تتشظى، بين ليل وليل، ولا علاج لك من كلام هو أنفاس الحياة فيك. فلا تندم، ولا تستعجل. كلام كان ينبثق في غفلة عني. ويدي كانت تلازم تلك الانبثاقات. مرة بعد مرة تكتب مذكرات، في شكل نصوص لها وضعها الشخصي. لم أمنعها ولم أتخل عنها. تركتها حرة. فهي كانت تفاجئني بعالم مجهول لا أعرف أين كان من قبل يختفي أو كيف كان يهجم في أوقات مباغتة. توترات في أقصى حالاتها. يدي تكتب المنفلت، المتمرد، المخيف. كلام ينفجر شطحا بين الأصابع. وأنا استقبله. ذلك نفسه ما يأمر به قارئه، الذي يقبل بجسد قارئ حي، يستقبل بدوره كلام الجسد، الشطح، فلا يتخلى أو يتراجع. سيكون مع المحسوس، الحيوي، الراقص. وكما أن كلام الجسد لا نهائي فإن قراءته لا نهائية. لها التوليد والتأويل. وفي كل مرة تدل على فضاءات مقبلة من المستقبل، في المستقبل”. في البدء، ينطلق الشاعر محمد بنيس ليجس نبض يده، محاورا هذا العضو الحساس في جسد الإنسان، هذا المخلوق الخلاق الذي يصنع الجمال كما يصنع الرعب أيضا . يقول محمد بنيس “أجدني تلقائيا في حديث مع اليد، يدي. لم أنتظر أحدا ليقدم لي يدي، في مناسبة من مناسبات الحياة الاجتماعية أو الثقافية. هي يدي التي كنت عثرت عليها، في صباي، وأنا أخط بقلم القصب على اللوح. قلم وصُمَاق. واليد الباردة، في صباحات الشتاء، زرقاء من شدة البرد. بصعوبة تضغط الأصابع على القلم وتخط كلمات، هي كلمات القران. كلمات. لم أكن أعرف لا معنى الآية. ولا معنى السورة. كلمات. ولا تطلب مني أكثر مما أنا كنت أجتهد في التعرف عليه. طائفة من حروف تضيع مني سماتها. والحروف هي كلمات، مجردة من المعنى. هي يدي. في حديث معها. ربما كنت قريبا من العالم وأنا أتحدث مع يدي، ربما كنت بعيدا. من منا يدرك أسرار الذات وأسرار العالم؟ من منا يقدر على الجزم بحقيقة ما يرى وما يسمع؟ أبتعدُ عن ترهات كانت صالحة لعقولنا الفطرية، ذات يوم؟ فإذا هي ليست نحن ولا هي العالم. أتحدث مع يدي. شخصيا، ولا أستغرب. يد وحديث شخص مع يده. ما الذي يزعجك في الحالة؟ نعم. يمكن أن تعود من جديد إلى من يصدرون الأحكام، الواقفين وراء الباب، الحاملين نعوشا لكل من يحدث يده. وفي النهاية أقول: هذا لا يهمني. صباح في حديث مع اليد، يدي. أحس أنني أطير بقوة ما أنا فيه. بدون جناحين ولا خيال. في داخلي قوة ترفعني من فوق الكرسي وتسبح بي خارج الغرفة والجدران. جسد مشدود إلى هواء. والهواء في لون أزرق. سماء. هي النفس. وهي الهذيان. أنا من أهل الهذيان، في لقاء مع يدي. ولا أبحث عمن يمكن أن يعيدني إلى رشدي، كما يقولون. العودة بالنسبة لي أخت الهذيان. تلك هي النشوة، التي أصبحت احميها من الانكشاف. نشوة مع يد، وهذيان حديث مع اليد. عندما يبدأ الصباح وتحضر اليد، تكون العين قد انخطفت والنفس في جهة أخرى من الكلام. الهذيان أجمل الكلام. من نفس إلى صاحبها. في حديث غير مفهوم، منفصل عن العالم، عن العذاب اليومي، عن الألم الذي لا ينحد. وأنا في حديث مع يدي. تاريخ هذه اليد. لكن ما علاقة هذا التاريخ بيدي؟ لا أسأل، بل أثبت ما ننساه، في زمن يتخلى فيه الشاعر عن اليد. بعنف يبترها. بدون سيف ولا نطع ولا سيّاف. الحياة التقنية. والاستهلاك. والإعلام. والطرق الكبرى للمواصلات. ما يليق ببتر لا أحد ينتبه إليه. حتى الشاعر لم يعد يحس بألم بتر يده. بنفسه يضع اليد رهن إشارة الآلة، ثم يمضي دون أن يلتفت إلى ما سيقع لها. هو يتركها هناك. وهي من بقايا زمن قديم، زمن المحبرة، والقلم، والممحاة، والمنشفة، واتساخ الأصابع، والتعب في السيطرة على الورقة. يترك الشاعر اليوم يده للآلة، يبترها بحسب ما يلائم الآلة. ويقول بنيس عن يده: “فأنا غير متعجل. أريد أن يطول هذا الحديث مع يدي. وهو يتبع شكل الحلزون. يدور ليدور، دون أن ينتهي أبدا. تاريخ يد، تكتب. يد الشاعر، في كل لغة من اللغات المكتوبة. يد وورقة وقلم. حتى تبدأ القصيدة. ذلك ما يحدث في الصباح، بالنسبة لي على الأقل. وأفكر في الصين. في الشاعر الصيني القديم، في عهد الطانْغ، الذي لا تنفصل حركة الخط لديه عن حركة اليد. وصوت الفراغ الأسمى في نفس الشاعر. إنه لا يتكلم. يكتب بيد، يخط بها. وهو يتبع حركة كل من النفس والإيقاع، جامعا بين النظام الكوني وبين المصير البشري في مقطع شعري، موجز. ذلك هو إيجاز القصيدة الصينية”. وبرأي، دائما فيد “الشاعر الصيني تماثل جلالة يد الشاعر الفرعوني، الشاعر الأول في الحضارة البشرية. على ورق البردي الألوان والمعادن. الذهب. لأجل كتابة، هي القصيدة. واهبة الخلود. إيزيس، والموكب والشمس والنيل. لكل هذا كانت القصيدة ألآهة، إلآهة الآلهة. هي التي أنشأت وصورت. هي التي دلت وأخبرت. هي التي أمرت وملكت. هي النقطة وهي اللانهاية، في قصيدة فرعونية، كتبتها يد الشاعر ترديدا لموكب لا يتوقف في طريق الخلود. معجزة. قصيدة. تخشع لها النفوس”. ويدرك محمد بنيس أن سر “هذه اليد أقوى وهو إذ يقول . يلزم التهيؤ للأبعد في الظهور أمامك، فيك. يد تكتب وأنت اليوم تنساها، تلقي بها إلى الحاسوب، تبترها بنفس راضية. قطعت معها الود، الذي كان، والحنين الذي كان، والوصل والهجر، ذلك النشيد الذي كان يحرقك، آناء ليل يظل ليلا على الدوام”. يصل بنا محمد بنيس إلى كتابة صوفية تنفلت من عقالها حين يقول “أحس بجسدي خفيفا. يفلت من بين أصابعي. وذلك التعب، الذي كان يستولي علي، يتحلل شيئا فشيئا ليصبح الجسد والقصيدة مُنفردين على صفحة من ديوان أو كتاب. أحيانا أنسى العوامل الخارجية التي التبست بها القصيدة وأحيانا تعود في تركيب عجيب. وفي الحالين معا تنبثق القصيدة يقظا لأنها قادرة على أن تهبك ما لم تهبك من قبل. تنسيك القصيدة وتسبيك. قصائد من بلاد عربية متباعدة، ولكنها في القراءة تحولت إلى لحظة شعرية لا تخشى اختلافاتها، بحسب الشعراء. كل واحد منهم وضع بصمته على اللغة ومضى ليبقى ما يجب أن يبقى”. كتاب محمد بنيس هذا إضافة أخرى إلى أعمال الشاعر التي ستظل مورقة لزمن طويل، وهو كتاب يصنع فيه أسئلة قلقلة ربما يأتي في يوم من الأيام من يجد لها جوابا أو أجوبة حاسمة من الجيل القادم. محمد بنيس في كتابه هذا إنما يستدرج القارئ ليدخل به في غابة من التساؤل والمتاهات الوجودية الصعبة، وهي متاهات تغوص في الواقع والتفاصيل الغامضة للأشياء والحالات الإنسانية، خاصة في ما يتعلق بالعلاقة المتشابكة بين الجسد وحامله، بين الحواس وما ينبعث منها من أسرار، وأفكار، وأشعار، ولوحات، وحكم تصنع المجد الإنساني وترقى به وتحول الإنسان الهمجي إلى إنسان مبدع وخلاق. يتطلب كتاب محمد بنيس هذا أكثر من قراءة، لأنه كتاب صعب، لا يعطي فواكه الحكمة إلا لمن طلبها بأناة وصبر، لأن هذا الكتاب ينطق شطْحا. وقد تشكل كتاب محمد بنيس “كلام الجسد” من 18 مقالة حملت العناوين التالية “يد الشاعر”، “الكتابة بـ”شيء من حتى”، “سحب”، “طريق الوشوشات”، “موسيقى”، “كتابة المذكرات”، “القراءة أو المتاه”، “عمل الشاعر”، “الخلوة”، “القصيدة كعطش للحرية”، “كأنه التعب”، “يد تغيب عن الأدب”، “في الأمكنة”، “وهذه الشكوك”، “الشعر والصمت”، “بين أزرقين”، “الرحيل”، “وما لهذه الحنجرة؟”، بالإضافة إلى المقدمة والملحق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©