الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النثر سيّد المشهد الشعري

النثر سيّد المشهد الشعري
29 سبتمبر 2010 20:18
تشهد الإمارات في الآونة الأخيرة حركة نشر إبداعية لافتة برزت من خلالها مجموعة من الأسماء الإبداعية التي دخلت معمعة النشر، وهو أيضاً ما تشهده ساحات ثقافية عربية أخرى لأسباب كثيرة أتاحت فرصة النشر التي كانت عزيزة المنال في سالف الأيام، هنا قراءة في مضامين بعض المجموعات الشعرية التي رأت النور ودخلت في العلن عبر مشروع (قلم) في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، هذا ـ المشروع ـ يطمح إلى سبر أغوار الحالة الثقافية المحلية واستجلاء المخبوءات من المواهب التي لم تجد ربما فرصة لنشر كتاباتها. يحفر «قلم» في بئر الإبداع لاستكشاف الكتاب الجدد والأخذ بأيديهم إلى باحات العمل الإبداعي الواسعة، لكنها خطوة أولى نعتقد أنه ينبغي أن تتبعها خطوات أخرى من الفاعليات الثقافية الأخرى خاصة النقاد الذين على عاتقهم يقع واجب إضاءة هذه الأعمال وتقديمها للقراء في ثوب من النقد الموضوعي من دون الوقوع في شرك الاحتفاء المبالغ به أو الإهمال الذي يقتل هذه الورود التي تتفتح حولنا وتنشر عبقها بيننا، وتطرح علينا أيضاً رؤيتها لمعنى الإبداع والكلمة وغاياتها. خطاب ذاتوي عند محاولة رصد أو تتبع البنى المضمونية في هذه المجموعات الشعرية (نتحدث عن المجموعات الجديدة التي لم يسبق لأصحابها أن أصدروا مجاميع شعرية، أو أنها المجموعة الثانية بالنسبة إليهم) يلاحظ القارئ بشكل عام غلبة التجربة الذاتية وبروزها في النص ليس فقط لجهة الاشتغال الموضوعي بل لجهة البناء الفني والأدوات الكتابية، والأعمال في الغالب الأعم تبوح بما تمور به “الأنا” الشاعرة من هواجس وهموم وأسئلة مفتوحة على أمداءات لافتة حيناً ومألوفة حيناً آخر. والأدب بشكل عام ليس سوى تجربة ذاتية يجري تصعيدها وصوغها فنياً بحيث تصبح إبداعاً يخاطب القارئ، فتتحول بالتالي من مجرد تجربة محصورة في إطار الذات الضيقة إلى خطاب فني يتعاطى معه المبدع في مستويات متنوعة تراوح بين الانفعال والإعجاب والرفض والقبول والاستشكال وغيرها. وفي هكذا تجارب تضيق المسافة بين العام والخاص بحيث يتحول الهم الصغير إلى ثيمة مركزية تحتل بؤرة النص الذي يتلامس مع قضايا وجودية أو إنسانية أكبر، فيما يبقى أحياناً أخرى في إطار البوح العاطفي أو الفضفضة ـ إن جازت لي العبارة ـ التي لا تتصاعد إلى موقف فكري وفلسفي يضيء ما حول الذات من معطيات وقضايا مجتمعية أو فكرية، وفي كل الأحوال تبقى الأبعاد الإنسانية ماثلة في النصوص بوصف الذات، كل ذات، كوناً مصغراً ينطوي فيه العالم الواسع، بالطبع ليس على طريقة ابن عربي لكن من منطلق أن الذات المنفعلة بالماحوْل هي في النهاية جرم من الأجرام التي تصنع جدولها الإبداعي المأمول في قادم الأيام. البطولة للنثر في الشكل الفني تتسيد قصيدة النثر معظم الإصدارات الحديثة، وباستثناء الشاعرة نجاة الظاهري التي تجمع بين الشكل التقليدي أو الخليلي للقصيدة وبين قصيدة النثر أو الشعر المرسل، تبدو الممارسة الإبداعية للشعراء والشاعرات منحازة إلى كتابة حرة، منفلتة من الإيقاعات والأوزان والقوافي، بل وحتى من الموسيقى الداخلية وكثافة اللغة والعمق الدلالي التي حرص عليها الشعراء الإماراتيون المؤسسون الذين كتبوا قصيدة النثر واعتبروها خياراً فنياً لهم... وباستثناء طريقة بناء النص الشعري لغوياً واستخدام الضمائر أو التقديم والتأخير وترك الفراغات بين السطور وتقسيمات النصوص وغيرها من المكنات البلاغية أو الأبنية الشكلية يصعب العثور على تلك السمات التي لطالما عرفت بها قصيدة النثر، أو على موسيقى أو توتر شعري درامي متصاعد مع الحالة الشعرية. فأغلب النصوص تقوم على فكرة النصوص القصيرة أو القصائد الومضة، تومض سريعاً فتصل للمتلقي أو تضل الطريق بسبب الإغراق في التراكيب الملغزة أو شديدة الغموض أو الصياغات التي لا يجمع بينها اتساق أو ينظمها خيط ناظم، من دون أن يعني ذلك التعميم، فثمة نصوص جميلة ولافتة وطازجة تطرح سؤالها العميق على معنى الإبداع والحياة والوجود. أوجاع وجودية من بين المضامين المتكررة في النص الإبداعي تبرز قيم عدة منها على سبيل المثال لا الحصر: الانشغال بالأسئلة الوجودية والبحث عن مكان الذات في العالم المحيط/ آلام الروح الأخرى كالشعور بالفقد والعزلة والأمل والحب والنسيان وغيرها مما يطرأ على الذات من حالات وجدانية/ العلاقة مع النصف الآخر (رجل/ امرأة)/ الرغبة في ممارسة حرية أوسع/ نقد التغيرات التي تحدث في العالم الواقعي وتجاوزها إلى حالة حلمية لا تخلو من نجاحات أو إخفاقات/ الحنين إلى الماضي أو التوق إلى حالة محلوم بها/ الغربة عن الذات والواقع الموضوعي. وتتبدى صورة الرجل للمرأة الشاعرة/ المرأة للرجل الشاعر بوصفه/ بوصفها معادلاً للحياة والحلم والأمل، به تحلو الحياة وتستعيد الذات علاقتها مع الوجود، تلك العلاقة المهتزة التي تكتنز بما يعتور النفس من هذيانات وأحلام ورؤى وما يتسلق الروح من الكآبات والإحباطات والموات، وهنا يلمس القارئ في الكتابات كماً هائلاً من الحزن والوحشة والتشظي والشعور بالغربة مبعثه هذه العلاقة الثنائية المعقدة التي تتجسد في حالة من البوح للتعبير عن مكنونات الذات وأشواقها وأتواقها ونوازعها الشعورية، وسرعان ما تتحول عند الفراق إلى حالة ندمية أو رثائية أو نكرانية ترفض الحب وما يجلبه من آلام وأحزان... وفي حالات نادرة تبرز حالة احتفائية بسعادة نادرة أو اكتمال عاطفي يستذكره الشاعر/ الشاعرة وهو يغلق روحه على حدث مضى وعبر سريعاً. مع ذلك، ثمة أسباب أخرى للحزن والأسئلة والتوهان وراء إجابات تبدو بعيدة، بعضها يتعلق بالحياة الإنسانية وما تشهده من عذابات وخذلان وغدر وغيرها من نوازع النفس البشرية (راشد أبو غازيين في “أخرج متنكراً بإغماءة”)، وبعضها يتمظهر في المآسي التي تعيشها البشرية ويتجرعها الشاعر لتنعكس مراراتها على النص وأجوائه ومناخاته، وبالأوطان وما تتعرض له من العسف والقهر (علي الشعالي في “وجوه وأخرى ضائعة”)، لكن الأكثر حضوراً هو السؤال الوجودي الذي يؤرق الشعراء على نحو واضح ويبرز في جميع تفاصيل النصوص وتضاعيفها تقريباً (جمال علي إبراهيم في “حضارة الرماد”) الذي يشيد نصاً فدائحياً ممتلئاً بالإيحاءات والدلالات في إهاب فني وخصوصية إبداعية وبقدر كبير من الشعور بالغربة والاغتراب، بل والانسحاق تحت وطأة عالم يفقد فيه روحه وجسده وذاكرته مما يجعلها تستحق قراءة مستقلة فيما بعد. روح نقدية تحضر في نصوص الشعراء الجدد، إن جازت التسمية، غربة شعورية تتجلى في تمظهرات عدة، لعل أهمها تلك الروح النقدية والنزوع إلى رفض الكثير مما يجري، والتي تؤدي في النهاية إلى قطيعة مع العالم البرّاني والغوص أو الارتداد إلى العالم الجوّاني كونه الملاذ ومنطقة الحماية التي تجد فيها الذات الشاعرة أمنها وأمانها، بل إن القطيعة تصل إلى الشكل الفني أيضاً، حيث مغادرة الشكل التقليدي للشعر إلى نص مفتوح، وكأن الغربة الداخلية التي يشعر بها الشاعر لا تعبر عنها إلا قصيدة مختلفة، مغتربة هي الأخرى عن موروثها القديم... ما يدفعنا إلى التساؤل حول مدى صدفوية أو قصدية أن تكون القصيدة الحرة هي الخيار الفني أو الشكل التعبيري لهؤلاء الشعراء. ويبدو أن الشعراء لم يلاحظوا أو يعيشوا فقط تلك البثور الناتئة على وجه التجربة الشخصية في علاقتهم مع المكان، بل لاحظوا أيضاً ذلك التغريب في التجربة العامة التمدينية أو التحديثية التي شهدتها البلاد، كما أنهم لم ينتبهوا إلى فقدان الهوية الذاتية فقط، بل انتبهوا إلى فقدان الهوية الحضارية فيما يجري حولهم من أبنية (فكرية وثقافية واجتماعية) وأبنية مادية أي معمارية تغيب عنها ملامح الحارات والفرجان وما يرتبط بها من أمكنة وذكريات، وإن ظهرت مثل هذه الانتباهات عبر تداعيات الطفولة وذكرياتها والأمكنة الماضوية وحميميتها (فاطمة المزروعي في مجموعتها بلا عزاء، ولميس المرزوقي في مجموعتها النقطة السوداء في جيبي، وجمال على إبراهيم في مجموعته حضارة الرماد).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©