السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فكرنا العربي المعاصر بين عسل الأسطورة ودماء السياسة

فكرنا العربي المعاصر بين عسل الأسطورة ودماء السياسة
8 فبراير 2008 23:59
لعلها فرصة مناسبة أن يتشارك بعض المفكِّرين العرب فيما بينهم بحوار فكري وفلسفي ثنائي يجعل من الحراك العربي الواقعي مادة رئيسة فيه· وهذا ما أقبل عليه المفكِّر السوري الراحل تركي علي الربيعو والكاتب السياسي العراقي فاضل الربيعي في دراسة حوارية كان موضوعها العلاقة بين الأسطورة والسياسة· فكتب الربيعو عن (العُنف، السياسة، الميثولوجية)، وعن (وجه الشبه بين الساحر والسياسي)، بينما كتب العزاوي عن (العسل والدَّم: من الميثولوجية إلى السياسة)، وعن (الثالوث المقدَّس: العُنف، الأضحية، السُّلطة)· تحدث تركي علي الربيعو عن موقع العنف في الحركات السياسية المعاصرة التي تدين بوجودها إلى أشكال ميثولوجية مضمرة، وذكر كيف يتمفصل العنف مع الثقافة في معظم الحكايات الأسطورية التي ينسج العنف بنيتها، ثم يعاد تمثيله بالطقوس المقدَّسة وتقديم الأضاحي· كما تحدَّث عن الإسقاطات السياسية الميثولوجية لفكرة الخصم المناوئ الذي تمثَّلَ في أساطير بلاد الرافدين وبابل، وبيّن كيف أُعيد إنتاجها في السياسات العربية المعاصرة بأشكال من العُنف التبادلي والإقصاء، مثلت في العراق ومصر وسورية ولبنان· يقول الربيعو: في معظم الميثولوجيات يشكل ذبح مخلوق ميثولوجي من قبل مخلوقات ميثولوجية أخرى مكتسباً من جهة، يجري الحفاظ عليه من خلال الطقوس وإعادة تمثيله مع تلاوة النَّص الميثولوجي، ومن جهة أخرى يعتبر فاتحة لنظام جديد تمثل الميثولوجيا متنه؛ فمنه تنبثق مجمل القواعد والمحارم والمظاهر الثقافية التي سيتمسك بها الإنسان لاحقاً· من هنا يرتدي هذا العُنف البنيوي والمكتسب طابع العُنف المؤسس، والذي يمثل أثمن ما يملكه الإنسان بداية ويهمه الحفاظ عليه· ومن جهة أخرى يظهر العُنف المؤسس في متن الأسطورة ليس تمييزاً من الأول، بل تأكيداً له على أنه يمثل بنية الثقافة· وبعد أن يستعرض الربيعو الميثولوجية الرافدية والعُنف السياسي المؤسس في ''ملحمة أتراحاسيس''، والعنف التبادلي في ''ملحمة جلجامش''، ثم العنف السياسي المؤسس في الميثولوجية الإسلامية وينتهي إلى القول: في معظم الميثولوجيات تتكشف الأضحية (القرابين) عن سر، لنسميه سر الحياة· فمع الأضحية وما يرافقها من طقوس، ينتقل المضحي إلى رحاب المقدَّس، تحل عليه بركاته، وتتكشف له الحقيقة، التي تضمنها عملية التضحية من حيث هي عملية وصل بين إله ومضحّ· ثم يقرِّر الربيعو أن المجتمعات القديمة اهتدت إلى سرِّ العُنف، وهذا ما دفعها إلى تغيير مجراه من خلال الأضحية الحيوانية· أما المجتمعات الحديثة التي تاهت عن السر، فلا زال سيل العُنف الدنس، الذي هو عنف الإنسان ضد أخيه الإنسان يغطي وجه البسيطة· ولذلك ليس غريباً أن يكون قرننا الماضي، وبداية الألفية السعيدة كما يظن، شاهداً على عنف لا ترتوي نصبه بألوف وملايين الضحايا؛ فالمسوخ الحديثة المتعطِّشة للحم ودم البشر، تملأ سقف التاريخ، ومن شأنها أن تكتب نهاية الإنسان والتاريخ معاً· ويصل الربيعو إلى أن سلوك الحزب الجماهيري لا يختلف كثيراً عن سلوك الجماعة الدينية الميثولوجية، لا بل إن الحزب الجماهيري كثيراً ما يستعير بواعث التعبير عن تجربته من الجماعة الدينية· وإن الفكر السياسي المعاصر لا يزال يستعير الكثير من بواعث التعبير عن نفسه وتجربته من الميثولوجية القديمة· وتحدث المفكر الدكتور فاضل الربيعي في بحثه ''العسل والدم: من الميثولوجية إلى السياسة'' عن تجليات الأساطير على الوضع الحالي في العراق، وصوَّر كيف أفصحت الأساطير عن نفسها بأشكال مختلفة من العنف، متلبسة بالحركات العلمانية أو الليبرالية أو الماركسية أو الإسلامية· كما بحث الربيعي في الوضع السياسي العراقي بعد نيسان ،2003 والذي جسَّد نمطاً من العنف الدموي· وتحدث كذلك عن التاريخ الاجتماعي السياسي العربي الذي يعجّ بالأساطير المخزونة بين القبائل والجماعات، ليبين أن هذا التاريخ لا تصنعه العقائد والأهداف الكبرى، بل تصوغه المعتقدات الشعبية القديمة والأساطير التي تزخر بطاقة هائلة لتحريك الحشود وتوجيه مشاعر الجماعات إزاء الأحداث المأساوية· حيث كشف سقوط بغداد أن مجتمعاتنا المعاصرة ما تزال تعيش في قلب الميثولوجية، وأن العرب ما يزالون قادرين على إنتاج الأساطير وتوليدها، إنتاجاً مرتبطاً بظاهرة الحشود الجماهيرية وعقيدة المخلص والمهدي المنتظر· يسأل الربيعي: هل أصبح الواقع عديم المعنى، بينما أصبحت الميثولوجية أكثر قوة وصلابة؟ وهل انعدمت أي قيمة للمجتمع الحي الواقعي، بينما أصبح أبطال الأساطير والروايات الشعبية أكثر هيبة ونفوذاً؟ وهل للميثولوجية في الثقافة السياسية في العراق مثل هذه الجاذبية والطاقة على الإغراء؟· إذا كان ذلك صحيحاً وحقيقياً، فلماذا نظرت ثقافتنا العراقية والعربية، ومعظم النُّخب الفكرية والثقافية العلمانية والحداثية، بشيء من الرفض والازدراء والاستخفاف إلى الأساطير والروايات الشعبية والحكايات التراثية؟· وإلى أي حدٍّ يمكن البرهنة على أن الفكر السياسي العربي المعاصر هو في بعض جوانبه ميثولوجية سياسية متخفية وماكرة؟· وبعد أن يحلل الربيعي أكثر من نموذج واقعي، يعود للسؤال: لماذا وكيف تحوَّل العلماني والليبرالي والحداثي إلى رجل طائفة يؤمن بالأساطير؟· يعلن الربيعي أن دراسته تعالج إعادة قراءة وتركيب التاريخ الاجتماعي السياسي العربي ـ واستطراداً التاريخ العراقي ـ من منظور العلاقة بين السياسة والميثولوجية، وذلك من أجل رؤية أكثر تبصراً في الأثر الذي تتركه هذه العلاقة في سلوك الأفراد والجماعات· ويبدو دفق الأسئلة المولد للنقاش عند الربيعي كبيراً وعميقاً، حيث يسأل مجدداً: هل أصبح العربي منتجاً ومولداً في نصوصه الثقافية والسياسية للأساطير؟· وهل ترتبط ظاهرة صعود الحشود الجماهيرية بشكل وثيق بعقيدة المخلِّص المستمرة في الراسب الثقافي والروحي؟· وهل ثمَّة دلالة محدَّدة لهذا الربط بين صعود أدوار الحشود والتكتلات الجماهيرية من جهة، وبين صعود عقيدة المخلِّص في المجتمع الشرقي في أوقات الأزمات الوطنية· وبعد أن يحلل أمثلة ووقائع من الحياة السياسية العراقية والمصرية، ينتهي إلى القول: إن المثقف العربي المعاصر غالباً ما ينظر إلى المعتقدات الأسطورية (الميثولوجية الدينية) على أنها هي الدين، وهذا أمر مريع·
المصدر: دمشق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©