الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في رحاب النقد الفرنسي

في رحاب النقد الفرنسي
7 ديسمبر 2016 19:04
هاشم صالح ماذا يمكن أن نقول عن المصطلحات والمدارس الأدبية التي شهدتها فرنسا على مدار تاريخها الطويل؟ بالطبع لن نستطيع استعراضها كلها.. هيهات! حسبنا أن نتوقف عند بعضها. من المعلوم أن النقد الأدبي الفرنسي شغل العالم كله في العقود الأخيرة من خلال البنيوية، فقد انتقلت نظرياته ومصطلحاته إلى الجامعات الأميركية والأوروبية والعربية والعالمية من خلال رولان بارت وتودوروف وغريماس وجيرار جنيت إلخ. وعلى أي حال فإن النقد الأدبي الفرنسي قديم جديد. إنه يعود إلى مرحلة الصراع بين القدماء والمحدثين في القرن السابع عشر وينتهي بالبنيوية وما بعدها، مروراً بالسريالية، والرمزية، والوجودية، ومدارس أخرى عديدة. والآن ماذا يمكن أن نقول عن حركة التنوير التي تلت مباشرة معركة الصراع بين القدماء/‏ والمحدثين، التي تشبه الصراع الذي جرى يوماً ما بين طه حسين ومصطفى صادق الرافعي؟ ينبغي العلم بأن التنوير هو عبارة عن حركة فلسفية وأدبية انتشرت وازدهرت في القرن الثامن عشر ومهدت للثورة الفرنسية. وروح التنوير ناتجة عن الأزمة التي أصابت الوعي المسيحي الأوروبي بعد انحسار العصور الوسطى وظهور فكر جديد على أثر ديكارت وسبينوزا ومالبرانش ولايبنتز وبيير بايل، وآخرين عديدين. ومعلوم أن الوعي الأوروبي كان مطبوعاً بالمسيحية طيلة العصور السابقة. وقد ظهر التنوير كرد فعل على التزمت الديني والحروب الطائفية. ومعلوم أن الوعي المسيحي الأوروبي تعرض لأزمة كبيرة بعد صعود الفلسفة والعلم بدءاً من عام (1685). والواقع أن العقلية التنويرية هي تلك العقلية التي فقدت ثقتها باللاهوت الانغلاقي الطائفي والإخوان المسيحيين. ولم تعد تثق إلا بالعلم والفلسفة والعقل والفهم المتجدد والمستنير للدين. إنها عقلية تؤمن إيماناً جازماً بإمكانية التقدم العلمي الذي يحقق للبشر السعادة على هذه الأرض. والواقع أن المحدثين في تلك الفترة كانوا مبهورين بالتقدم الذي حققه علم الفيزياء والفلك من اكتشافات على يد كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن. وكانوا يعتقدون أن انتصار العلم سيؤدي إلى تدشين عهد جديد يؤمن للإنسان السعادة المادية والفكرية على هذه الأرض. وهذا ما تحقق لاحقاً بالفعل. فالعلم هو الذي يقضي على الأمراض التي قد تصيب الإنسان أو تفتك به فتكاً ذريعاً. وهو الذي يؤدي إلى اختراع الآلات التكنولوجية التي تخفف من أعباء الإنسان. وهذا ما تحقق لاحقاً أيضاً. فلم يعد الإنسان يعتمد على عضلاته وإنما على آلاته. وأنوار العقل هي التي تبدد ظلمات الجهل والتعصب الديني الأعمى السائد في أوساط الشعب المسيحي الجاهل والأمي إلى حد كبير. ولا ننسى أن الصراع بين المذاهب المسيحية كان ضارياً آنذاك. وقد أدى إلى حروب أهلية ومجازر مرعبة واكتسح معظم أنحاء أوروبا. وضد كل ذلك نهض فلاسفة الأنوار من أمثال فولتير وسواه. النزعة الإنسانية هناك مصطلح آخر سبق مصطلح التنوير في أوروبا ألا وهو: النزعة الإنسانية (هيومانيزم). وقد ظهر هذا المصطلح في عصر النهضة الذي سبق عصر التنوير ومهد له الطريق. وهو يدل على تلك الحركة الأدبية والفكرية التي أدت إلى تجديد الآداب الإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية.. إلخ. وكانت الفلسفة الإنسانية تعني الثقة بالإنسان وبقدراته وملكاته. كما كانت تعني رفض العصور الوسطى التي تنعتها بالظلامية والتخلف والتقوقع على الذات. والواقع أن هذه النزعة الإنسانية التي ظهرت في إيطاليا أولاً كانت موجهة ضد اللاهوت المسيحي المتعصب وأصولية الفاتيكان والبابا، ولذلك قفزت على العصور الوسطى المسيحية صعداً إلى الوراء لكي تعانق العصور اليونانية والرومانية الزاهرة التي سبقت المسيحية، ولكن هذه الرجعة الكبيرة إلى الوراء كانت في الواقع قفزة إلى الأمام. لقد أراد النهضويون أن يستمدوا أسلوبهم وغذاءهم الفكري من كبار أدباء الماضي البعيد وفلاسفته: كهوميروس، وفيرجيل، وأفلاطون، وأرسطو، وآخرين عديدين. وعلى هذا النحو حصلت النهضة في أوروبا إبان القرن السادس عشر. يضاف إلى ذلك أنها استفادت كثيراً من علم العرب وفلسفتهم وآدابهم. مرض العصر ننتقل الآن إلى مصطلح آخر في النقد الأدبي الفرنسي هو: مرض العصر. وقد اشتهر به الشاعر الرومانطيقي الكبير ألفريد دوموسيه، فقد ألف كتاباً جميلاً بعنوان: «اعترافات أحد أبناء العصر». وهو يعبر به عن تلك الفجوة العميقة التي تفصل بين الأنا والعالم: المقصود «أنا» الشاعر المتمرد الحزين بالطبع، فهناك دائماً صراع بين أعماق الشاعر المعذب، وبين العالم الخارجي البارد. إنه لا يستطيع أن يتأقلم معه، أو يقبله كما يحصل للناس العاديين. من هنا يتكون سر عذاب الشاعر وتأوهاته، ولكن هل كان هذا الشاعر سيصبح شاعراً لو أنه كان متأقلماً مع الواقع الخارجي؟ أو لو أنه كان متصالحاً مع العالم؟ ألا ينتج الأدب بالضبط عن تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين الأنا الداخلية الحميمية، وبين العالم الخارجي المعادي؟ ماذا فعل بودلير أو رامبو؟ من المعلوم أن ألفريد دو موسيه ألف كتابه بعد سقوط نابليون ودخول فرنسا في مرحلة رمادية باهتة. إنها مرحلة انتقالية مترجرجة، فالقديم لم يمت كلياً بعد، والجديد لم يولد كلياً بعد. إنها مرحلة التمزق والضياع والحنين إلى شيء مجهول لا نعرف كنهه بعد، ولم يعبر فيه عن لواعجه الشخصية فقط وإنما عن لواعج جيل بأسره وآلامه. أحياناً أحلم بظهور كتاب جديد يلخص لنا «اعترافات أحد أبناء العصر العربي». من سيكتبه يا ترى؟ الدادائية والسريالية ننتقل الآن إلى مصطلح آخر حديث ظهر في بدايات القرن العشرين على يد الكاتب الروماني تريستان تزارا هو: الدادائية. وهي حركة أدبية واجتماعية غاضبة كانت قد ظهرت بين عامي 1916 و1923. وقد ظهرت كرد فعل على وحشية الحرب العالمية الأولى ومجازرها المرعبة. فلم يبق بيت في العائلات الفرنسية أو الألمانية إلا وأصيب أحد أفراده أثناءها. ولذلك فإن رد الفعل عليها كان ضارياً أيضاً من ناحية الحساسية الأدبية. وقد اتخذ رد الفعل هذا طابع العدمية الراديكالية وفقدان الثقة بقيم العقلانية والتنوير التي ذكرناها سابقاً، فالسؤال الذي طرحته الدادائية هو التالي: كيف يمكن للأمم المتحضرة كألمانيا وفرنسا وإنجلترا أن تفقد أعصابها وتنخرط في حرب مجنونة لا تبقي ولا تذر؟ أما كانت فلسفة التنوير قد قالت لنا بأن الهمجية قد أصبحت وراء ظهرنا، وإننا أصبحنا شعوباً حضارية تسير على ضوء العقل؟ فلماذا إذاً عدنا من جديد إلى عصر الهمجية والوحشية؟ هذه هي الأسئلة التي طرحها الأدباء والمفكرون الأوروبيون في ذلك الوقت، ثم نتجت السريالية عن الدادائية مباشرة حتى لكأنها ابنتها أو وليدتها. كان ذلك بعد أن أتى «تزارا» إلى باريس والتقى بأندريه بريتون وجماعته، ولكن السريالية كانت أهم وأعظم من الدادائية، وهكذا تفوقت الابنة على أمها، فالسريالية تحولت إلى حركة فكرية وفنية وأدبية عالمية متجاوزة بيئتها الباريسية الأولى بكثير، فهناك سريالية عربية وروسية ويابانية.. إلخ، وهي عبارة عن حركة متأثرة جداً بالفلسفة الفرويدية، أي التحليل النفسي بكل مصطلحاته ومفاهيمه من حيث تحرير الوعي الباطن، والتداعي الحر للخواطر، والكتابة الأتوماتيكية.. إلخ. ويمكن أن نحصر السريالية بتاريخين اثنين: الأول العام 1919 تاريخ تشكل الجماعة في باريس بزعامة أندريه بريتون، والثاني العام 1969 تاريخ انحلال الجماعة والمدرسة السوريالية كلها في باريس أيضاً بعد موت بريتون عام 1966. ينبغي العلم بأن السرياليين ألغوا الحدود الفاصلة بين الواقع والحلم، أو بين الواقع وما فوق الواقع. وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سريالية في اللغة الفرنسية، بل وأصبح الحلم أهم بالنسبة لهم من الواقع المتحجر البارد القمعي. إنهم يهربون منه إلى ما فوق الواقع عن طريق الحلم اللذيذ العذب. وقال السرياليون ما معناه: كل ما يخطر على وعينا الباطني من شهوات لا ينبغي قمعه لأنه هو الشيء المهم وليس الواقع الظاهري، ولذلك اخترع السرياليون مصطلح الكتابة الأوتوماتيكية. والمقصود بها أن يسجل الكاتب على الورق كل ما يخطر على وعيه الباطني بشكل عفوي حتى ولو كان محرجاً جداً أو مزعجاً له أمام الآخرين والمجتمع بشكل عام. ومعلوم أننا نكبت عادة هذه المشاعر الباطنية التي تخطر على بالنا دون أن ندري تقريباً سواء أكانت إباحية أو جنسية أو لا أخلاقية. أما السرياليون فلم يكونوا يكبتونها وإنما كانوا يطلقون لها العنان. ولذلك صدموا عصرهم ومجتمعهم إلى حد كبير، وبخاصة عندما راحوا يقومون بتصرفات غريبة وشاذة في المقاهي الباريسية. قصيدة النثر ننتقل الآن إلى مصطلح آخر من مصطلحات النقد الأدبي الفرنسي هو: قصيدة النثر.. فما هي يا ترى؟ إنها شكل شعري ناتج عن التحرر من الأوزان والقوافي التي كنت متبعة في العصور السابقة، والتي أصبح الشاعر الحديث يشعر بها وكأنها قيود مرهقة. وكان أول من كتبها في اللغة الفرنسية شاعر غير معروف يدعى لويس برتران (1804- 1841). ولكن الشاعر الذي خلع عليها المشروعية الشعرية، إن جاز التعبير هو شارل بودلير بالطبع، ثم جاء بعده الثلاثة الكبار: رامبو، ومالارميه، ولوتريامون. ثم مشى شعراء القرن العشرين الكبار على خطاهم وكتبوا دواوين كاملة مليئة بقصائد النثر. نذكر من بينهم أنطونين آرتو، وأندريه بريتون، وفرانسيس بونج، وهنري ميشو، ورينيه شار.. وعلى عكس ما يظن الجمهور العام فإن لقصيدة النثر قوانينها الداخلية الخاصة. صحيح أنها تحررت من قواعد النظم الكلاسيكي ولكنها تخضع لإيقاع داخلي يختلف من شاعر إلى آخر. وغرابة اللغة الشعرية هي التي تخلع عليها هويتها، وهذه الغرابة تتمثل في شيء أساسي: الإكثار من استخدام المجاز الغريب الشاذ الذي يصدم العقل والذوق لأول وهلة: فالمجاز لم يعد منطقياً في قصيدة النثر على عكس ما كان شائعاً في القصيدة الكلاسيكية. فالشاعر قد يقول: ليل أبيض، أو نهار أسود، دون أن يخرج على شاعرية الشعر، على العكس.. هناك إذاً انتهاك للغة المنطق، أو لمنطقية اللغة. هناك انتهاك لقوانين العقل والمعقولية في قصيدة النثر الأوروبية، وكلما كان الانتهاك صارخاً كان الشعر أقوى! انظروا رامبو أو لوتريامون على وجه الخصوص. وانظروا رينيه شار أيضاً، ولكن إذا كان الشعر الحديث هو عبارة عن انتهاك لنظام اللغة أو لمعانيها المنطقية فليس كل انتهاك هو شعر، فقد يكون الانتهاك مجانياً سخيفاً، ولا يؤدي إلى توليد الشحنة الشعرية المطلوبة. بمعنى آخر وكما قال أحد النقاد الباريسيين الكبار: كل أسلوب هو غلطة، ولكن ليس كل غلطة أسلوباً! بمعنى أن كل أسلوب عظيم هو خروج على النظام المعتاد للغة والتعبير، ولكن ليس كل خروج عليه هو أسلوب شاعري عظيم، فقد يكون الخروج أو الانتهاك تعسفياً جداً ولا يقنع أحداً، وهذا ما يحصل عموماً على يد أصحاب المواهب الضعيفة. انظر المجموعات الشعرية العربية التي تتكاثر كالفطر؟ كم سيصمد منها؟ كم اسم سينجو من الغرق؟ وفي رأيي فإن الناقد الذي عمق هذه الفكرة المركزية أكثر هو: جان كوهين، صاحب الكتابين الأساسيين: «بنية اللغة الشعرية»، ثم «اللغة العليا»، أي لغة الشعر. وكنت قد قابلته في باريس أيام زمان. القصيدة الصادمة على عكس ما يظن الجمهور العام فإن لقصيدة النثر قوانينها الداخلية الخاصة. صحيح أنها تحررت من قواعد النظم الكلاسيكي ولكنها تخضع لإيقاع داخلي يختلف من شاعر إلى آخر. وغرابة اللغة الشعرية هي التي تخلع عليها هويتها، وهذه الغرابة تتمثل في شيء أساسي: الإكثار من استخدام المجاز الغريب الشاذ الذي يصدم العقل والذوق لأول وهلة: فالمجاز لم يعد منطقياً في قصيدة النثر على عكس ما كان شائعاً في القصيدة الكلاسيكية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©