الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللغاية

اللغاية
18 يونيو 2006 10:39
سعاد جواد: منذ أن كانت طفلة صغيرة عرف الجميع عنها كثرة الكلام· فهي لم تتأخر في النطق كمعظم الاطفال وانما على العكس تماماً· فقد بدأت بالتكلم بشكل مبكر جداً، وبلغة غير مفهومة ولكنها مرتبة، بجمل طويلة تكثر فيها حروف القاف واللام والغين· كان أهلها يتمتعون بالاستماع لتلك اللغة الغريبة ويضحكون عليها، ولكنهم وبالتدريج صاروا يتضايقون بسبب كثرة كلام البنت بشكل مزعج ومتواصل لا تتخلله الاستراحات· حتى وهي نائمة كانت تتكلم ولا تسكت· حتى وهي لوحدها كانت تتكلم ولا تعرف الصمت أبداً· كبرت البنت وكبرت تلك الحالة الصعبة معها وبقيت مستمرة في التحدث بلا توقف بمواضيع مختلفة معظمها غير هام اطلاقاً· انها ترفض الاستماع لغيرها، وقد تعودت على فهم ما يريده منها الاخرون· اضطر أهلها للتزود بكميات كبيرة من حبوب الصداع والتي صاروا يشترونها بالجملة· حتى في المدرسة فإن الطالبات والمعلمات كن يشتكين من الدوخة والصداع بسبب حديثها الذي لا ينقطع ولا يتوقف أبداً مهما كانت الظروف· حتى عندما كانت تتعرض للمعاقبة فإنها تتحمل العقوبة ولكنها تبقى تتكلم وتتكلم ولا تسكت أبداً· اطلقوا عليها اسم اللغاية، فلم تتضايق من هذا الاسم وفرحت به لأنه اصبح موضوعاً جديداً تتحدث به أمام الناس معتقدة بأنه جميل ومسل· حوادث غريبة الغريب في حياة تلك الفتاة هو تعرضها المستمر لحوادث خطيرة، خصوصاً في فترة طفولتها· والغريب أيضاً هو انها لم تصب بأية عقدة نفسية جراء تلك الحوادث وانما بقيت متفائلة تتحدث عنها وكأنها قصص جميلة ومسلية· احدى تلك الحوادث حصلت لها عندما كانت برفقة أهلها في زيارة لأقاربهم في العاصمة، شاهدتها امرأة، فقالت لها: انت تملكين أنفاً جميلاً لم أشاهد مثله في حياتي· أعجبتها تلك العبارة وصارت تعيدها وتكررها عدة مرات طوال الطريق بشكل ممل· عند محطة البنزين توقفوا للتزود بالوقود وليشتروا بعض الحلويات والمرطبات، كانت البنت تحمل بيدها قطعة حلوى فسقطت من يدها خارج السيارة، فتحت الباب وانحنت لالتقاطها فسقطت على الأرض وكسر انفها وانشقت شفتيها· بقيت تتعالج مدة شهرين متواصلين وهي لا تستطيع الكلام بوضوح، ولكنها بقيت مستمرة في اطلاق الأصوات غير المفهومة لتزعج عنبر الاطفال خلال فترة تواجدها فيه· أجريت لأنفها عمليات كثيرة بسبب انسداد مجاري التنفس، ولكن أنفها الجميل لم يعد كما كان من قبل· حادثة اخرى حصلت لها عندما كانت مع اهلها في الطريق بين إمارتين وكانت البنت تتحدث بشكل مستمر، مما أدى إلى شعور السائق بالغثيان والدوخة، ففقد السيطرة على السيارة واصطدم بشاحنة كانت تسير بمحاذاته ثم انحرف عن الشارع، فانقلبت السيارة· لم يصب أحد بأذى في ذلك الحادث سوى تلك البنت، فقد تعرضت لشق خطير في قرنية العين افقدها قدرة البصر في عين واحدة· بقيت إحدى عينيها مربوطة لفترة طويلة، فكانت تنظر بعين واحدة ولكنها لم تنقطع عن التحدث طوال الوقت· اخذوها إلى ألمانيا ووضعوا لها قرنية اصطناعية· بعد ان اجريت لها عملية تبديل القرنية بأيام، رفع الطبيب الضمادات عن عينها وطلب منها فتحها ولكنها كانت خائفة من فتح عينها وبقيت فاتحة فمها ولا تستطيع اغلاقه· احس الطبيب بالنرفزة والتوتر فوضع يده على فمها ليسكتها قليلاً، ثم طلب منها ان تفتح عينها، شعرت بالخوف وصارت تبكي، الدموع غمرت عينيها وساعدتها على ترطيب القرنية ففتحت عينها وعرفت بأنها استعادت الرؤية من جديد، فكان لها ذلك موضوعاً جديداً تتحدث به طوال الوقت· حالات غريبة أنهت الدراسة الثانوية ودخلت الجامعة، فكان الحديث عنها يسبقها، مما جعل الجميع يهرب من الفصل الذي تكون فيه والمكان الذي تتواجد فيه· حاول بعض الاساتذة مساعدتها، فاقترحوا عرضها على طبيب نفسي لعلاج حالتها· ذهبت إلى عيادة الطبيب النفسي، الذي بذل جهداً كبيراً في محاولة علاجها ولكنه فشل وصار يتهرب من مواعيد علاجــــها لأنه أصيب بصداع شديد بسببها· لم يتقدم احد لخطبتها بعد ان عرف الناس مشــــكلتها مع انها فتاة جميلة جداً ولا ينقصها شيء· في احد الأيام كانت تتمشى في السوق مع زوجة أخيها، فشاهدها شاب فأعجبه جمالها وصار يلاحقها بنظراته من بعيد، ثم تبع سيارتهم ليعرف مكان سكنها· سأل عن العائلة وعرف الشيء الطيب عنها، فتقدم لخطبة البنت وهو لا يعرف شيئاً عن مشكلتها· جاء أهل الشاب لمشاهدة الفتاة والتحدث بأمر الخطبة، فتوسل أهلها إليها ان تسكت ولو لفترة بسيطة حتى لا يطفش أهل الخاطب· اقترحت أختها وضع لاصق شفاف على فمها لضمان سكوتها ولكنها رفضت ذلك ووعدتهم بأنها ستمسك لسانها شرط ألا يطول بقائها مع الحريم· وفعلاً فقد انتشرت أخواتها وزوجات اخوانها حولها والكل ينظر إليها محذراً، وكلما وجدوها تأخذ نفساً للتحدث شعروا بالرعب ووضعوا أصابعهم على شفاههم لتحذيرها ثم سحبوها بسرعة قبل ان ينفد صبرها وينطلق لسانها بالحديث المزعج الممل الذي لا تكف عنه طوال الوقت· تمت الخطبة وعقد القران في وقت سريع كما اشترط أهلها· ولكن المشكلة هي ان خطيبها طلب ان يتحدث معها هاتفياً في الأشهر القليلة التي تسبق العرس ليتعرف على أفكارها وما تحب وما تكره· حاول والدها التملص من هذا الطلب ولكن الشاب اصر على طلبه، فاضطر لاعطائه رقم هاتفها، واشترط عليه الا يطيل المكالمات لكي لا يشغلها عن مذاكرتها لأنها في السنة الجامعية الأخيرة، كما أجبروها على ألا ترد على مكالماته إلا إذا كانت احدى اخواتها إلى جانبها تقرصها لتذكرها بعدم إطالة الحديث· توقعات خائبة الكل كان يتوقع تراجع الرجل عن الزواج بعد ان فقدوا السيطرة عليها وصارت تتحدث معه طوال الوقت، فوكلوا أمرهم إلى الله واستعدوا لتقبل النتائج، حتى ان نساء العائلة لم يقمن بتفصيل ثياب للعرس، فالكل شبه متأكد بأن الرجل سيعتذر عن ذلك الزواج في أقرب وقت، ولكن ظنهم كان في غير محله· فقد اقترب موعد العرس دون تراجع أو تأجيل، فهرعت النساء لشراء ثياب جاهزة· دخلت العروس الجميلة بثوبها البراق، فأبهرت الحاضرين ولكن الكل لاحظ بأن تلك العروس كانت تحرك شفتيها وهي مبتسمة باستمرار وكأنها تتحدث لشخص يسير إلى جوارها، ولكن لا احد يعلم ماذا كانت تقول، فصوت الموسيقى كان عالياً يغطي على جميع الأصوات· انتهى العرس بسلام، وتنفس أهلها الصعداء، بعدها انتقلت العروس إلى بيت الزوجية، وبالطبع فإن التوقعات كانت شبه أكيدة بعودتها بعد أيام قليلة والكل يتخيل شكل زوجها وقد عاد بها وهو مربوط الرأس مجهد ويقول: حرام عليكم ماذا فعلتم بي؟ ما توقعوه لم يحدث، وقد جاءت هي وزوجها بعد شهر العسل لزيارة أهلها، فاجتمعوا حولهما وهم في غاية الفضول لمعرفة ما يحدث، فوجدوا ان السعادة تبدو ظاهرة على العروسين· ثم بعد مرور عشر دقائق فقط على تلك الجلسة عرفت الحقيقة وانصرف الجميع واحداً تلو الآخر بعد ان احسوا بالصداع وعرفوا سر انسجام هذين الزوجين· فالرجل لم يكن أقل منها حديثاً، فصار الاثنان يتباريان بالحديث المتواصل حتى هرب الجميع، فعادا إلى منزلهما ليواصلا تلك الهواية على راحتهما· لم يفكر احد بزيارة تلك العائلة الصغيرة لا من أهله ولا من أهلها، ولكن الطامة الكبرى كانت تحدث عندما يفكران بزيارة الأهل، الكل يحاول التهرب والاعتذار، فلا يبقى في البيت احد لاستقبالهما سوى أمها التي لم تعد اجهزتها السمعية تعمل بشكل جيد، فتبقى تتفرج عليهما باهتمام وسعادة، ووالدها الذي اعتاد ان يجد له فكرة يشغل بها نفسه لحين انتهاء تلك الزيارة· أصعب ما يمران به هو عند حدوث خلاف بينهما، فهما يلجأن إلى الأهل ولكن لا أحد يمكنه التحكيم بينهما لأنهما يتحدثان معاً، فلا يمكن فهم وجهة نظرهما أو معرفة سبب ذلك الخلاف، وهما أيضاً لا يستطيعان سماع احد أو الانصات لغير نفسيهما، لذلك فانهما يتحدثا طويلاً ثم يستأذنا بالانصراف وكأنهما قد توصلا إلى حل لمشكلتهما بنفسهما· لم تعمل الزوجة وبقيت متفرغة لبيتها· أما الزوج فهو غير موفق في عمله ولا يبقى في الوظيفة سوى مدة بســــيطة ليجد أمر إقالته بلا سبب معقول··· كما يعتقد· أخيراً قرر التفرغ لمزرعته التي حصل عليها من الحكومة ووجد بأنها تدر عليه دخلاً طيباً يغنيه عن الحاجة للوظيفة، فصار يقضي معظم وقته في زراعة الأرض وتربية الدواجن والمواشي التي لا تسأم من حديثه معها طوال الوقت· وكانت زوجته تساعده في عمله بشكل دائم حتى اصبحا يقضيان معظم أيامهما في تلك المزرعة وهما سعيدان جداً بحياتهما، لأن كل منهما قد وجد نصفه الآخر الذي يكمله فلا تذمر ولا شكوى لأن الحال من بعضه كما يقولون·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©