الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحت حصار الأحزان

تحت حصار الأحزان
30 يونيو 2011 20:11
أتاح صغر حجم أسرتنا التي تضم أبي وأمي وأنا وأختي الأصغر مني لنا حياة كريمة ومعيشة رغدة، خاصة وأن أبي كان في غاية الكرم والسخاء، فلم يبخل علينا بأي شيء مهما كان، وعلى الجانب الآخر كنت أنا وأختي متفوقتين في دراستنا من البداية وحتى المرحلة الثانوية، والتحقنا بإحدى الجامعات الأجنبية الكبرى المشهورة، ندرس مثل علية القوم ونعيش أفضل منهم، وقد كنا يشار إلينا بالبنان لأن لكل واحدة منا سيارتها الخاصة من النوع الفاره الحديث. ومع هذا كله نتحرك ونلبس في غاية الاحترام والحشمة وفي حدود التقاليد الشرقية والتمسك بتعاليم الدين، ومن حولنا يستغربون ذلك، كأن كل من امتلك لابد أن يفسد ويمرح ويسهر ويرتكب المعاصي والموبقات، بينما أنا وأختي لا نخرج إلا للدراسة أو لحاجة أو لزيارة عائلية، يعني للضرورات فقط، وعانينا كثيراً من التندر وربما الاستهزاء لأننا لا نعايش ولا نساير زملاءنا وزميلاتنا في تصرفاتهم، ونرفض المشاركة في الحفلات الخاصة أو العامة أو ما يهرولون إليه من أعياد الميلاد حيث يحتفل الواحد أو الواحدة منهم بعيد ميلاده عدة مرات في العام، ولا نقبل أيضاً المشاركة في الرحلات حتى لو كانت ليوم واحد. انتهيت من دراستي الجامعية وانقطعت صلتي بكل زملائي وزميلاتي تقريباً إلا واحدة، استمرت اللقاءات والاتصالات بيننا نشكو الفراغ ونتبادل بعض الأخبار التي تصل إلى مسامعنا من دون أن نسعى إليها، إلى أن دعتني يوما إلى مغامرة لطيفة على حد تعبيرها أو مغامرة جميلة غير مسبوقة في حياتنا، ولم نمر بها من قبل فقط نسمع عنها ونشاهدها في الأفلام القديمة، إننا سنزور امرأة معروفة بقارئة الفنجان، لتقرأ لنا الحظ والطالع، في البداية استنكرت هذه الجهالة، وأكدت لها أن هذا محرم شرعاً ولا يجوز لأشخاص في مثل تعليمنا وثقافتنا أن يتصرفوا بهذه السذاجة، لكنها أكدت لي أننا لا يمكن بالطبع أن نصدق مثل هذه الترهات فقراءة الفنجان وفتح الكوتشينة وضرب الودع دجل واضح، أننا فقط سنذهب من أجل التسلية لا أكثر وقضاء وقت ممتع لنخرج من الأجواء التي نحن فيها بين النوم والفضائيات. راقت لي الفكرة واقتنعت ووافقت من قبيل الفضول والاطلاع على هذه النوعية من الناس ولأسمع تعبيراتهم المضحكة، مع إصراري على حرمة ذلك فلن أصدق ولو حرفاً واحداً مما سأسمعه لأني أعلم أن ديننا يحرم ذلك تماما، وأن الحرمة أساساً في تصديق هؤلاء وطالما أنني من البداية غير مصدقة فلا بأس، كما أنني اذهب فقط من أجل المتعة في نزهة مختلفة ومن نوع جديد وتجربة لم أمر بها من قبل. توجهت أنا وأختي وصديقتنا إلى قارئة الفنجان كانت امرأة في الخمسين، قابلتنا بابتسامة عريضة لأنها تعرف صديقتي وتتردد عليها رحبت بنا بشكل غير عادي وأشاعت جواً من البهجة والسرور بكلماتها البسيطة التي كانت تعجبنا بلهجتها غير المعتادة وهي تحاول أن تخلط بين لهجة البداوة وأهل المدينة، ثم قامت لتضيفنا وتعد لنا فناجين القهوة وبالتالي تقرؤها لنا، وبعد لحظات جاءت بها وتناولناها بسرعة ونحن نستعجل تلك القراءة لنستمتع بما جئنا من أجله، ولكن السرور جاء أكثر من شعورنا بالسرور ونحن جميعاً نضحك بسبب وبغير سبب وسمعنا منها كلمات مثل تلك التي نسمعها في التمثيل، مثل أمامك سكة سفر، وهناك شجرة في طريقك، وأمامك حصان ابيض وطائر جميل يطير فوق رأسك، ولم نستطع أن نتوقف عن الضحك من هذه العبارات الساذجة. عدنا إلى البيت أنا وأختي ونحن في نشوة غير عادية لم نشهدها من قبل، ووصل بنا الأمر إلى أن نلوم أنفسنا على أننا نعيش في عزلة ولا نستمتع بالمباح في الحياة، ونحرم أنفسنا من التنزه والخروج ورؤية ما في الدنيا من حولنا طالما لا نخرج عن الآداب والأخلاق، ونمنا أيضا باستغراق حتى الضحى، لكن استيقظنا على صداع رهيب يكاد يفتك برأسينا، وبعد أن تناولنا إفطارنا والى ما بعد الظهيرة لم يزد الصداع إلا شدة وألما، فقررنا أن نتناول القهوة عسى أن تذهب بالألم لكن لم يتغير في الأمر شيء، وفي النهاية قررنا أن نعود إلى قهوة قارئة الفنجان لنتداوى بقهوتها، وعندما شاهدتنا ابتسمت ابتسامة ذا مغزى لا تخلو من خبث مما أثار الريبة في نفسي، وتناولنا القهوة التي كان لها مفعول السحر في الذهاب بالألم ثم غادرنا وتكرر معنا اليوم ما حدث بالأمس، فعدنا إليها في اليوم الثالث، لكن قابلتنا بغير الوجه الأول ورفضت أن تقدم لنا القهوة لأنها مكلفة لأنها تضع فيها المخدر الذي يحدث النشوة التي نشعر بها وبعدها الصداع، وأنها قدمت لنا ما يكفي من الضيافة وإن كنا نريد المزيد فعلينا أن نتحمل التكلفة وبالطبع لم نتردد لأن ألم الصداع لا يحتمل وقدمنا لها المال الذي طلبته على الفور دون تفكير. وهكذا أصبحت أنا وأختي مدمنتين رغماً عنا بعد أن وقعنا في الشرك الذي نصبته لنا صديقتي بكل خبث، غير أن الخلاص منه لم يكن سهلا أبداً حتى بدأ أبي يشك في تصرفاتنا وكثرة طلبنا للمال على غير المعتاد، وفي النهاية لم نجد بداً من إبلاغ أمنا بالحقيقة مع شدة مرارتها، لأننا نريد أن نجد مخرجاً من هذه السقطة العنيفة، وكان أبي كعادته كريماً وتفهم الظروف وعاملنا بما لا نتوقعه، واصطحبنا إلى إحدى المصحات العالمية خارج البلاد لعلاجنا حتى لا يعرف أحد بما حدث لأنه يرقى إلى درجة الفضيحة، وبحمد الله ومع إصرارنا على الإقلاع والتداوي كانت النتيجة مذهلة وخلال فترة قصيرة جاء الشفاء بعدما تعلمنا الدرس ووعينا لما يدور حولنا وليس كل شيء بريئاً كما كنا نعتقد ويجب أن نتخلى عن السذاجة التي كنا نتعامل بها. عدت إلى حياتي الطبيعية وأنا نادمة لا أسامح نفسي على ما قدمت يداي، وجاءني بعد عدة أشهر من يطلب يدي وهو شاب يكبرني بعامين يعمل في مركز مرموق لم يكن بيننا سابق معرفة وكان زواجنا تقليديا، إلا أنني أحببته أكثر مما أتوقع فهو طيب القلب وعاملني بالمعروف، ولم يقصر في واجباته المنزلية بجانب عمله، ورزقنا بطفلتين جميلتين كانتا قرة عيني وأوكل إلي زوجي مهمة تربيتهما وتعليمهما ومتابعتهما في الدراسة، فيما بعد وقمت بواجبي على أكمل وجه وكما ينبغي أن يكون واستثمرت فيهما تعليمي كله وما درسته وأنا أخاف عليهما ممن حولهما حتى لا تسقطا مثل سقطتي فاتخذتهما صديقتين منذ صغرهما، وارتبطا بي أكثر من أبيهما والذي كان يحبهما حباً جماً ويبادلانه نفس المشاعر وهو يحمد لي مجهودي معهما ويثني على كل ما افعل ولا ينسى أن يجاملني بكلمات رقيقة عند الطعام أو الشراب أو شراء هدية بسيطة. اقتربت من الخمسين والتحقت ابنتاي بنفس الجامعة التي تخرجت فيها، ومازلت أتولى كل شؤونهما حتى توصيلهما وإعادتهما من الجامعة بسيارتي وأنا سعيدة بذلك، إلى أن جاءت الصدمة الثانية في حياتي بشكل مفاجئ وبلا مقدمات أو أسباب، فبينما أنا عائدة من توصيل ابنتي إلى الجامعة كالمعتاد، وجدت زوجي أمام البناية التي نقيم فيها يحمل حقيبة ملابسه، اعتقدت للوهلة الأولى انه مسافر في مهمة عمل وسألته عن وجهته فجاء رده مفاجئا بأن ذلك شأنه ولا يخصني وليس لي حق أن اسأله، ومع إلحاحي ألقى بالقنبلة في وجهي بأن علاقتنا قد انتهت، وأنه تزوج من أخرى وقطع الحديث ومضى لا أدري إلى أين. الموقف أفقدني التوازن وعجزت عن التفكير وراجعت حساباتي كلها واسترجعت عشرتنا من بدايتها فلم أجد ما يشوبها، ولم تحدث بيننا أي خلافات أو مشاكل، ولم أجد سبباً واحداً يدفعه لتصرفه هذا، وعندما عادت ابنتاي لم أستطع أن أخفي حالتي عنهما وأصابهما أكثر مما أصابني من الدهشة والاستغراب، وانقطعت أخبار زوجي عنا تماما لأكثر من شهر عاد بعده ليتصل بنا من أجل رؤية البنتين، الموقف الذي انتهى سريعاً ولم يجب عن سؤالنا حول ما دعاه إلى هذا التصرف. لم يقف الأمر عند ذلك بل انقطع عن الاتصال بنا أو الإنفاق علينا، وقالها صراحة إنه يجب عليَّ أن أتولى هذه المهمة من أموال أبي الثري، فزاد استغرابي فليس هذا هو الرجل الذي عرفته كل هذه السنين، وعجزت عن تحسين صورته أمام ابنتينا اللتين تعرفان كل التفاصيل، وزاد الطين بلة عندما اقدم على تطليقي بلا ذنب وهذا أدى إلى قطع شعرة معاوية بيننا، وأعلنت الابنتان كراهيتهما له، خاصة بعد أن رفض حتى أن نبقى من أجلهما وأصر على رأيه وموقفه. المشكلة أنني رغم كل ذلك مازلت أحبه فهو الرجل الوحيد في حياتي، لكن الجرح الذي لا استطيع أن أجد له دواء هو ما سببه لي من حرج لأنه لم يعلن سبب الانفصال والطلاق مما أثار حولي القيل والقال، والناس يتبرعون باختلاق الأسباب ورفض كل مساعي الصلح، وتحاصرني الأحزان ولا استطيع أن أتخلص منها لأنني أشعر بالظلم الشديد من شريك العمر، ولا أعرف حتى الآن كيف أتخلص مما أنا فيه، ولم تكن ابنتاي افضل حالا مني بعد أن قررتا أن تقطعا كل صلة لهما به وألا تستجيبا لمحاولاته باللقاء، وتأثرت حياتنا بهذا الزلزال الذي هزها بعنف وحطم أركانها.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©