الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

علي العندل.. هجرة الطمأنينة إلى الشك

علي العندل.. هجرة الطمأنينة إلى الشك
15 يوليو 2014 00:42
جهاد هديب «جلده مليء بالكدمات وثمة آثار عنف وارتطام هائل بالوجود، هذا الوجود الذي لم يتصالح معه علي أبدا». هذا ما يكتبه الشاعر إبراهيم الملا عن الراحل علي العندل في مقدمة مجموعته الشعرية اليتيمة «سيف الماء»، التي جمعها أصدقاء الشاعر الراحل وصدر العام 2008 عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. من هذه الكلمات، لعلّ بالإمكان تخيّل أن علي العندل من البدء لم يكن متصالحا مع نفسه أيضا مثلما مع العالم والمحيط من حوله. وإذا كان هذا اللاتصالح هو موقف معرفي من الوجود، فإن البحث عن الخلاص، الذي يعززه قَدْر من الإحساس بنوع من العبث العميق، سيكون خيارا فرديا تماما. وبالفعل فإن هذا ما كان. إلا أن الملاحَظ، بحسب نصوص «سيف الماء»، أن الشعر بالنسبة إليه، قد كان حلّا أو نوعا من الحلّ، في مواجهة هذا الوجود بل وفي مواجهة العبث والقلق وعدم الرضى كما أنه نوع من الحلّ لذلك التناقض بين الشاعر وذلك الشخص والإنسان الذي فيه، أي علي العندل. أيضا، ربما يفسّر ذلك الغموض الذي يسم المعنى في شعره، هو الذي لم يكن يبحث عن المعنى، على الأرجح، بل هو يبحث في الشعر عن «حلٍّ» لتناقض يحتدّ في الذات، وكذلك، من الواضح تماما أن الراحل لم يُعن باللغة بوصفها تركيبة نحوية وصرفية بل تجرأ عليها كثيرا لجهة إدخال الدارجة اليومية وما تسميه من أشياء وأمكنة. هكذا، فإن الشعر بوصفه لغة وصورة صادمة وقادرة على الإدهاش، ينبغي على قارئ «سيف الماء» أن يبحث عنها في تلك الالتماعات، التي تتوهج هنا وهناك في النصوص، وإنها، أي هذه الالتماعات، لتثير في نفس قارئها كآبة شفيفة مثلما تعكس ذلك الحجم الهائل من الخيبة المُرّة التي كان يشعر بها علي العندل: «ليت الدمعة تضحك». ويقول في نص آخر: «لي في الوسواس/ ألف شيطان/ وثلاث تجاعيد». إنها «اللعنة» التي ضربت عميقا في الروح، ما يعني أن من المُحال الوصول إلى أي يقين أو طمأنينة. ليس سوى مساحة للشك فحسب. ويتبدى هنا قبس من روح الشخصية المسرحية الشهيرة: فاوست في المسرحية التي تحمل الاسم نفسه للألماني يوهان جوته، حيث كما لو أن لدى علي العندل يعتاض عن القسوة ضد الواقع والمحيط والعالم بالعنف فيمارسه تجاه الذات. وهو كذلك تعبير صريح عن مأزق وجودي فردي تماما لا يخصّ أحدا سواه، إذ يتجلى المأزق في غير نص من نصوص «سيف الماء»: «كل القمصان لا تليق بي/ أريدُ غابةً بعيدةً/ كلُّ أشجارِها أنا». الأرجح أن هناك عزلة فردية تفيض عن النص لتخرج إلى القارئ، لكنها ليست عزلة ساكنة، بل هي عزلة يلوب في عمقها عنف موجَّه؛ ربما أن الذات التي يتوجه نحوها الشخص السارد في القصيدة هي استعارة عن عالم لا تتصالح معه هذه الذات لتختفي خلف إحساسها بتفرد من نوع ما. بالتأكيد إن هذه الآلام ليست آلاما مادية أو فسيولوجية، مثلما أن هذه القسوة ليس بالضرورة أن يكون الشاعر قد مارسها على نفسه أيضا، لكنّ شعرية هذه القسوة هي التي أنتجت الشعر الذي يحمل توقيع أحمد العندل، بكل ما فيها عنف يجعل القارئ أنه عنف يتوجّه ضده إذ يستغرق في قراءة تلك الاقتطاعات، أو في أخذ صفة الشخص السارد فيها، هي التي تتناثر في الكتاب كما يتناثر زهر بري في الربيع. كما أن الأرجح، أن الإحساس بالعدمية واللاجدوى أو حتى الانحياز إليهما، في البعض من مفاصل النص كما في الحياة، قد جعلا عليّا غير آبهٍ لتلك العلاقة التي تربط نصه بالمتلقي المتذوق البعيد عن الكتابة وسياقاتها وتعقيداتها. يشعر القارئ أن هناك قصدية ما في تحطيم بنية اللغة من حيث هي معنى قد تشكَّل من خلال صورة شعرية يحملها لمخيلة المتلقي ومقدرته على الفهم أو التأويل. لا توجد علامات ترقيم ولا ضبط نحوي لأواخر الكلمات فضلا عن ذلك الغموض الذي يصل إلى درجة الإبهام. وكأن الشاعر ما كتب قصائده إلا تحت وطأة شحنة كاوية مما يعتمل في داخله من صراعات، بالتالي فقد كان النص نتاج خبرته الخاصة في العراك مع الألم.. ألم ولادة النص؛ مثلما أنه، أي النص، نتاج حياة علي العندل ذاتها وواقعه المحيط أيضا. لم يقل علي العندل الكثير، يحسب المرء أنه رأى وعرف أكثر مما كتب ودوَّن. لم يمهله الموت، الذي وفد إليه بوفرة صبيحة السادس من يونيو العام 2004، بما يكفيه لكي يُتِّم كلمته ويرحل. أيضا صوت علي العندل في قصائده خفيض، فلا شيء آخر سوى تلك الصرخات الصامتة.. لا شيء سوى بيت القصيدة، أي عزلة الشاعر، التي لم يؤثثها علي العندل كما ينبغي. كما لو أنه وضع كل ما قد يحتاج إليه في هذا البيت ثم ذهب في الغياب قلب أن ينجز ترتيبها وتأثيثها وفقا لمشيئته: «قد سقطْتُ من الزمان/ ومرآتي/ الصغيرة في يدي». أيضا، كان الرجل يُكثر من الأسئلة، إذ يطرحها مباشرة على أصدقائه فتثير القلق لديهم وكان يتقصد إثارة القلق بوصفه عتبة البحث عن المعرفة، حيث من الممكن ألا يعود المرء بإجابة لكنه على الأقل سيكتسب خبرة البحث. وأغلب الظن أن الشعر بالنسبة لديه هو بحث معرفي بل خلاصة هذا البحث وروحه. في ذاته كانت نفسُه عفيفة، فلا يقترب من الأضواء ولا يبحث عن النجومية ولا يأبه بأولئك الذين كان يدري أنهم يضيقون ذرعا بأسئلته ونصه مثلما يضيقون ذرعا بالقلق المعرفي وهجر الطمأنينة إلى الشك والحيرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©