الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حرب النِّعِل.. حكاية «القطط السّمان»

حرب النِّعِل.. حكاية «القطط السّمان»
19 يناير 2012
من أرستوفانيس اليوناني إلى شكسبير الانجليزي إلى موليير الفرنسي، إلى صموئيل بيكيت الإيرلندي، إلى أوجين أونيل الأميركي، وعناصر “مسرحية المشكلة” ثابتة لا تتغير: (اهتمامها بمراقبة وتسجيل تفاصيل الطبيعة البشرية)، فضلا عن استثمار فنّ (التقابل والتناقض) لمعالجة “”المواقف” التي تنشأ في المجتمع. بهذه المقاييس نستطيع القول إن مسرحية “حرب النعل” الإماراتية، لمؤلفها المبدع إسماعيل عبد الله بلغته الشاعرية المتدفقة عن طرق رمزية الفعل أو الشخصية، وبتوقيع المخرج محمد العامري في عرض ممتع على خشبة المسرح الثقافي الملكي تندرج تحت مفهوم مسرحية المشكلة، من جوانبها الاجتماعية والإنسانية والفلسفية. ************** لا شكّ في أن المضمون الفكري الذي يحتويه هذا العرض ذات “الطابع المحلّي الخالص” المستند إلى الموروث الشعبي ينطوي على تجربة دافئة ومثيرة للاهتمام مما نلمسه في حياتنا الاجتماعية وبخاصة في عمق “المجتمع البحري” الإماراتي بتقاليده وخصوصيته ومفرداته وأصالته، ولا شكّ أيضا أن ثنائية (المؤلف والمخرج)، قد نجحت نوعياً في التعبير عن الموضوع بمشهدية بصرية عالية ومتكاملة من جرأة التعبير، ولواحق العرض المسرحي وسائر العناصر الفنية وبخاصة السينوغرافيا، وتحريك مجموعة كبيرة من الممثلين في إطار تكنيك المسرح المعاصر بمستويات متعددة ومتدرجة من جمال الحركة وهندستها، ليظهر لنا المخرج بأنه مخرج مقتصد ومكثف خارج دائرة البهلوانية والفضفاضية عند بعض المخرجين المنضوين تحت مظلة مسرح المخرج. “حرب النعل” التي نحن بصدد الحديث عنها في عرضها داخل المنافسة الرسمية في إطار “مهرجان المسرح العربي” في دورته الرابعة في العاصمة الأردنية عمان، سبق لها أن سجّلت حضورا نقديا وجماهيريا لافتا في عرضها على مسرح قصر الثقافة في الشارقة، ضمن فعاليات أيام الشارقة المسرحية في دورتها الحادية والعشرين، وليس صدفة إذن أن يلقى عرضها المهرجاني الجديد بعد إدخال جملة من التغيرات من حيث تطوير الرؤية الإخراجية ومن حيث تطوير وظيفة الديكور وإضافة بعض الحوارات لتصبح بذلك أكثر رشاقة وتناغما مع أفكار المؤلف وأن تحقق هذا النجاح الكبير في عرضها العمّاني، وليس عبثا أن ينال طاقم المسرحية كل التقدير، خاصة وأن كاتبها يتمتع بموهبة نادرة وبصيرة نافذة وبراعة حققت لنا عرضا لا يتشابه مع غيره، وينحو باتجاه مخاطبة حقيقية للجمهور بلغة لا يقال فيها كل شيء، مما حقق للعرض صفة تجمع بين الجماهيري والمهرجاني، كما أن النجاح الاستثنائي للعرض يعكس صورة حقيقية عن التطور والتعافي الذي يشهده مسرح الإمارات المعاصر الذي يمتاز بحضور لافت لعدد من الكتّاب الموهوبين الواعين لرسالة المسرح ومنهم اسماعيل عبد الله الذي يملك أدواته الفنية التعبيرية والأصالة في التعبير على مستوى الحوار المتدفق، والإفادة من مكنونات الموروث الشعبي المحلي صوب مسرح يحمل هويته وخصوصيته. ترميز الماضي أما “الثيمة” الأساسية التي كوّن منها المؤلف تشكيلاته الدرامية فمستمدة من بيئة المجتمع البحري في الإمارات قبيل أكتشاف النفط حيث الصيد كان مهنة رئيسية لمعظم الناس، فيما كان النوخذة “قائد سفينة الغوص في رحلات الغوص على اللؤلؤ” التي كانت تمتد لأشهر حيث البعد عن الأهل والوطن، هو سيد وقائد هذه المهنة التي كانت تشكل مفردات ومناخات أهل هذا المجتمع الذي كان يحظى فيه الصياد بمكانة خاصة، حيث الشيء الحزين الغامض الذي هو في حياة كل منّا، والذي نأسى جميعا على ضياعه، إنه حلم الماضي وأرق الحاضر وأمل المستقبل، في عمل يتناول ويطرح ويناقش مظاهر التحول في المجتمع وانعكاساتها على الظاهرة الاجتماعية سلبا في الغالب من حيث ممارسة الاستسهال في كل شيء، إلى جانب طرح جملة من الإشكاليات التي تواجه المجتمع مثل التداخل السكاني واختلاط القيم والثقافات، فيما يقوم البناء المسرحي على صراع ديالكتيكي متوالد بين اثنين من النواخذة على ثروة البحر من السّمك، وفي صراعهما المحتدم هذا يتفاجآن بمنافس وعدو جديد هو (القطط) التي تشكل تهديدا مباشرا لمصالحهما. كما تشكل رمزا إسقاطيا يمكن إستنتاجه بسهولة ممثلا في التأثيرات السلبية للتحديات والغزو الفكري الخارجي، ومن هذا المثلث يقفز النص إلى إسقاطات معاصرة عديدة، فعلى الرغم من إستراتيجية النوخذين في مواجهة القطط بالنعال، ومع احتدام الصراع معها، تتزايد قوتها وشراستها، فيما يتراجع دور النواخذة أسياد البحر إلى الخلف لأن نظرتهما للحياة وقطار المستقبل كانت متخلفة وأنانية وغير متوازنة، بمقابل هذا الفشل في التفكير والتخطيط يصعد دور (القطط) المتوحشة التي تستغل هذا الواقع لتنجح في القضاء على أهم مهنة بحرية بكامل تقاليدها وثقافتها، ولكي يجسد المؤلف هذا المعنى عمد إلى فن المفارقة، فينهي صراعه المسرحي بخروج مولود مشوّه له جسد بشر ورأس قط تنجبه إحدى النسوة، ويكون مصدر إزعاج وتنفير لكل سكان القرية، بينما تحمله القطط وترفعه عاليا كتتويج لانتصارها وسيطرتها على المكان بكل مقوماته الاقتصادية والبشرية، وبكل ما يختزنه من أحلام وذكريات ومستقبل الأجيال الجديدة، في نهاية مفتوحة تحتمل كل التأويلات والتفسيرات، وكأن المؤلف يتقاطع مع تأثير القوة حينما تعمل على تهميش ثقافة الآخر الأضعف، في قراءة مستشرفة للمستقبل، لكنه في تقديري كان بارعا في تكوين بناء درامي محكم ومؤثر، من خلال صناعة مثلث الصراع الذي جمع النوخذة المتسلط (الحوت) ومعارضيه ومؤيديه، والوافد الجديد ممثلا في القطط، الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أكثر من تحليل وتأويل له ارتباطاته بسياسة العصر والقوة والهيمنة والفساد وتأثيرات العولمة على حياتنا، وكذلك عدم الانتباه إلى خطورة التداخل السكاني في مجتمع الإمارات. في الواقع يمكن وصف نص حرب النعال لمسرح الشارقة الوطني، بأنه عمل ممتاز على صعيد اللغة والتعبير والمفردات وسحر الخيال التصويري لعالم البحر وقواعده الصارمة وصراعاته الانسانية، وعلى صعيد المقدرة على تحليل الموقف البشري وسلوك الشخصية حينما تتهدد في رزقها ومصالحها، مع المحافظة على النسيج المسرحي ووحدة الموضوع دون تشتيت في إطار اشتغالات نصية وسردية تقوم على ملامح اللغة الثالثة التي أرسى قواعدها الكاتب المصري الراحل توفيق الحكيم وهي التي تجمع في داخلها العامي المتطور والفصيح السهل، فهو يوسع التضمينات الصغيرة الى فضاء واسع من التعبير عن صراع القوة، وهي بحد ذاتها فكرة معاصرة مبنية على موروث ورمزية عالية وفلسفة عميقة لتجربة الانسان وصراعه مع الواقع المعيش، وكأن المؤلف يدين كل أشكال الجشع والانزياح عن تقاليد وأصالة الماضي، متأسيا على ضياع حلاوة زمان التي تلاشت وتبددت بعد أن هاجمتها (القطط) السمينة الشرسة، وهو استخدام رمزي، وهكذا نجد أن الصراع في المسرحية سرعان ما يتبلور ليتخذ شكله الدرامي بين قوى الشر وقوى الخير، ما بين التراث والموروث الشعبي والهوية، وما بين المستورد والدخيل وتحديات الخارجي، كما يوحي هذا الصراع بدلالات ورموز تتمثل بما نراه من سياسات غير واضحة، ولا تشكل خط دفاع أو حائط صد أمام الغزو الخارجي، وهو ما أتاح للقطط المتوحشة الشرسة فرصة الانقضاض وإثارة الشغب، وهو المصطلح الذي يتردد اليوم في شارعنا العربي من أن كل ما يحدث لنا هو بسبب (تدخل خارجي)؟ كسر الحائط الرابع أقام المخرج محمد العامري جماليات عرضه القائم على مكان الحدث في المنطقة الشرقية من الإمارات على فكرة “كسر الحائط الرابع” والمؤثرات التغريبية على نحو ما نجده في مسرح الالماني برتولد بريشت، ففي الاستهلال يتفاجأ المتفرج بالأعداد الكبيرة من “النعال” البلاستيكية التي تم توزيعها في جنبات صالة المتفرجين، يقابلها رائحة السمك المجفف النفاذة التي انتشرت في المكان من نوع معروف من السمك يسمى (ضغوة) وآخر يسمى (عومه) وهو مصدر الرزق الوحيد في المنطقة، متزامنا ذلك مع دخول القطط من جانبي المسرح، في سعي واضح لإدخال الجمهور في حالة العرض، وهو ما عرف عند يوسف إدريس بـ (مسرحة المسرح)، مع تكوين فضاء مسرحي يشمل مفردات البيئة البحرية المحلية، ولواحق العرض المسرحي من موسيقى وإضاءة وغناء وتأثيرات فلكلورية، كل ذلك ممتزجاً بحركة دقيقة للممثلين والمجاميع وبناء تكوينات هندسية تشهد له ببراعة استثمار الممثل الذي يغرق طوال العرض بانفعال متواصل. وفي هذا السياق يحسب للعامري بأنه مقتصد ومكثف وغير متكلف في تصميم الحركة المسرحية، والإفادة من (جسد الممثل) في اطار مبتكر يحقق الكثير في شغل الفراغ المسرحي على نسق المسرح الفقير عند البولندي (جرزي جروتفسكي)، وقد أمكن له من خصوصية الحركة والصوت عند الممثل من خلق وصناعة مشهدية غير تقليدية، وتكسير خشبة المسرح والاتصال مع جمهور العرض بطريقة حميمية، وقد بدت هذه التقنية بوضوح في الأداء البارع الذي قدّمه الممثل “أحمد الجسمي” بدور “الحوت”، أو النوخذة المتسلط والممثل “عبد الله صالح” بدور “غيث “ الأعمى البصير، وكان بارعا في تصوير دوره ضمن ممكنات صوتية وحركية مؤثرة، وفي ذات المجال شكل مع الجسمي ثنائية التمثيل البارعة، حيث أن كل واحد منهما قدم دورا مركبا وصعبا بكل ما يتطلبه من رهافة وشفافية وممكنات صوتية وحركية ونفسية وكل ما يتطلبه من حساسية ونبض درامي بفهم عميق وبراعة الممثل الذي يعرف مكانه تماما على المسرح وخارجه، بمقابل هذه الثنائية نجد الممثلة (بدور) بدور (حور) حفيدة النوخذة الضرير غيث، قد لعبت دورها بمهارة وإتقان عال المستوى، بحيث تناغمت مستويات التمثيل لديها إلى أعلى درجات صدق وحرارة التعبير. وبالمجمل العام فقد وفق مخرج العرض في معالجة النص المركب، وبناء حركة تشكيلية موحية من المجاميع والممثلين الرئيسيين، تناغمت وتضافرت بقوة مع الأغاني والموسيقى والمؤثرات الصوتية والإضاءة البارعة بجملها المحددة والواضحة التي كانت في نقلاتها وتقاطعها مع الحركة والتشكيلات أقرب الى سيناريو الفيلم الذي تتلاحق فيه الصور وتتالى فيه الكادرات على نحو يملأ فراغ المسرح ويجعل الصالة كلها تموج بالحركة والحياة، في كسر بديع للحائط الرابع بين المسرح والجمهور. فيما لعب الديكور وظيفة درامية هامة سواء على مستوى تصميمه أو على مستوى تحريكه بسرعة هائلة تتوافق مع نقلات الاحداث السريعة والايقاع المسرحي اللاهث. ربما يكون أجمل ما في هذا العرض المسرحي هو ذلك الانسجام ما بين النص والإخراج في توليفة فنية انعكست على وحدة ونسيج النظري والتطبيقي في إطار يعكس لنا روح الشغل المسرحي، فلا احد يريد التفوق على الآخر بمقابل تقديم صورة صافية للمسرح الإماراتي في أوج ازدهاره تحت مظلة هوية المسرح العربي المنشود، يضاف الى ذلك كله، الإحساس الجميل الأصيل في التعبير عن البيئة المحلية، في عرض أنيق مصقول، موشى بنفس من الاحتفالية وفن الفرجة وجرأة التجريب على استخدام التراث في المسرح ضمن تقنيات الفن المسرحي المعاصر، كما يؤكد العرض بنجاحه على أن مخرجه صاحب رؤية في الإخراج والتعامل مع المفردة والجملة والممثلين الذين قدم منهم أجيالا مختلفة، كذلك حسن إدارته لحركة المجاميع ضمن خطة إخراجية تحافظ أولا على القيمة الفكرية للنص، كما تطور مفهوم السينوغرافيا في المسرح لتعميق شكل المشاهد المركبة والإيحاءات التي امتلأ بها العرض، كذلك تقديمه جماليات مسرحية توضح اثر اللحن الموسيقى والثيمات الشعبية من الغناء والفنون الشعبية، وأن النجاح الفني الذي حققته المسرحية يرجع أولاً وأخيراً إلى مستواها الفني، فضلا عن خطورة مضمونها الذي يتناول هوية الشخصية الخليجية في إطار درامي محلي خالص.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©