الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«ميلانخوليا».. مديح الكآبة!

«ميلانخوليا».. مديح الكآبة!
19 يناير 2012
على إيقاع اللحن الجنائزي الفائض حد الأسى للموسيقار ريتشارد فاجنر في الأوبرا الشهيرة المعنونة بـ: (تريستان وإيزوالد)، يفتتح المخرج الدانماركي لارس فون ترير فيلمه (ملانخوليا) بانحياز كامل لجماليات الحطام وتجلياته، وما ينطوي في متاهاته الروحية من شرخ وتفتت وانجذاب مدمر نحو كآبات أخيرة وختامية ومروعة لمشهد القيامة، وانمحاء وجودنا المؤقت على كوكب الأرض. يستحوذ وجه الممثلة الأميركية (كريستين دونست) على اللقطة الافتتاحية للفيلم، بملامح ذائبة في التعب، وبانغماس كامل في الصمت الُمنهك، وعلى الجوانب والزوايا العلوية للكادر نرى العصافير المتيبسة والميتة وهي تتساقط ببطء من السماء، وعلى خلفية سديم رمادي ينذر بخريف شامل وقاحل لا مفرّ و لا فكاك منه، تنتقل اللقطة ببطء أيضا نحو لوحة تجسّد غابة ثلجية تهيمن عليها أشجار سوداء تتساقط منها أوراق داكنة ومتفحمة، بينما اللوحة برمتها على وشك التآكل والاحتراق والتحوّل إلى فتات أسود والغبار المتلاشي في الهواء. إبراهيم االملا تتوالى اللقطات المبهمة في المشهد التأسيسي الذي يمتد لحوالي عشر دقائق، حيث نرى كوكبا ورديا هائلا يقترب بسرعة من كوكب الأرض، ثم ينتقل المشهد ببطء شديد نحو ذات المرأة وهي تقف كتمثال من لحم ودم في حيز طقسي مهيب يكتمل باليقظة المذعورة للحشرات والهوام التي تخرج من كل مكان وتهيمن على الشاشة، ثم ها هو حصان أسود يتداعى وينهار على أرض الليل، والفتاة هذه المرة في ثوب الزفاف تجر وراءها حبالا داكنة وجذورا يابسة في غابة سحرية ومرعبة، وتهرب في سراب كارثي دون أمل في النجاة، ثم أخيرا نراها من خلال لقطة علوية آسرة، وهي تنام في تابوت الماء، المتدفق تحت جسدها مثل كريستالات ذائبة، في مشهد سيكون بمثابة احتفال تشاؤمي بالخديعة المندسة في النشوة، أو ما نحسبه كذلك، عندما تتعلى المآثر الرومانسية للحياة، ويكتمل وهم الخلود على الأرض، إلا أن الحقيقة الصارخة دائما ما تقول لنا : “كل شيء إلى زوال” ، وكل صرح إنما يعلو باتجاه دماره، ويعود إلى منشأه، حيث التراب يهال فوق كل اللذائذ والمسرات التي خبرناها، والرمل ــ أو جلد الأرض الأبدي ــ سوف يطمر كل الجمال الذي انبثقت منه الآن ــ ومن خلال مصير حتمي ــ : الجرثومة الهائلة للقبح!. عذابات مرعبة فيلم (ملانخوليا) الحائز مؤخرا على جائزة الفيلم الأوروبي للعام 2011 مستوحى من المعاناة الشخصية المهلكة والمدوخة التي عاشها مخرج الفيلم نفسه مع مرض (الاكتئاب) أو ما يعرف بالميل غير المتحكم به نحو الأذهان والاضطهاد الخفي للذات أو السودواية المطلقة ، حسب الأدبيات الطبية القديمة التي تصف كلمة (ملانخوليا)، وهي الكلمة الماثلة دائما كعنوان مخيف وغامض لأعراض نفسية وعضوية مفاجئة ومؤلمة في ذات الوقت ، حيث يبدأ التغير الأساسي في شخصية المريض مع تبلد أحاسيسه، وعدم إمكانية وزن الأمور بميزانها الصحيح وسوء تقديره للزمان والمكان ، كما لا يمكن للمريض التحقق من الأماكن التي يريد ارتيادها أو ارتادها في الماضي. والميل للانطواء والانزواء والبعد عن الآخرين، وكذلك التعب والوهن الجسدي والنفسي، إضافة إلى الوساوس والهواجس التي تنتابه، الخوف والهلع، والشعور بتأنيب الضمير، والذي يصل لحدود متطرفة تصل إلى التفكير الجدّي بالانتحار. وكل هذه المواصفات المعذبة يقدمها لارس فون ترير في فيلمه كدراسة سينمائية وكتشريح نفسي وبصري واسع وممتد ينطلق من الحالة الفردية وينعكس على حالة كونية شاملة، مدعومة بلعبة التأثر والتأثير، هذه اللعبة الماكرة والشائعة في الأساطير وميثولوجيات الشعوب البدائية حول تأثير القمر والشمس والنجوم والكواكب على المزاج البشري، وعلى الكائنات الأرضية وحركة الطبيعة المتناوبة بين الانجذاب والنفور، والامتداد والانكماش، والصحوة والكمون. تفسير جمالي يطرح المخرج تفسيره الفني والجمالي لمرض الاكتئاب على زمن الفيلم من خلال جزأين، حمل الجزء الأول عنوان :“جوستين” وهي الشخصية المحورية في الفيلم وتقوم بدورها الممثلة كريتسين دونست ، بينما حمل الجزء الثاني عنوان : “كلير” وهي شقيقة البطلة ــ تقوم بدورها الممثلة شارلوت جاينسبورغ ــ والتي تدخل بدورها في طور متقدم من هوس الاكتئاب مع وصول الفيلم لذروته في المشهد الختامي. تتشكل البنية السردية للفيلم مع وصول جوستين وعريسها متأخرين على حفل زفافهما المقام في قصر ريفي فخم يملكه زوج شقيقة كريستين، هذا الوصول المتأخر سوف يشيع نوعا من الإرباك والحرج في مراسيم الحفل المسبقة والمتفق عليها، ومنذ دخول العروسين في القاعة تبدأ حالة من التوتر في التشكل تدريجيا إلى أن تصل لمرحلة من اليقين بأن الحفلة لن تمضي على خير، ومع ورود أخبار وتقارير مخيفة وأخرى متفائلة حول اقتراب كوكب زهري ضخم أطلق عليه العلماء (ملانخوليا) نحو الأرض، ووجود احتمال بسيط لانحرافه عن مسار الاصطدام، هذا الخبر سوف يزيد من تأثير الكآبة على الجميع، وخصوصا على العروس كريستين، التي تبدر منها تصرفات غريبة وشاذة وغير متوقعة، حيث تترك الحفل فجأة وتهيم في الغابة المحيطة بالقصر، ثم تعود لتكمل مراسيم الزواج، ومرة أخرى تغيب لساعات طويلة في غرفتها، وتدخل في مناوشات مع والدتها ذات الشخصية السيكوباتية والتي تحذرها من الزواج، حتى لا تعيد تكرار التجربة المؤلمة التي عاشتها مع والدها، وينتهي الحفل كما توقع الجميع بالفشل، حيث يترك الزوج وعائلته المكان، ويتأسف زوج (كلير) على المصاريف الطائلة للحفل والتي ذهبت سدى، بينما تغرق كريستين في مستنقع لزج وعميق من الحزن والأوهام والانفصال الكلي عن الواقع. بانتظار النهاية في الجزء الثاني يقودنا الفيلم نحو الاقتراب أكثر من شخصية كلير التي بدت قوية ومتماسكة في الجزء الاستهلالي للفيلم، ولكنها في هذا الجزء تبدأ تدريجيا في الانهيار، وبصورة متصاعدة مع تصاعد هواجسها الداكنة، خصوصا مع ورود الأخبار المتشائمة حول اقتراب كوكب (ملانخوليا) من مسار الأرض، وازدياد فرصة التصادم بين الكوكبين، ورغم انشغالها واهتمامها بأختها المريضة والمنهارة نفسيا، تبدأ كلير بالقلق على مصير عائلتها، وخصوصا على مصير إبنها الصغير (ليو) الذي لن يجد بالتأكيد فرصة لاكتشاف المراحل اللاحقة في حياته بعد الاصطدام الرهيب، تشتري كلير علبة دواء وتخبؤه في خزانتها كحل أخير للانتحار في حال الاصطدام الأخير والنهائي مع الكوكب الزهري، ومع تيقن الجميع بأن الاصطدام لا مفر منه، تتوالى الانهيارات النفسية في دواخل (كلير) عندما تكتشف اختفاء كبسولات الدواء يتناولها زوجها ويسقط ميتا في اسطبل الخيول. تخفي كلير الخبر عن طفلها، وينتظر الثلاثة في القصر الخاوي وفي الغابة النائية مصيرهم النهائي، ويختتم الفيلم على منظر مروع ومهيب تتصادم فيه كل الذكريات البعيدة وتتلاحق فيه مشاهد متسارعة من شريط لا ينتهي للصور والمواقف والمحطات الموصولة بحياة كانت، وها هي الآن تنمحي وتختفي فجأة في مناخ مفجع وجحيمي ومروع، وفي مصير قاطع تنبأت به كل الديانات والأساطير ورؤى الأنبياء والقديسين، إنه اليوم الأخير إذن ونذير (الأبوكالبيتس) الذي صوره المخرج لارس فون ترير من وجهة نظر خاصة جدا، ولكنها وجهة نظر مشغولة بالتأمل والصمت والأنين الداخلي المتناغم مع الأنين الغامض والمستغيث لكوكب الأرض وللوجود المصطدم بالعدم، وبما وراء هذا العدم!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©