الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفن العراقي بين الريادة والاغتراب

الفن العراقي بين الريادة والاغتراب
19 يناير 2012
«يبكي دماً» لوحة للفنان علي طالب كانت المفارقة غريبة بامتياز، إذ من المنطقي - ما دمنا نمتلك تاريخاً شعرياً طويلاً يمتد لمئات السنين - أن يكون الشعر سباقاً حين التغيير، إذ أنه أول المتغيرات الإبداعية حين يكون هناك حراك يستدعي أن يتحول الفن من نمط الى آخر. ومن المنطقي أيضاً أن تكون الفنون البصرية في حالات إحساسها بضرورة التغيير الفني أن تكون حركتها باتجاه المستقبل أقل نشاطاً، بل لنقل أقل حدّة، في تأملها النظري والواقعي، حينها يشعر الفنان أن أدواته أصبحت كلاسيكية، لذا من الضروري أن يلجأ إلى أساليب جديدة يحدّث فيها تلك الأدوات نحو منهج أو مدرسة أو نظرية حداثية. سلمان كاصد أقول كل ذلك لأنني أحسست بضرورة تسجيل هذه الرؤية تاريخياً حيث وجدنا أن الشعر العربي الحديث، وأقصد قصيدة الشعر الحر التي انطلقت على يدي بدر شاكر السياب وبعضهم من يرى على يدي نازك الملائكة والتي قلبت موازين القصيدة العربية من كلاسيكيتها إلى بنيتها الحديثة، جاءت متأخرة - حقاً - عما جاء به التجديديون التشكيليون العراقيون، وأقصد بهم جماعة “جمعية أصدقاء الفن” عام 1940 والتي أعقبها “جماعة بغداد للفن الحديث” عام 1951. وهذا التحديث في الفن التشكيلي العراقي جاء على مرحلتين، الأولى خلال الحرب العالمية الثانية، والثانية بعد الحرب نفسها، إلا أن هناك رأيا آخر يقول: “ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى كانت بوادر نهضة حاسمة تظهر على فن الشعر، واستطاع بلند الحيدري عام 1946 أن ينشر ديوانه “خفقة الطين” - وهذا رأي ثالث بعد رأيين سابقين يناصر كل منهما السياب في قصيدته “هل كان حبا” والملائكة في قصيدتها “الكوليرا” - وفي خفقة الطين أولى تباشير فجر الشعر الحر، ثم ظهرت بعد ذلك تجارب الرواد”. ويعزز قبل ذلك المناخ الثقافي العراقي الفن التشكيلي الجديد كمتغير آخر يحايث الشعر بل يسبقه بسنوات، ووقتها كان جبرا إبراهيم جبرا أحد هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم “جماعة بغداد للفن الحديث” والذي كتب بيان الجماعة الثاني وهم: “جواد سليم ولورنا سليم ومحمود صبري وجبرا إبراهيم جبرا ومحمد الحسني وشاكر حسن”. وقد كتب شوكت الربيعي عن تلك الحقبة ما يأتي: “تكتسب تجارب الرواد في فترة الحرب الأولى أهمية تأريخ بوصفها نموذجا لفن الرسم في ظل ظروف اجتماعية معينة أصبح بعدها هذا الرعيل واضحا بفكره وثقافته واهتماماته”. فقد أرسل أول مبعوث في الفن للدارسة خارج البلاد على نفقة الحكومة العراقية عام 1930، وأقيم أول معرض فني زراعي صناعي ببغداد ضم بعض اللوحات الفنية وكان لهذه الأحداث بالنسبة لمحبي الفن وقع في النفوس بقدر ما لدخول العراق عام 1932 في عصبة الأمم من أهمية سياسية .. وفي عام 1935 صدر كتاب ( قواعد الرسم على الطبيعة للفنان عاصم حافظ ) وفي عام 1936 أقام الفنان حافظ الدروبي أول معرض شخصي في بغداد .. وفي عام 1938 عاد الفنان فائق حسن إلى العراق من باريس نشاطاً فنياً مع زملائه. وفي عام 1939 سافر جواد سليم إلى فرنسا للدارسة الفنية .. وفي الثالث من أيلول عام 1939 اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية بينما كان الفنانون التشكيليون يجرون في دار الفنان فائق حسن لقاءات لمناقشة بعض القيم الفنية نتج عنها تحقيق فكرة فتح فرع للرسم في معهد الفنون الجميلة عام 1939. وفي بداية عام 1940 تشكلت جمعية أصدقاء الفن بمبادرة من الفنان أكرم شكري وكريم مجيد وعطا صبري وشوكت سليمان. وفي عام 1941 أقامت هذه الجمعية أول معرض لها شارك فيه فنانون هواة، وكانت أعمالهم محتشدة باتجاهات أسلوبية مختلفة بعضها ناشئ عن التوتر الذاتي والمجتمعي في آن واحد وبعضها مثل الاتجاه التقليدي الذي طبعته الأساليب العديدة التي تحاكي الواقع في أعمالها. الفكرة الأولى ولكي أعود إلى الفكرة الأولى من مقدمة هذه القراءة أقول: إن حركة الفن التشكيلي وهي الأصعب عادة قد سبقت حركة الشعر الحديث - إذا ما أهملنا الرأي الذي يرى أن خفقة الطين لبلند الحيدري قد سبق تجديد السياب ونازك باعتبارهما قد التفتا إلى الشعر الحر في نهاية الأربعينيات أو بداية الخمسينيات. حسناً لنقل إن الفن التشكيلي كان متواجداً بقوة في حركية المتغير الإبداعي في العراق إبان منتصف الأربعينيات وهو سابق للشعر بسنوات، لكن ما أريد قوله إن جهود جبرا إبراهيم جبراً النظرية مهمة جداً حين تصدى لكتابة البيان التشكيلي الثاني للجماعة عام 1953، ولكن من الغرابة أن ما لفت انتباهي حقاً هذا الوفاء الذي يكنه الفنانون التشكيليون العراقيون لهذا الرجل، الناقد والروائي والتشكيلي والشاعر المجدد بقصيدة النثر، وأقصد به جبرا إبراهيم جبرا حيث أهدى إليه الفنانون العراقيون كتابهم الموسوعي الجديد “الفن في العراق اليوم” والصادر عن جاليري ميم في دبي في ذكرى جبرا إبراهيم جبرا بعتبة جاءت تحت إهداء الفنانين الذين اشتركوا في هذا الإصدار الموسوعي المهم، هم: “مظهر أحمد” و”هيمت محمد علي” و”ضياء العزاوي” و”أحمد البحراني” و”عماد داود” و”غسان غالب” و”علي جبارة” و”حليم الكريم” و”نديم كوفي” و”هناء مال الله” و”رافع الناصري” و”محمود العبيدي” و”كريم رسن” و”دلير شاكر” و”علي طالب” و”نزار يحيا”. كما جاء في مقدمة الموسوعة التشكيلية هذه: “بالتواصل مع سلسلة المعارض التي أقامتها جاليري ميم تحت عنوان “الفن في العراق اليوم 2010 - 2011” برعاية ضياء العزاوي وتشارلز بوكوك يجمع هذا البحث عدداً من الفنانين العراقيين الذين تختلف أساليبهم الفنية بينما تجمعهم تجربة المنفى، ولكونهم قضوا سنوات تأهيلهم كفنانين في العراق يوثق هذا البحث ومساهماتهم المتواصلة في الفن العراقي، ويلقي الضوء على أهميتها في التاريخ الفني للشرق الأوسط المعاصر، ويحتفل هذا الكتاب بذكرى الناقد الفني البارز جبرا إبراهيم جبرا ومقالاته الهامة بعنوان “الفن في العراق اليوم”. ومع أن الفنانين الذين يتناولهم هذا البحث هم الآن جزء من الشتات العراقي، تدل أعمالهم على تواصل المواهب في جيلين من الفنانين وتمثل الفن العراقي اليوم”. موسوعة فنية واحتفظ الكتاب بوصفه موسوعة فنية مهمة بعنوان مقالة جبرا إبراهيم جبرا والمعنونة “الفن في العراق اليوم” ليكون عنواناً للكتاب، بينما تأتي مقدمة ضياء العزاوي للكتاب ولإبداع الفنانين العراقيين المغتربين الذين أسهموا في الكتاب لتؤكد أن هذا الكتاب يخصص للمغتربين فقط. تتحدث مقالة ضياء العزاوي عن الهجرة الشبابية الفنية إلى البلدان العربية والأوروبية من العراق، وهذه الهجرة بحسب العزاوي فتحت وعي هؤلاء الشباب ودفعتهم إلى مساحات تعبيرية حرة لها تفاعلاتها المعرفية والتقنية مع ما هو حالي في التجربة العالمية، خاصة وأنهم يقيمون ومنذ سنوات في بلدان ذات تقاليد وتاريخ فني مختلف. يشتغل ضياء العزاوي في هذا الكتاب على أعمال فنانين قسمهم الى مجاميع خمس وهي كالآتي: المجموعة الأولى تضم “هناء ما الله ومظهر أحمد ونديم كوفي”، والمجموعة الثانية تضم “كريم رسن وغسان غائب ونزار يحيى”، والمجموعة الثالثة تشمل “عمار سلمان ووليد سعد شاكر وهيمت علي”، أما المجموعة الرابعة فتضم رافع الناصري وعلي طالب”، أما المجموعة الخامسة فتضم محمود العبيدي وحليم الكريم وعلي جبار”. وارتأيت أن آخذ من كل مجموعة فناناً واحداً لنقرأ أسلوبه والمشتركات مع من يضمه مجموعته وكانت هناء مال الله وعلي طالب وأحمد البحراني وحليم الكريم. ما بعد الجنائزية أشار العزاوي إلى تجربة “هناء مال الله” في لندن من خلال تكرار الوحدات الهندسية وعلاقتها بالحدث اليومي، وهذه جميعها ترتبط بما يجري في العراق تتوخى منها شكلاً من أشكال النشيد الرثائي الملحمي بعيدا عن السرد القصصي. والمتأمل لفن هناء مال الله يجد فيه تأثيرات رمزية تشي بها عناوين اللوحات بوصفها شفرة دلالية حيث نجد في لوحتها “الكفن رقم 3” في عام 2010 شكلاً من أشكال الرمز الذي يقود إلى ما بعد الجنائزية والمصير القدري المؤلم وهي مطويات من قماش محروق ومواد مختلفة على قماش. كذلك في لوحتيها معرفة اليقين بوجهيها الخلفي والأمامي، إذ اليقين المفقود ورؤية هناء مال الله الفلسفية للوجود والعدم، وأعتقد أن هاتين اللوحتين تتجاوبان مع لوحتها الثالثة “صورة شخصية للهدهد” 2010 التي تؤسس على فكرة اليقين أو عدمه. منذ أن كانت رسومات هناء مال الله تصاحب المقالات النقدية للدكتور حاتم الصكر على جريدة الجمهورية إبان نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كانت هذه التشكيلية تثير إعجاب الجميع بتخطيها الحدود المرسومة للخراب البشري، للرمز، مستلهمة رؤاه من تاريخ الفن العراقي وأشكاله معبرة عن أفكار مستقبلية ومواقف إنسانية صارمة من التاريخ والوجود والحياة. تشتغل عند هناء مال الله فكرة الهدهد بقوة، ولكن بغير طريقة “هدهد” علاء بشير الذي كان عدائياً. إن الهدهد لدى هناء مال الله هو رمز التساؤل عن اليقين المفقود. خيالات مدهشة ويتطرق ضياء العزاوي إلى أعمال علي طالب كونه أحد المجددين - حسب وصفه له - حيث لا يزال فعالاً في تطوير تجربته، فيقول عنه “بدأ ولا يزال فناناً تشخيصياً لم تدخل إلى تجربته نزاعات الحروفية والتزويقية، كما حدث مع بعض فناني جيله، ظل علي طالب محافظاً على موروثه ووحداته وأصبحت مناخات لوحاته المتميزة بالحس المأساوي والدرامي أكثر عتمة وأكثر غنى، وهو من الفنانين العراقيين القلائل الذي نحس في لوحاته نبض الحياة العراقية وتبدلاتها دون أن يكون للموروث البصري العراقي فضلاً في ذلك”. وعلي طالب يمزج اليومي بالخيالي، المألوف بالاستثنائي، مستخدماً البياض بكامل تدرجاته حتى يصل به إلى الحليبي، عصفوران يتحاوران في “قيل وقال” واحمرار موزع بشكل دقيق أسفل بطن العصفورين، وفي أسفل اللوحة عند يسارها. يمتلك علي طالب في لوحته كوكب آخر “2006” من الاكرليك على القماش وضوحاً في الرؤية وانسجاماً في التحدي، يقيم رؤاه بنفسه، بخيالاته المدهشة التي لا تخلو مطلقاً من موقف صارم، حاد، مع استخدام لوني مدهش، يغير من موسيقى اللوحة بلمسة واحدة، بل يغير من مفهومها وموقفها ككل، الوجه لديه ليس مكتملاً، إلا أن صرامة الموقف بادية عليه، علي طالب في رسوماته محاولة جادة للتعبير عن الرمز بطريقة فاضحة، لا يحاول أن يشتت المتلقي نحو رؤى متعددة، إنه يقود المتلقي نحو المعنى الذي يريده. في لوحته “نانو” 1977 اشتغال على فكرة الموت واللذة، الرمز والأسطورة، الإيقونة والحركة، توظيف التقاليد في رموز تجريدية واضحة وقاسية، يسجل فيها ألمه الخاص عبر أسرار منقوشة على الجسد، في كل نقش حكاية وفي كل لون سر لا يريد أن يبوح به بسهولة. البهجة والغرابة النحات أحمد البحراني الذي يتواجد أحد أعماله الآن في أحد شوارع دبي يثير فينا الكثير من البهجة والغرابة في تشكيلاته القريبة البعيدة، في عمله النحتي - بالحديد دائماً ـ يقدم لنا قراءة للعالم، ففي بدون عنوان 2009 و2008 نرى العالم مطوياً متداخلاً، يشير إلى كارثة، الإنسان يحاول الفرار من داخله ومن الآخرين، إنه لا يسمي شيئاً، فهو يصف كل شيء إذ أن كل شيء يبدو مقطعاً في عالمه، مبهماً، يقترب من روح الحرف العربي التجريدي بجماليته المدهشة غير المبررة، أما الشكل لديه بالرغم من أنه يمتلك حرية عالية إلا أنه مقيد بروح هذا التداخل الذي يأتي عادة في أسفل أعماله. أشياء مطوية تركض، ووجوه تنظر إلى بعضها بتكور كالهاء. الغياب والخفاء في أعمال حليم الكريم نجد الغياب والخفاء، والإيهام، عبر تسميات يريدها الفنان نفسه كإشارات على وحدة أعماله التي تقبع وراء ظلال بعيدة، منها “الحرب الخفية، الحب الخفي، شاهد من بغداد، الجنة الخفية، وفينيسيا في الجنة ودبي في الجنة والثورة الخفية والفكرة الخفية” وجميعها طباعة فوتوغرافية. أما لوحته “غسيل الأمم” 2010 فإنها حاملة للموقف الواضح الذي يتفق عنده الجميع، بينما لا نجد وضوحاً في رؤية الأعمال الأخرى إلا عبر الاختفاء الكامل أو الاختفاء الجزئي، لهذا الفنان الخزفي المعروف والذي يشتغل الآن على فن مختلف لا يضارعه فيه أحد، بل يتفرد به. يقول ضياء العزاوي “إنه يخترع لنفسه عالماً عجيباً من الأشكال، متجاوزاً التقليد الذي ظل شائعاً في الخزف العراقي، كذلك كان في الرسم ذات عوالم إشارية غاية في التنوع والغنى الروحي”. ويؤكد أن البورتريه ايقونته المتميزة التي يستطيع أن يطرح من خلالها أفكاره الاجتماعية والسياسية ومواقفه من العالم. بل أستطيع أن أضيف على ما يقوله العزاوي إن حليم الكريم يسرد حكاية الوجوه التي تنظر من وراء غلالة موحشة، فهو يروي حكاية بغداد وشاهدها الذي لا يفصح عن وجهه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©