الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التأمل في مرايا الذات والوجود والعدم

التأمل في مرايا الذات والوجود والعدم
19 يناير 2012
نَحَت قصيدة الشاعر الكبير محمود درويش في تجاربه الأخيرة باتجاه المزاوجة بين الغنائية والنثرية، وبين النزعة الذاتية والنزعة الجمعية وذلك في محاولة للاقتراب من قضايا الحياة الواقعية وتفاصيلها الدالة بحيث تتخفف القصيدة قليلا من طابعها الغنائي المتدفق وتقترب من لغة الحياة البسيطة من جهة، ومن جهة أخرى تزاوج بين أبعاد التجربة الذاتية والجمعية باعتباره كائنا إنسانيا وفلسطينيا في الآن ذاته، تتداخل في حياته مستويات التجربة وتتكامل في معناها الوجودي والإنساني وفي أسئلتها ومكابداتها، كما تتجلى في مرايا الذات وتشظيها. وفي قصيدته الأخيرة التي نشرها قبل رحيله بأشهر قليلة بعنوان “لاعب النرد” يطل الشاعر علينا من أفق مفتوح على أسئلة الذات والوجود والكينونة والعدم المسكونة بالحيرة والقلق والشك والمحكومة بوعي وجودي مأساوي محكوم بشرطه الحزين. إن تجربة الشاعر الطويلة مع مرض القلب الذي كان يتهدد حياته حتى صرعه أخيرا تشكل نقطة استقطاب مركزية في هذه التجربة المحكومة بسؤال الأنا باعتباره تكثيفاً واختزالًا للشعور بوطأة الأقدار التي تحكم حياتنا منذ مجيئنا إلى هذا العالم، وتظل حاضرة في علاقتنا بالحياة، الأمر الذي يكشف عن الدور المحوري الذي يلعبه العنوان على مستوى تكثيف واختزال التجربة التي تقدمها هذه القصيدة الطويلة التي يعود فيها الشاعر إلى كتابة القصيدة الطويلة ذات النفس الملحمي. وفي حين يقيم العنوان تناصه مع مرجع خارجي يحيل عليه هو عنوان قصيدة للشاعر الفرنسي مالارميه تحمل نفس العنوان، فإن هذا العنوان يخترق بنية القصيدة كلها مشكلا محورا تدور حوله وعلامة ذات دلالة موحية يحيل من خلالها على المتن الشعري الذي يتوجه. شعرية النثر يفتتح الشاعر قصيدته بصيغة الاستفهام الاستنكاري المعبر عن رؤية مختلفة للذات، تنقلها من مستوى القصيدة الرؤيوية التي يتحول فيها الشاعر إلى رائي يستشرف الآتي والقادم ويبشر به كما شاع في قصيدة رواد الحداثة الغنائية، التي ارتبط فيها ضمير المتكلم بأنا الدالة على الفاعلين باعتبار الشاعر صوت الآخرين والمعبر عن وجدانهم الجمعي وأحلامهم وعذاباتهم. لقد ساهم هذا التحول في الرؤية إلى الشاعر ووظيفته الاجتماعية في التحرر من هذا الموقف النبوي، لا سيما بعد ظهور تجارب قصيدة النثر التي حاولت أن تركز على اليومي العادي والمعاش، وهنا تظهر العلاقة الجدلية بين اللغة الشعرية وعلاقة الشاعر بها أو موقعه داخل تلك اللغة، الأمر الذي يكشف لنا عن طبيعة التحول الذي طرأ على تجربة الشاعر ومحاولة الموائمة بين النثر والقصيدة الغنائية ليس على مستوى اللغة والقضايا التي تطرحها التجربة، وإنما على مستوى الرؤية إلى الحياة والذات واللغة وانشغالاتها وبنيتها أيضا، وهو ما تعبر عنه القصيدة منذ جملتها الأولى التي تتألف من جملة استنكارية تعبر عن هذا الموقف الجديد للذات الشعرية، وما تفصح عنه من وعي وجودي لكينونتها ووجودها المحكومين بسلطة الأقدار : من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم ؟ وأنا لم أكن حجرا صقلته المياه/ فأصبح وجها/ ولا قصبا ثقبتّه الرياح فأصبح نايا ../ أنا لاعب النرد/ أربح حينا وأخسر حينا أنا مثلكم أو أقل قليلا / ولدت إلى جانب البئر/ والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهبات ولدت بلا زفة وبلا قابلة/ وسميت باسمي مصادفة/ وانتميت إلى عائلة/ مصادفة وورثت ملامحها والصفاتْ/ وأمراضها: أولا- خللا في شرايينها/ وضغط دم مرتفع..... بعد ذلك يستخدم الشاعر صيغة الحشد التراتبي عندما يقوم بالانتقال من الإجمال إلى التفصيل وتوصيف الحالات لكي يقوم بتفسيرها، وتحديد حقيقة هذه الأنا التي تتماهى في وجودها مع رمزية لاعب النرد في علاقتها بالحياة والوجود عبر ثنائية الربح والخسارة الخاضعة للعبة الأقدار والحظ. إن هذا التحول في تجربة درويش قد ترافق مع شيوع ظاهرة التأمل في صورة الذات المتشظية، كما يتجلى ذلك واضحا في سؤال الذات والكينونة الذي يستهل قصيدته به، وفي التعبير عن اشتراطات وجود الكائن المحكوم بها، والتي تلغي فكرة الحرية والاختيار سواء على مستوى الانتماء والهوية الاجتماعية، أو على مستوى بنية الجسد والمكان والسلوك: ليس لي اي دور بما كنت/ كانت مصادفة أن أكون/ ذكرا ومصادفة أن أرى قمرا/ شاحبا مثل ليمونة يتحرّش بالساهرات ولم أجتهد/ كي أجد / شامة في أشد مواضع جسميَ سرّية . ثنائية الحتمية والمصادفة تحكم ثنائية الحتمية والمصادفة رؤية الشاعر إلى جوده وذاته، ومن خلاله إلى وجود الكائن الإنساني بصورة عامة، وبقدر ما تعبر تلك الرؤية عن بعد فلسفي في مقاربته لهذا لمعنى هذا الوجود، فإنها تكشف عن المستوى النثري في لغة الشاعر، انطلاقا من شعرية النثر ولغة التفاصيل للحياة اليومية وللتأمل في مرايا الذات، بعيدا عن أي إسقاط أو رمزية أو تفخيم يذكر لتلك الذات في مواجهة شرطها الوجودي الذاتي وأقدارها، ولهذا تذهب لغة الشاعر نحو بساطة القول واللغة وكثافته التعبيرية والحسية، مؤكدا حقيقة هذا الوجود الكائن القابل للتحقق أو عدمه ... بهذا الشكل الذي كانت عليه، أو نقيضه تماما، ما يجعل الشاعر يستخدم التكرار العباري المتباعد حينا والمتصل حينا آخر، والذي يظهر في وسط الكلام بغية تعميق حضور القول والفكرة في وعي المتلقي، وذلك من خلال استخدام الفعل الماضي الناقص وأداة الاستثناء الدالة على احتمالات تحقق كينونة الذات بالشكل الذي كانت عليه أو نقيضه، مع التعديل في بنية القول دون أن يشكل ذلك انزياحا كبيرا في المعنى: كانت مصادفة أن أكون/ ذكرا ...... كان يمكن أن لا أكون/ كان يمكن أن لا يكون أبي/ قد تزوج أمي مصادفة أو أكون/ مثل أختي التي صرخت ثم ماتت/ ولم تنتبه/ إلى أنها ولدت ساعة واحده ................... كانت مصادفة أن أكون، أنا الحيُّ في حادث الباص، حيث تأخرت عن رحلتي المدرسية/ لأني نسيت الوجود وأحزانه/ عندما كنت أقرأ في الليل قصة حب/ تقمصت دور المؤلف فيها/ ودور الحبيب - الضحية .................... كان يمكن ألا أكون مصابا/ بجنِّ المعلقة الجاهلية/ لو أن بوابة الدار كانت شمالية/ لا تطل على البحر.. الجمعي والذاتي فلسطينياً إن وظيفة استخدام الشاعر تكرار الاستهلال المتباعد لعبارة (من أنا لأقول لكم)، وللتكرار العباري الذي يأتي في وسط الكلام لعبارة ( كان يمكن أن ..) تتجلى في التعبير عن الحضور الشعوري المكثف لتلك الحالات من التأمل، إضافة إلى أن التكرار العباري يأتي تفصيلا لمعنى سؤال الكينونة والذات في تكرار الاستهلال واحتمالات ما كان يمكن أن تكون عليه تلك الذات مع لعبة الأقدار والمصادفات التي تحكم وجود الإنسان، دون أن يلغي وعيه بإمكانية الإنسان في تعديل شرطه الوجودي من خلال واقعية إدراكه لحقيقة وجوده وإيمانه بنبوءة أحلامه البسيطة، بعيدا عن أوهام البطولة. وتظهر وظيفة التكرار عندما ينتقل الشاعر من الحديث عن الذات الفردية على المستوى الوجودي، إلى الحديث عن الذات الجمعية وحالة التشابك في الواقع والمصير على المستوى الوجودي العام أيضا بين تلك الذات والذات الجمعية الفلسطينية، إذ يظهر التحول في استخدام ضمير المتكلم/ الشاعر الذي يتحول من لاعب النرد إلى رمية النرد وفقا للتغير في موقع الشاعر، ولا شك أن هذا التغير في موقع الذات داخل بنية الخطاب الشعري من صيغة الفاعل إلى صيغة المفعول به تجعل التكرار هنا ليس مجرد طلب لتحقيق هدف غنائي، أو للتعبير عن الحضور الشعوري المكثف للحالة، بل هو يرتبط بمستوى القول وتعبيراته عن موقع الشاعر في هذا المشهد المأساوي للحالة الفلسطينية على المستوى الوجودي والإنساني، ومدى اندغامه وجودا ومصيرا وحياة داخل مشهد الوجود الإنساني الفلسطيني العام. إن هذا التأمل في الذات وفي مصيرها لا يمكن أن يتحقق عند الشاعر خارج حدود التأمل الأشمل في العلاقة الجدلية بين تلك الذات والذات الجمعية التي ينتسب إليها ويرتبط مصيره بمصيرها ارتباطا وثيقا وعميقا: من أنا لأقول لكم/ من أنا/ عند باب الكنيسة / ولست سوى رمية النرد /ما بين مفترس وفريسة ربحت مزيدا من الصحو/ لا لأكون سعيدا بليلتيَ المقمرة / بل لكي أشهد المجزرة نجوت مصادفة: كنت أصغر من هدف عسكريَ / وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج وخفت على زمن من زجاج/ وخفت على قطتي وعلى أرنبي / وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العالية يبدو الشاعر المسكون بالبحث عن الجمال في الواقع والحياة محاصرا بالخوف الذي يتهدد تلك الحياة من قبل مغتصبيها القتلة، وللتعبير عن كثافة تلك الحالة المأساوية التي تعيشها الذات الفلسطينية من خلال رمزيته يستخدم الشاعر الجناس والطباق بكثافة، من خلال استخدام حشد التوصيف المتمثل في متتالية واسعة من الأفعال المضارعة التي توحي بالحركة والاستمرارية في مشهدية توحي بالتقابل والضدّية، من خلال علاقة التقابل القائمة بين الثنائيات التي تصوغ بنية ذلك المشهد المتداخل، والتي تكثف صورة الحالة التي تعيشها الذات في مواجهة شرط الواقع المأساوي، لكنها رغم إدراكها لقسوته ولمراراته وضياعه ولعجزها عن تغييره تحاول تلك الذات من خلال وعيها المكتسب إلى تعديل شروط حياتها وإضاءة زواياها المعتمة وإعلاء قيمة الجمال والأمل فيها انتصار على اليأس والشعور بالعدمية: أمشي/ أهرول/ أركض/ أصعد/ أنزل/ أصرخ/ أنبح/ أعوي/ أنادي/ أولول/ أسرع/أبطئ/ أهوي/ أخف/ أجف/ أسير/أطير/أرى لا أرى/أتعثّر/ أصفرّ/ أخضرّ أزرقّ/أنشق/ أجهش/ أعطش/ أتعب/ أسغب/ أسقط/ أنهض........./لا دور لي في حياتي/ سوى أنني،/ عندما علمتني ترتيلها،/ وأوقدت قنديلها/ ثم حاولت تعديلها. إن القصيدة هي عبارة عن منولوج مطول بين الشاعر وذاته قبل أن تكون خطابا موجها إلى المتلقي، وذلك بعد تجربته المريرة مع شبح الموت الذي ظل يطل عليه في فترات متباعدة حتى استطاع أن يصرعه. ولا شك أن هذا المنولوج هو تجسيد لحالة التأمل الذاتي التي برزت في تجاربه الأخيرة، وفي صورة المكان الذي ينتمي إليه باعتبار أن قانون المصادفة يحكم وجود الكائن والمكان معا، بما صارا إليه أو يمكن أن يكونا عليه من حالة أخرى بحكم قانون المصادفة ولعبة الأقدار التي تفرض نفسها على وجودنا. لذلك فإن الاستخدام المكثف للفعل الناقص بصيغتي الماضي والحاضر يهدف للتعبير عن قانون الاحتمالات والمصادفة في هذا الوجود. وإذا كان الشاعر يفتتح قصيدته بسؤال الذات الاستنكاري الدال على حالة الإدراك العميق لمعنى هذا الوجود للذات في مواجهة اشتراطاتها فيه، فإن سؤال الختام الذي ينهي فيه الشاعر قصيدته يضع هذا الوجود والذات الإنسانية أمام معادلة ذلك الشرط الوجودي المختل، والدال على ضعفها وهزيمتها أمامه، ليبقى سؤال الذات المعذِّب الذي أقلق الإنسان عبر رحلة وجوده الطويلة، وما زال معلقا في فضاء هذا الوجود، وملازما لرحلة الذات الإنسانية في بحثها عن معنى ما لهذا الوجود المحكوم بالعدم والموت: من أنا لأخيب ظن العدم / من أنا، من أنا؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©