الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حفيت.. الطالع من باب السماء العالي

حفيت.. الطالع من باب السماء العالي
19 يناير 2012
جبل حفيت، الطالع من باب السماء العالي، المتطلع إلى تاريخ العين الفايضة، المزخرفة بأحلام الطيبة، وبلل الرضاب الشافي.. محتدماً في سموه، معانقاً السحب، في لون الأشواق، ورجفة العشاق، وتباشير الشهب الوضيئة.. هنا عند العلو الشاهق، عند رعشة الفضاء الوسيع، يزحف الهوى بالثوب الأبيض وعباءة الحضور المنعمة بالفرح، الناعمة إلى حد الشفافية، يخطو القلب كما يخفق وتستدرج الروح لواعجها بخفة المشية الرشيقة لطائر الخضرة اليانعة.. يتدفق المخيال كشلال، حط من علٍ، وتستفيق العيون على مشهد أقدم من العصور، وقبل البدء صنع الجبل لوحته التشكيلية بمهارة الأصابع الأنيقة، ثم اقتعد المكان محتسياً نشوته بالغة الروعة، ناظراً، منتظراً الناس من كل الأجناس، منتصراً لهذا التنوع في الاحتفاء، مختصراً جل النظريات الوضعية في جملة الوعي، بأن المكان يصنع زمانه، بعد حركة العشاق، على التربة وعند الترائب. الهامة العالية المسافة من وسط العين من مركز المدينة إلى الهامة العالية لا تستغرق أكثر من دقائق وفي الدقائق تكمن التفاصيل، وفي التفاصيل يستقر التاريخ غير مؤدلج بالتأخير، والتنظير وإنما بأحلام الذين نسجوا خيوط الحرير، لتصبح المدينة الخضراء عذراء تكتب الشعر، وتعقص الجدائل لتصير جداول، ويصبح الكعب العالي جبلاً يرتقي إلى السماء، ويمسح بالأنامل على نعومة الغيم، وما بين العناق والانعتاق نث يغري ويسري في عروق المحبين، يلهمهم استفاقة بعد ضجيج ولباقة بعد عجيج. وعند السفح، عند التزحلق على سطح الموجات الصخرية اليافعة، تسرج الناعسات خيول المعرفة، ويشرع العقال غترته ناشرة بياضها وطموحها، وعزوة إخوان شما، في انتظار من بث ما يختلج وما يعتلج، وما يثلج الروح، في يوم، اجتاز الناس مراحل، ما قبل فراغهم ودلفوا من نافذة الأيام المفتوحة على مصاريعها، ليقبل الصغار مرملين بلفافة الرأس، وملفع الفؤاد، مدثرين بحنان الجبل، مندفين كأنهم الطيور الناهضة من أعشاش السدر واللوز، ومعهم يجلبون الأغاني فيصدح الجبل، متصدعاً من أثر الوئام والانسجام والالتئام، واقفاً شاهداً على عصر يحكي قصة شعب صنع من المستحيل علاقة بارزة وجودة عالية، ومن يأتون تلاميذ يتلون آيات الشكر والعرفان لمن أسَّس ومن أرسى الدعائم، وجعل من الصخر الأصم منطقة تترعرع فيها الذاكرة، وتنتعش الأحلام، وينتشي الفكر. تفاصيل النشوء والارتقاء هذا التاريخ البادئ من صفر المراحل إلى أرقامه الخيالية، في القرن الواحد والعشرين يُقبل على حفيت بأقدام حافية، ليخضب القدمين بخضرة أشبه بمخمل التفوق البشري، ثم يستمر في القص، والحكاية أن جبل حفيت أصبح الآن معلماً من معالم بلد يقصدها الحجيج من كل فج عميق، ومن كل صوب وحدب، يعتنون بالزيارة كفاية بوطن اعتنى بالحب، واستوعب المحبين برحابة تغسلها سحابة الإرث الثقافي لهذا الشعب، ويستمر في القص ويسرد تفاصيل النشوء والارتقاء وكيف تمت صناعة القمة العالية بأوتاد الذين أرادوا أن يكون الوطن قامة بلا انحناء، وهامة بلا انثناء، واستقامة على الصراط القويم، لتستقيم الحياة، وتسبح الطيور في العين الفايضة، بحرية انتمائها إلى رفرفة الجناحين، وشفافية الجوانح.. منطقة من الشوق، تغرق الصدر باحتمالات التلف وأنت تتسلق أسفلت الجبل، بعجلات المركبة المحروسة بعين يعشق الإطراء على الجماد والعباد لأن الحياة تبدأ بابتسامة، ولا تنتهي إلا بعلامة استفهام مبهمة.. من أنا.. هنا عند هذا الجبل الأغر، تقرأ الخصوبة مع التضاريس، ويشدو معك الغير حين تدندن بصوت خفيض خشية الصدى، فيغتابك المنحدر يحسدُك على قصرك المشين عند رافعة الصخر، يحسدك الآخرون الذين تقاعست مركباتهم من السباحة على سطح يتعالى على العاجزين والكسالى. يحاصرك فرحك، يخطفك وأنت تتلمظ النسيم، وتعلك الرطوبة اليابسة، تمضي بفرح، لا تخشى إلا من الجنون، حين يخطف من صدرك قلباً مترعاً بالدماء، ويهدر كأنه الزمجرة، لكنك برغم ذلك تمضي ملتفاً على الجانبين، ترى الانخفاض وترى الارتفاع، وأنت ما بين النجدين، تخب بفرح، وصغار تحولقوا حولك، يغمرهم فرح الجبل، وتعمر أفئدتهم الصغيرة سطوة الأخضر، المتحرج شغفاً بالمروج.. يحاصرك ولعك بالفضاءات الوسيعة الشامخة عند خد السحاب، فتمضي زيادة لترى فيما بعد وما قبل، وما فوق وما تحت والجهات تمشي معك بتؤدة، لا تسبق خطواتك لكنها تسابقها.. تحاول أنت أن تقرأ ماذا يعرج إلى السماء غير الجبل، فيقول لك تاريخ بلد ما تقاعس يوماً عن السير قدماً باتجاه الأخاديد المفعمة بكنوز المجهول، والمجهول لا يخصب غير العقول المتحركة بعيداً عن عناصر الصمت والسكون”. تحاول أنت أن تقرأ الوجوه، فتتهجى الملامح الفخورة جداً، بما صنعت يد القدرة الفائقة، وما بذلت الصحراء حين أعلنت العصيان السلمي، على كل شحيح وكل فحيح يرعب القلب ويرمد العين.. تحاول أن تستمر لأن الرحلة على قمة الجبل في حفيت أقرب إلى التحليق في السماء بجناحين ورقيين، وقلب من حفنة طين مبلل بالماء. واقفاً على قارعة السؤال جبل حفيت يقف على قارعة السؤال، ويهدئ النواصي، وتهدى الناس إلى سلام النفس، واستسلام للطمأنينة، واستلام حميمية العلاقة بصداقة اليد باليد، وصدق الالتئام، مصادقة لما أوزعه الإرث القديم والنهج القويم، بأن الناس سواسية كأسنان كاعب، رفلت برغد العشق ورفاهية العاطفة، كخد ما نبشت به البثور، وما لعبت به أصابع الزمن. جبل حفيت، الغني بثروة الذاكرة وما اختزنه الشموخ من جمل فعلية، رفعت الفاعل وأسست للفعل ثقافة ترسخ مع الزمن، كما هو الجبل، وكما هو الإنسان الذي جاور وحاور وساور، وطوق الرسغ بأساور الفرح، وامتد في المدى يمد المستذكرين طلاوة وطراوة وحلاوة مستطرداً في التجلي والتحلي دون التخلي عن ثوابت وضوابط، ومنابت طلعت مع الصخرة الأولى، في استباق إلى صناعة الحياة، واقتسام رغيف البقاء مع أسنان ما أجمل ابتسامته حين يطالع البزوغ الأليف، لكائنات الجبل، ومفردات جملة الأسطورية. جبل حفيت، يلون العيون بريشة النخلة الوارفة عند خصره، ويجلي ما تجلي في الخاطر، بلمسة السحر الأبدي، بخفة الطير الحليم، الرابض عند ربوة أو صهوة الراشف من قهوة الحالمات بسخونة النهار المجلل بسحنة البياض الفطري.. جبل حفيت مازحته النوق البيض وجياد الأفذاذ، والنازعات المدبرات أمراً، والناشطات في الغسق على امتداد أفق المعرفة بالأثر والخبر وما تعلمته النفوس في عسعسة الليل حين يبيض السيف صقيلاً، مداهماً عتمة الأحداث الرهيبة. جبل حفيت، بلغة الصحراء بشهقة الغيمة النديمة، يشمر عن صلابته ليغشى أسرار ما توارى من أخبار الجيل، ما زال يفكر في تقليم أعواد الذاكرة، والسباحة في عالم متوحش، يعشش عنه حافة الذهن.. جبل حفيت، منطقة غير محايدة مع الفكرة بل هو الاستفزاز الجميل، الغضب النبيل، العشب الأصيل، يخصب ويخضب، ويحط في براري الشغف، مطارداً أحلام الناس بعصا أرهف من الشريان، وأعنف من العذوبة، وإن كنت منطلقاً نحو غاياتك، يأتيك بغايته وغوايته، يسلبك من نفسك يحتلك، فتتوقف دورة الدم، عند دورة الزمن، وتشير عقارب الساعة أنك الآن في أول الزمن، عند أول خطوة نحو الجبل، بجوار الابتسامة الأفصح لساناً ولوناً.. جبل حفيت المساحة الأوسع للتذكر والتفكر، والتبصر، حين تضيق الدنيا ويصبح الصد بأفق ثقب إبرة.. فتضطر أن تكون أنت، تستدعيك الجبلة الأولى إلى سجيّتها ونقائها، وصفائها وعنفوان بياضها، وإشعاع آخر يباغتك لتأثيث الفؤاد بعناصر الحب، فتحب فعلاً وتؤلب كلك لأجل كلك، تتكالب أجزاؤك، لتكون أنت المعنى المتوائم مع كيانك المنبثق من بهائه.. جبل حفيت المنحدر أنت من ترابه، المستجلي من ترائبه، ينتزعك من خرابك واضطرابك، واحترابك وسرابك، ومفرداتك المرتبكة، لتسكن في الضوء، لتمكث في السكينة، ليبقى حفيت الوتد المنصوب عند خيمة المكان، الفرح المصبوح في واحة الزمن.. لتبقى أنت دائماً تتذكر جبل حفيت نصبا تذكاريا، اخترعه الزمان فأيَّده المكان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©