الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فواز قادري يرصد المتاهة التي تطارده وتطرده من ملكوت العادي والمطمئن والمهادن

فواز قادري يرصد المتاهة التي تطارده وتطرده من ملكوت العادي والمطمئن والمهادن
24 سبتمبر 2010 22:43
صدر مؤخراً للشاعر السوري فوّاز قادري المقيم في ألمانيا مجموعة شعرية جديدة حملت عنوان “ لم تأت الطيور كما وعدتك”، عن دار “الغاوون” اللبنانية واشتملت على 24 قصيدة وجاءت في 77 صفحة من القطع الوسط. وهذه المجموعة الجديدة هي الخامسة للشاعر بعد “وعول الدم” عام 1992 و”بصمات جديدة لأصابع المطر” عام 1993 و”لا يكفي الذي يكفي” عام 2008 و” نهر بضفة واحدة” عام 2009 . يدشن الشاعر ديوانه بإشارة ومقولة استهلالية تضيء وتمهد لهوى ومسارات القصائد، فيقول : “ لا أثر .. إلى متى سيبقى الشاعر يقتفي خطوات السراب” ، وهو قول يبدو متسقا مع مناخات الاغتراب الداخلي الذي يختبره الشاعر، أكثر من اتساقه مع جراحات الخارج وتفتت الطبيعة والمكان وسط مرايا محطمة تعكس الأسى وتشظياته وتحتضن الصور الممزقة بعنف ظاهري وتجريد لفظي، وهو قول يترجم أيضا انشطار الحال بين البحث الذاتي المضني، وبين الأثر الدالّ، الذي لم يعد الشاعر واثقا من وجوده أصلا حتى يكون لهذا البحث مشروعيته واغراءاته أيضا، ومن هنا فإن القصائد التي سيجابهها القارئ في الصفحات التالية ستكون على قياس وحجم هذه المتاهة الوجودية الشرسة التي تطارد الشاعر وتطرده من ملكوت العادي والمطمئن والمهادن. ومع القصيدة الأولى التي تحمل عنوان “ ظل وردة عطشى” يكتشف القارئ البعد الجحيمي والمؤلم لكلمة “التلاشي” والتي باتت توزع صكوكها الحارقة على قلب الشاعر وعلى رؤيته وتفسيره لما يحيط به من صور وظواهر ومدارات، فيقول : “ ظلها على الرمل ظل غيمة شارفت على الهطول ظلها على الماء ظل وردة عطشى ولا علم لمياهي ظلها في الشمس فاجأ الشاطئ بطفل قمري يلهو ظلها على العشب بوصلة خراف جانحة ظل لها في الظل” ولعل مفردة الظل هنا هي دالة الوهن والمخاتلة التي يبررها التلاشي ويؤكدها ويجول قرب حوافها المنزلقة والمشرفة على هاويات وجروف، فظل الحبيبة على الماء هو ظل وردة عطشى أيضا وفي هذا التنافر والتناقض بين مفردتي الماء والعطش دلالة أخرى على السراب الروحي الذى يقيم في دواخل الشاعر ويجعل اليقين بالنسبة له ضربا من النفي والاستحالة والتضاد المطلق. بينما يذهب الوصف المستحيل بإقامة الظل في ثنايا الشمس، نحو اليأس الذي يغمر الكتابة ويجعل البوح الشعري منفيا ومقرونا بالوهم واللاتحقق. وفي القصيدة التي حملت عنوان الديوان تتشكل ثيمة الغياب وتتكرر حتى تصبح هي الثيمة المهيمنة على خراب الحالة وعلى أطلال الذاكرة، فالمقطع التالي يبدو أقرب إلى التحليق الأعمى فوق أرض منسية وموعودة باليباس والسكنى القاحلة المتفتحة على أزاهير السم والأذى: “ لم تأت الطيور جاء ثلج متأخر بثياب الموتى لينشرها على الأسطح ورؤوس الأشجار على قطارات تنام بلا شخير على العربات النافقة وعلى البقول الطالعة سرا في حقل مهجور” ورغم اهتمام الشاعر بجماليات العناصر والأمكنة المحيطة به، إلا أن الاهتمام اللفظي يأتي في ثنايا الديوان وكأنه أقرب إلى تشريح الجمال وانعكاساته، لا إلى شرحه وتقديمه للقارئ على هيئته الانطباعية والبصرية المباشرة، فكل ما يرد هنا من مديح للطبيعة ومكوناتها إنما هو في الأصل استدعاء لما تهدم وانمحى في أرض الطفولة وعلى مقربة من ضفاف الفرات الذي تبخرت مياهه في سماوات موحشة لا تفضي سوى للكد والتعب والهجرات المرّة والدائخة. وفي قصيدة يهديها للشاعر الراحل سركون بولص يقول قادري : حرّك كتابي الذي في الغيب ستسمع رنين الحياة العالي وافتح صفحة الينابيع ستجد الجذور رمادية أشجار الخريف وأنت أخضر بكل ما تستطيع القصائد”. في شعر فواز قادري الكثير من الخطابات والمحاورات والتراكيب السلسة والطيعة، ولكنها السلاسة التي تخبئ وراءها أحاسيس وعرة وانتباهات قلقة وقودها الذاكرة المعذبة والعشق المنهك والأصدقاء الذين مزقتهم الجهات وجرفتهم الأقدار إلى حطام بعيد وإلى مجهول ينأى بنفسه عن الكشف، ولكن تبقى الكلمات لمضيئة، ويبقى الشعر مثل مصباح يتنفس وحيدا في ليل عتيق وحافل بالأسرار والمسرات الغافية.
المصدر: الشارقة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©