الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

انتحار المشاعر

9 يونيو 2006

سعاد جواد:
نمت بين أضلعي وشراييني نمواً عجيباً، جعلني أشعر وكأنها جزء مقطوع من أجزائي، فلا أطيق بعدها· إنها نصفي، أحد أضلاعي الذي لا استقيم بدونه·
لا أحد يمكن أن يتصور شعوري نحوها· الكارثة هي أنها لم تكن تشعر بأن ما بيننا يمكن أن يكون شيئاً غير الأخوة· انه بالنسبة لها احساس بدأ بيننا منذ الطفولة وكبر معنا دون أن يصل إلى حدود· إنه أكبر من الحب بين الرجل والمرأة، إنه شيء طاهر وسام سمواً عجيباً·
انا إنسان مسالم هادئ· منذ أن كنت صبياً صغيراً لم أكن أميل للعنف، ولم أشارك أخوتي في لعبة كرة القدم أو المصارعة أو غيرها من ألعاب الأولاد· كنت أحب القراءة، خصوصاً الروايات وقصائد الشعر· من دون قصد كانت شخصيتي تنمو وتتطور من أجلها وتحت تأثيرها· التفوق الدراسي كان من أجل مساعدتها في المذاكرة والبقاء معها لأطول فترة ممكنة، وهذه الشخصية الرصينة، طورتها من أجل أن تثق بي وتبوح لي بكل ما يعتلج بداخلها· وهذا الإنصات والاهتمام والصبر، كله من أجل أن أمتص غيظها واسحب معاناتها فتبقى بحاجة إلي·
حتى الغناء، تعلمته من أجلها· فأنا المسجل الذي تديره متى تشاء لتستمع إلى الأغاني والأناشيد التي تعجبها··· وأنا الكتاب الذي تأخذ منه معلوماتها· أنا كل شيء تحتاجه وفي أي وقت·
وهي، أبنة عمي، ولدنا في بيت واحد، أنا أكبر منها بعامين· أمها وأمي من جنسية واحدة· درسنا معاً في مدارس خاصة، وعشنا معاً طوال الوقت وكأننا أخوة، نلعب معاً ونذاكر دروسنا معاً· اعتقد إنني كنت أحبها حتى عندما كنا أطفالاً·
دخلت الجامعة قبلها بعامين ولم أتوقف عن مساعدتها في دراستها، خصوصاً في امتحانات الثانوية العامة· لم أسمح بوجود مدرسين غرباء لمساعدتها وانما تكفلت بهذه المهة حتى انهت الثانوية بدرجة ممتازة ودخلت هي الأخرى الى نفس الجامعة الخاصة التي أدرس بها ولكن في تخصص مختلف·
رعاية مستمرة
مهدت لها الطريق قبل أن تدخل الجامعة وبينت لها ما يمكن أن يساعدها في عدم الانجراف بتيار العبث واللهو الذي تمارسه بعض البنات· افهمتها بأن كل ذلك هو استنزاف غير صحيح للمشاعر التي يجب أن توجه كلها لإنسان واحد يختاره القلب ليكون شريك العمر·
كانت تلميذة مجتهدة تأخذ مني كل دروس الحياة، فتحفظها وتطبقها بكل جدية·
كنا معاً طوال الوقت، حتى اعتقد البعض بأننا مخطوبان· كانت تبتسم لتلك الإشاعة دون تعليق، وكنت أشعر بالحرج فلا أدري بما أرد عليها·
كنت أتعامل معها ومع نفسي وكأننا لبعضنا بشكل حتمي لا يحتاج للتوضيح أوالمناقشة أو التصريح والمبادرة، وهي بالتأكيد لم تكن بحاجة لمساعدتي لتحديد شعورها نحوي··· ثم ما الذي يخيفني وهي لا تخطو خطوة واحدة إلا بعد أن تستشيرني وتأخذ رأيي؟
مرت السنوات الجامعية الأولى بنجاح وتفوق لكلينا، وفي سنتي النهائية، تعرفت على زميل جديد بنفس كليتها· كان أبن أحد الأثرياء المعروفين، تقرب مني فرحبت بصداقته، ثم مع الوقت أعجبت بشخصيته وتواضعه وصرت أقدم له يد المساعدة في كل ما يحتاج إليه· اعجبتني كثيراً ثقته بي واختياره لي كصديق مقرب من بين كل الزملاء· وصار من الطبيعي انه كلما وجدنا أنا وابنة عمي في المكتبة أو في مقهى الجامعة··· أن ينضم إلينا، فنتحدث ونقضي أوقاتًا طيبة وممتعة نحن الثلاثة·
لم أشك لحظة واحدة بهذا الإنسان، فهو شديد الأدب، لا يرضى أن يتحدث مع أبنة عمي بشكل مباشر وانما يوجه حديثه كله لي، ويتحاشى النظر إليها أو الانفراد بها مما زاد في ثقتي به واحترامي له·
ثم تجاوزت هذه اللقاءات الأجواء الجامعية· فقد صار يدعونا إلى رحلات ترفيهية مع مجموعة من الاصدقاء والصديقات· رحلة بحرية جميلة وممتعة، رحلة سفاري، دعوة عشاء في فندق فخم· بصراحة لقد انتقلنا إلى أجواء لم نكن نعلم بوجودها هنا، وكأننا لم نكن نعيش في البلد نفسه، فقد كانت حياتنا مقتصرة على المذاكرة والرحلات العائلية في الحدائق العامة لممارسة هواية الشواء ولعب الريشة والكرة· هذا هو عالمنا المحدود، أما هذا الذي أخذنا إليه صديقي، فهو عالم ساحر كنا نشاهده في الأفلام فقط·
الخطر القريب
حدث شيء لم أكن أتوقعه· فقد أعجبت ابنة عمي بشخصية ذلك الشاب وصارت تصارحني بمشاعر غريبة تشعر بها نحوه· هنا توقفت عن ذلك الاندفاع غير الواعي بعد أن أحسست بالخطر· فتاتي ستطير من يدي· حاولت أن أعيدها إلى بر الأمان بعيداً عن هذا الذي لا يمكن مقاومته لوسامته وثرائه ودماثة خلقه، ولكني عجزت· لقد تعلقت به أبنة العم وصارت تحبه بجنون، أما هو فلم يبدي أي اهتمام غير عادي بها، وكل ما كان يهمه هو رضاي وان لا يخسرني كصديق، حتى انه صار يدعوني لوحدي بحجة إننا شباب وسنأخذ راحتنا معاً دون وجودها·
أحدث ذلك التصرف من جانبه صدمة كبيرة لها فصارت كئيبة متوجعة من الأعماق· حاولت أن أوضح لها بأن ما تشعر به هو مجرد انبهار لا علاقة له بالحب ولكنها كانت تبكي بحرقة وألم· مرت فترة بسيطة، بعدها أحسست بأنها استعادت ابتسامتها واشراقة وجهها فاعتقدت بأنها شفيت من ذلك الاحساس، ولكني فوجئت بتهرب صديقي مني بشكل غير متوقع· بدأ الشك يراودني وقمت بمراقبته حتى تيقنت بأنه على علاقة بها· طعنني بتلك العلاقة وشعرت بأنني على حافة الانهيار، فكيف ستكون حياتي بدونها ؟ وهل يمكنني تقبل فكرة أن تكون لغيري ؟ إن هذا هو الموت بعينه·
مررت بمرحلة قاسية وأنا في عزلة مع نفسي حتى تبدلت أحوالي وقلق جميع من حولي علي دون أن يعرف أحد السبب، الى أن قررت أخيراً أن أضع حداً لضعفي وأن اواجهها بمشاعري وأساعدها على نسيان ذلك الغريب الذي لن يستطيع أن يسعدها كما سأفعل أنا·
زرتها في منزلها، وعندما انفردت بها، فاجأتني بحديثها الصريح الذي قتلني تماماً·
قالت لي: لقد اكتشفت بأنه كان يبادلني نفس الشعور ولكنه كان متردداً في مصارحتي لأنه كان يعتقد بوجود علاقة بيننا! كيف خطرت على باله؟ لقد أخبرته بأنك مثل أخي تماماً، وما بيننا هو أكبر من الحب، أنه شيء لا يمكن تسميته·
كانت كلماتها طعنات قاسية ومؤلمة تمزق قلبي· لا يمكنني وصف مشاعري في تلك اللحظة· انه شيء أكبر من الجرح وأكبر من الموت· لقد تحولت إلى مخلوق غريب يعيش بجسد حي وروح مقتولة·
تركتها وشأنها، فلتحب من تشاء ولتختار من تشاء، تغاضيت عن مكالمتها، فماذا تريد مني بعد الآن ؟ هل تريد أن تسمعني كلمات قاتلة أخرى عن حبها وشوقها ؟ لم يعد لديّ قلب كي تقتله من جديد··· لم يبق لي سوى الجسد فبماذا يفيدها ذبحه؟
محاولات مؤلمة
حاولت أن انهمك في مذاكرتي لعلي أنساها، ولكني فشلت، فالفراغ كان يدمرني على الرغم من جميع انشغالاتي· ذلك الخواء الروحي الكريه لا يمكن احتماله· لقد انهارت بداخلي كل الطموحات والأمنيات، فلمن التفوق ؟ ولمَن النجاح؟ وما هو المستقبل الذي أحلم به إذا لم تكن هي معي؟· أخيراً قررت بأن انهي حياتي لأنها لم تعد تعني لي شيئاً·
ذهبت إلى البحر ودخلت في الماء بخطوات ثابتة وأنا مقتنع بأن الأمر سيكون سهلاً ولن يعتقد الآخرون بأنه انتحار، لأنهم سيتوقعون بأنه مجرد حادث، فالأفضل أن لا يعلم أحد بأنني انتحرت بعد أن فشلت في حياتي العاطفية، فأترك فضيحة تسيء لأهلي وعائلتي·
عندما غمرني الموج وصارت روحي تنازع للخروج، مر شريط عمري بلحظات أمام عيني، فأدركت بأن حياتي كلها كانت تافهة وبلا معنى، وبأنني سأنتقل إلى الحياة الأخرى وأنا في وضع شائن مخجل، فكيف أواجه ربي وأنا كنت بعيداً عنه طوال حياتي فلم اؤدي ما فرضه عليّ وفي النهاية، أحاول قتل نفسي وهذا شيء لا يمكن غفرانه ؟· في تلك اللحظة توسلت إلى ربي أن يمنحني فرصة أخرى لأعود للحياة من جديد ولأكون إنساناً آخر، عندها بدأت أحرك ذراعي وقدمي سابحاً إلى الأعلى مخلصاً نفسي من الموت الذي كان قريباً جداً مني·
عدت الى بيتي اغتسلت وتطهرت وأسرعت إلى الصلاة وقراءة القرآن، فغمرني شعور رائع بالطمأنينة والراحة، ومنذ ذلك اليوم شعرت بأنني قد ولدت من جديد· عدت أهتم بمذاكرتي وتخرجت بتفوق، وحصلت على وظيفة طيبة بذلت جهداً حتى أتميز فيها· ترقيت في فترة قياسية وصرت راضياً عن نفسي وعن حياتي، أما ابنة عمي فلم اسأل عنها وقد توقعت أن اسمع خبر زواجها ولكن ذلك لم يحدث·
فضيحة العودة
فوجئت يوماً باتصال من ابنة عمي فلم أرد عليها، ولكنها جاءت إلى بيتنا وطلبت أن تتحدث معي على انفراد· تغيرت وكأنها كبرت وشاخت· بكت كثيراً واخبرتني أنها اكتشفت حقيقة ذلك المخادع· لقد غرر بها وتركها بعد أن حملت منه، وسافر هارباً ليدرس في أميركا، وهي لا تدري ماذا تفعل لتداري فضيحتها· توسلت إليّ أن لا اتخلى عنها فهي لا تعرف احداً تلجأ اليه ليخلصها من هذه الورطة غيري·
لا أدري لمَ ضعفت أمام دموعها وعاد إليّ الاحساس بالمسؤولية نحوها، فأخبرتها بأنني سأتزوجها منعاً للفضيحة على أن يتم الطلاق بعد مدة بسيطة· شكرتني لموقفي النبيل معها وهي خجلة مني لأنها لم تكن تعرف يوماً قيمتي الحقيقية في حياتها· تم الزواج بعد أيام قليلة بحفل عائلي بسيط لم يقتنع به الأهل ولكننا اصرينا عليه·
بعد الزواج أخبرتني بأنها استطاعت أن تتخلص من الجنين· ثم صارت تتودد إليّ وتخبرني بأنها نادمة على ما فعلت وانها لم تكن تدري بأنها لم تحب احداً سواي، والذنب يقع عليّ لأنني لم أصارحها بحبي ولم أشجعها على الاحساس بي بشكل آخر· عموماً··· ان ذلك كله لا يفيد، فهي تعيش معي في بيت واحد، ولكنني لا أجد بداخلي أي شعور يدعوني لنسيان ما حدث·
لقد ماتت مشاعري نحوها مع محاولتي للانتحار ولم أعد أشعر تجاهها إلا بالاحتقار والخجل من نفسي لأنني رضيت أن أداري فضيحتها على الرغم من كل ما حدث·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©