الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أندريه بييالي رأى الحريق وانتظره

أندريه بييالي رأى الحريق وانتظره
18 أكتوبر 2017 02:56
كتابة الشاعر الفرنسي جيل براسنيتزار الملف ترجمة وإعداد: أحمد حميدة بأعين تغشاها زرقة بنفسجيّة، مشرئبّة نحو الأبديّة، وبابتسامة ملائكيّة، كان أندريه بييالي يمضي في عالمنا البائس، وهو يحرث مهتاجاً وبحنوّ وشاعريّة، عميقـاً أرض اللّغة الرّوسيّة، محجوباً في الغرب بصديقه وعدوّه، ألكسندر بلوك، بدأ بييالي يعرف بفضل أعمال جورج نيفات وجاكلين شمبون، رغم العائق الأكيد للّغة، إذ إنّ جميع روايات بييالي نثريّة وموزونة، وفيها يمكن أن نلمس الخيال العارم «لأكثر الرمزيّين الرّوس هوسا»، ذاك الذي كان ينشد فهم ومعانقة وتفكيك «إيقاع الكون». إنّ العصر الفضيّ الذي انتهى عند منعطف الثورة الكبرى، كان قد خلّف إرثا ضخما خاصّة في المجال الشّعري، غير أنّ وجه روسيا برمّته كان قد تغيّر مع ثورة 1917، وغدا التّغيير حاجة أكيدة وملحّة. ففي المجال الأدبي كما في المجالات الأخرى، تهاوى عالم بأكمله ليخلي المكان لحركة تجديد فنّي، وسوف يكون أندري بييالي، قبل أن يدمّر، النبيّ الملهم لذاك التجديد. يظلّ بييالي مبدع «الكلمة النابضة»، والمختبِر الخبير بالأصوات وباللّغة؛ فهو ذلك الشّامان المهووس الذي غيّر في العمق اللّغة الرّوسيّة، في الشّعر كما في النّثر، ويكون قد دفع بتلك اللّغة إلى رحاب الحداثة. جَدلَ هذه اللّغة، بذرها، خرق قواعد الإعراب، وجعلها ترقص على الجمر المتّقد للطّبل المسعور للإيقاع، بل يكون قد تجاوز تماما التيار الرمزي الروسي ليستنبئ الأبديّة. ككاتب طوفانيّ وغزير الإنتاج، سوف يكون المعادل الرّوسي لجيمس جويس. وقد رأى فيه فلاديمير نوباكوف الكاتب الأهمّ في القرن العشرين. دروب رجل أهوج أندري بييالي هو التقلّب ذاته، الدوّامة الشاردة لحياته. كان أيضاً يعرف كيف يفكّك رموزه بشفافيّة وقسوة، وهو يكتب «كرّاسات أهوج.. مفتون». يكون قد أمضى حياته راقصاً، ودائم الحضور بهيئاته المتغيّرة، ودورانه على قدم واحدة، ومواهبه المدهشة والرّهيبة في آنٍ. كان موهوبا في كلّ شيء: الرّياضيات، الفلسفة، الموسيقى، علوم الطّبيعة، الرّسم.. وكان يبلغ بتعدّد مواهبه، حدّاً مجفلاً ومخيفاً. كما شغف بالفلسفة (شوبنهاور، نيتشه، كانط والفيلسوف الروسي فلاديمير سولوفياف). ما بين 1901 و1908 قام أندري بييالي بتأليف أربعة سمفونيات: السمفونية الشمالية، السمفونية الدرامية، العودة، الكأس القربانية للعاصفة. كان احتراسه مما هو شهواني، وبحثه في المرأة عن شقيقة لا زوجة، يفسّر إرجاءاته للزّواج. هكذا كانت علاقته بنينا بتروسكايفا، ثم بليوبوف مندلياف، زوجة بلوك، التي أحبّها حدّ الهوس، وكان يحلم أن تجمعه بها وبلوك أسرة واحدة، ثمّ كانت آسيا تورغنياف، التي تزوّجها سنة 1911، ليجعل منها شقيقته لا زوجته، وأخيراً كلافديا نيكوليافنا.. الواحة الأخيرة. بعد العلاقة المأسويّة، المستحيلة والمؤلمة، مع ليوبوف، ارتحل إلى ميونيخ، ثمّ باريس، حتّى سنة 1907، حيث جمعته علاقة صداقة بجان جوريس. وقد عاش لاحقاً بدايات الثورة الروسية، وهو بسان بترسبورغ، ثمّ بموسكو، حيث ساهم في اجتماعات ثوريّة، إذ غدا بييالي كآخرين يعتقد بضرورة نسف العالم القديم ومحو ما يتردّى فيه من فساد. متعافى من أحزان الحبّ، عاد إلى روسيا، بعد أن ألقى عديد المحاضرات ونشر سمفونيته الرّابعة سنة 1909 «الكأس القربانيّة للعواصف». وفي سنة 1910، حملته عشيرته آسيا على السّفر إلى بلدان قصيّة: صقلّية، مصر، تونس وفلسطين. ولكنه حين عاد إلى أوروبا، إلى بروكسل ثمّ النّرويج، وأخيرا لايبزيخ في ألمانيا، بادر بتحرير «بيترسبورغ»، رائعته الكبرى التي ستشهد عديد التقلّبات. وفي مايو 1912، كان له ذلك اللّقاء في كولوني بألمانيا، مع رودولف شتاينر، باعث مدرسة «الحكمة الإنسانيّة» التي كانت تعمل على «تحقيق مصالحة بين ما هو روحيّ في الإنسان مع ما هو روحيّ في الكون». وتحوّل بـيالي وزوجته إلى مريدين مذعنين ومتحمّسين، وبانقياد كامل إلتحقا بجماعة المريدين في دورناخ، واستقرّا هناك سنة 1914، وبات بييالي يرافق معلّمه في تنقّلاته حيث كان يلقي محاضراته: شتوتغارت، ميونيخ، فيـينّا، براغ.. وفي 1916، دعي بيـيالي إلى الالتحاق بالجيش الروسي، فعاد إلى روسيا عبر إنجلترا، ولكنه حظي بالتّأجيل؛ فمكث بروسيا، فيما آثرت زوجته آسيا البقاء في دورماخ. ومضى بييالي يلقي محاضرات حماسيّة ليعظ النّاس ويهديهم إلى تعاليمه الروحية، المستلهمة من فكر شتاينر. وفي ذلك المحيط الملائم لمرضه العقليّ، وبإزاء وضعيّته التي باتت مأسويّة ومضحكة، أنهى كتابة ما يشبه السّيرة الذاتيّة. ثمّ ألّف كتابه الأكثر جرأة وسحرا «غلوسّالي»، وهو قصيدة عن الصّوت، وأشبه ما يكون ببيان عن أصل اللّغة ومدلول الصّوت. وكتب أيضاً «المسيح يبعث حيّا»، «الموعد الأوّل» و«قصائد ملحميّة». 1918 - 1922، شكّ في تعاليم شتاينر ونظريّته، شكّ في وجاهة الثورة اللينينيّة التي كان قد ساندها بقوّة، والتي أشاعت في روسيا أجواء استبداديّة خانقة. ثم كانت سنة 1921 التي شهدت وفاة الشّقيق ألكسندر بلوك. وكان البوليس السّياسي في تلك الأثناء يطبق على أصدقاءه وجماعته. هكذا أسلم بلوك نفسه للموت حزنا وكمدا، فيما سيدفع ذلك سرغي إيسّنين إلى الانتحار سنة 1925، أمّا بييلي، الأكثر جنونا، فقد ترك ليبقى بصورة ما على قيد الحياة. تحصّل بييالي ترخيصا بمغادرة البلاد. ففي سنة 1921 عاد إلى برلين، حيث يوجد عدد غفير من المثقّفين الرّوس. أمّا آسيا فقد آثرت مفارقته. وفي أوكتوبر 1923، قرر العودة إلى البلاد وإلقاء نفسه في فم الذّئب. هناك، سيعيش مع كلافديا نيكولييفنا، وينشر «موسكو والأقنعة». وفي سنة 1931، استقرّ في لينينغراد، حيث انتابته نوبة قلبيّة، قبل أن يتوفّى بضربة شمس بموسكو في 8 يناير 1934. لقد مات وهو محتقر من النّظام اللّينيني، الذي وإن لم يقتله، كان ينظر إليه على أنّه مجنون متوهّم غير خطير، مجنون ينبغي أن يترك كيما يتفسّخ في بؤسه ووحدته. التنبؤ والجنون متأرجحا بين التنبّؤ والجنون، بين الحكمة وباطن مستعر، كان بييالي عبقريّا رائيّا. جميع كتاباته وقصائده تحمل عاليا الأدب الرّوسي، بكلماته المبتكرة وومضات من إيقاعات وألوان. عبر تكهّناته وتشتّته، كان يرى الحريق الكبير وهو يحثّ الخطى نحو روسيا التي يعشق، ويستشعر، كمراقب زلازل هاذي، الغسق والدّماء التي تتبدّى في الآفاق. صاحب وعي نافذ، كان يرى «الهنا والهناك»، ويكون قد حاول «العيش ويعدو خارج الزّمن، منتشيا مع الهواء السّاري». طالما اعتقد أنّه مسكون بالمسيح وبضياء ساطع، خاصّة في فترة هذيانه، ما بين 1909 و1915. غير أنّه لم يكن فحسب ذلك المهوس الذي يقذف بكلماته في وجه سماء متنازعة، بل كان يعرف، وبصورة رائعة، كيف يكون غوغولا جديداً. وقد شخّص بشكل قاس وفي الوقت ذاته «الأعماق القلقة» لروسيا/‏ الرّيف: الغرور الأخرق للمدن ولموظّفيها، والحرب الأهليّة للعقول التي ستندلع ما بين هذين العالمين المنفصلين. اقتباساته من المسيحيّة، من «زوهار» وكتابات يهوديّة أخرى، ومن فكر رودولف شتاينر، وأيضاً جاكوب بوهم وآخرين، تجعل من كتاباته خليطا غنوصيّا كتيما، غامضاً وملغّزا. غير أنّ جمال الكتابة يخرجنا من ماغما الكلمات، حيث تدور الأصوات ويدوّم الكون. الذّعر والمدينة الفاضلة يشكّلان التربة المتّقدة التي تبرعم فيها أعماله. «العالم هو مسرحي»، وفي هذا العالم، كما في العوالم الموازية التي كان يعتقد فيها، لعب بييالي كلّ الأدوار. كانت خاصيّته السّاحرة، تكمن في ذاك الخليط من رمزيّة مقترنة بفكرة بعث المسيح، تصوّف مهترئ وواقعيّة حادّة. شطح الكلمات يؤمن بيـيالي بسطوة الكلمات، وهو الذي انطبع عميقاً بسفر التّكوين وبكلمات جان عن الخلق الأوّل بالكلمة. غير أنّ بييالي، المدمّر نفسه، السّاخر منها والمنبهر بالشرّ، عامّة ما يستخدم الكلمات كسحر أسود. ويستعمل تعاويذ سحريّة وسجعا ولازمات وأصوات متعدّدة، فتستحيل تآليفه طباقاً لفظيّاً؛ ويظلّ «غلوسّالي» (1917) محاولته الأكثر اهتياجاً وروعة في مجال الشعر الصوتي. كان قادرا على تأليف أعمال كاملة، ثمّ بعد ذلك، العودة إلى تلك الأعمال لتفكيكها وتشويهها، حتّى أنّ البعض أسّس جمعيّة للدّفاع عن أعمال بييالي من بييالي ذاته. ورائعته «بيترسبورغ» كانت قد صدرت في أربع نسخ على الأقلّ، وكان النّاشرون يتيهون بين النّسخ اللاّنهائيّة لقصائده وكتاباته الأخرى. كانت رواياته تنطوي على معنى ثلاثيّ: المعنى الموسيقي في البناء، معنى ساخر أحيانا ومعنى فلسفي/‏ رمزي، وهو المعنى الأكثر بروزا، ولكنّه ليس الأهمّ. و الحال أنّه، وهو الجواد الأبيض للرّمزيّة، كان يرى في كلّ الأشياء.. رموزا، وأنّ كلّ شيء يرقص رقص الذرّ في الشّمس. لقد عرّف بييالي نفسه بنفسه حين قال «أنا عـرّاف النّور»، ولكنّه كان أيضاً «جامع الفراغات». 1900 سنة طافحة بصباحات منيرة شعر: أندريه بيـيالي أيا نجمة الذّكرى.. تجلّي؛ إنّي لأرى نداءات عاصفة وظلمات مدمدمة: أرى السّيل القرمزيّ للحرب، الذي أخذنا أخذة الهاوية.. لا مكان «للأمس» ولا مكان «اليوم» والماضي برمّته يرسل إشراقة وامضة، ووحدها تغريدة.. مثل خطاف سماويّ عبر النّافذة.. تنبعث كصيحة حارقة.. لتتلألئي يا نجمتي.. في البعيد. على الطّريق اللاّحبة، تنتصب كالتّخوم.. سنواتنا المتصرّمة، أسعى حذوها سعي حاجّ معتمر متسكّعا أمام نفسي.. التّائهة.. الشّاردة فيا أيّتها الارتجافات المهتزّة في الماء والتي تبدّدها الرّياح، في أيّام الرّبيع المنقضية، دعي إيقاعاتك مشرقة، وأحلامك بالقبل نابضة. ألف وتسعمائة.. سنة طافحة بصباحات منيرة.. نلقي بها على جبهة الشّرق الوضيئة.. السّاطعة .......... أمضي مذعنا.. كئيبا كخيال بأربعة أرجل متجمّدة تستحيل الرّوح نجمة، وتغدو كومة الغباء.. متجلّدة؛ متصلّبا ومتلألئا، وأنا أتسلّى بسرب من العدسات، سوف أسكب من مرآة وجهي زنابق.. إشراقاتها متصالبة، وتحت قناع تثقبه الخطايا، سأنفش هواني الذي لا خلاص منه، كيما ينبثق من الحياة.. هيكل جامح وخال من كلّ معنى.. أحيطوا بي أيّها النّاس.. ولتطوّقوني لتخلّصوني من نفسي، أحكموا شدّ صدوركم التي تعمرها الصّاعقة وثبّتوا قلوبكم التي تنتهبها النّيران المتّقدة. مرآة ينكشف فيها نبض الغريزة.. هي أنايْ الظّاهرة حلية ماسيّة من نحت الخيال من انكسارات ضوئيّة متشابكة: تومض فأنعكس بداخلكم وكأنّي منغمر في فيضان القدر وتوثّباته الطّاحنة.. ...................................... * عن ترجمة لكريستين زيتونيان بيلوس بين الأب والأم ولد أندريه بييالي بموسكو سنة 1880، وكان اسمه عند الولادة بوريس نيكولايوفيتش، وقد كان والده أستاذا بجامعة موسكو، حيث كان يدرّس الرياضيات. عرف بألمعيّته الباردة وميله للجدل. وكان، فضلاً عن ذلك، قبيح المنظر. وكان بييالي يريد الخلاص من ذلك الحمل الذي كان يرهقه، اسم والده. كانت أمه ألكسندرا تصغر والده بعشرين سنة، منطوية في صمت مرضيّ وحالم، لن تكون الحضن الحاني والدرع المحبّ الذي كان يحتاج إليه الفتى بوريس، ولسوف تدفع المشاحنات المتكرّرة بين والديه، هذا الفتى إلى خلق عالمه الخاصّ.. بداخله.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©