الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سنوات العذاب الأحمر

سنوات العذاب الأحمر
18 أكتوبر 2017 02:39
كتابة الشاعر الفرنسي جيل براسنيتزار الملف ترجمة وإعداد: أحمد حميدة لكأنّ الشاعر الرّوسيّ ليس مجرّد شاعر فحسب، ما دام الشّعر قد ظلّ لأمد بعيد المحرّك الدّافع للحركة الأدبيّة برمّتها في هذا البلد. ولئن تراجعت مكانته اليوم عمّا كانت عليه في الماضي القريب، ورغم كونه قد غدا جانبيّاً ومتمرّداً، فإنّه لا يزال يحتلّ مكانة مهيبة.. وقورة، لا يحظى بها الشّعر في أماكن كثيرة أخرى من العالم. وإنّه لمن المتعذّر حقّاً في بضع كلمات، رسم مسار هذا الشّعر والقبض على مداراته عبر التّاريخ، بالنّظر إلى غزارته وتلوّن إيقاعاته، ، بل إنّه لمن المتعذّر حتّى الإلمام بمسار الشّعر الرّوسيّ الحديث وحده. حسبنا من هذه الكلمات أن تكون استهلالاً يُرسي بعض العلامات الدالّة والمنيرة، أو يقترح رسماً تخطيطيّاً لمشهد موسوم بالرّحابة وشدّة التلوّن، وإنّه لمن الثّابت أيضاً، أنّ وحدة هذا المشهد الشّعريّ تظلّ غير مؤكّدة، إذ نلاحظ اليوم وجود حشد من «جزائر» شعريّة صغرى، يبدو التّواصل بينها عسيراً، والملاحة بين ضفافها أمراً مستعصياً. وما هذه الوضعيّة في الحقيقة سوى نتاج تاريخ متوتّر، زاخر بالتقلّبات والأحداث المتشنّجة. إنّ الخطوط العريضة لهذا المشهد قد يدركها المتخصّصون بالأدب الرّوسي، غير أنّها قد لا تبدو بذات الوضوح بالنّسبة للمتابع العادي حتّى وإن كان متابعاً متيقّظاً ومستنيراً، ولتكن بداية هذا الاستهلال إذن، تذكيراً وجيزاً بوضع الشّعر الرّوسيّ قبل الفترة السّوفييتيّة. لقد بدأ تشكّل الأدب الرّوسي الحديث في غضون القرن الثّامن عشر، على أثر الإصلاحات اللّغويّة والنّحويّة التي أمر بها بيير الأكبر، والتي اكتملت على أيدي ميخائيل لومونسوف زمن إيليزابيث. ومع إطلالة القرن التّاسع عشر، كان نيقولاي كارمزين قد استوفى ضبط القواعد الحديثة للّغة الأدبيّة في روسيا، فكان ذلك إيذاناً ببروز عصر أدبيّ مشرق، سيكون دفريل درجفين وفاسيليي جوكوفسكي أبرز روّاده، قبل أن يبلغ هذا العصر ذروته، برعاية شخصيّة مهيبة.. معشوقة حدّ الوله، ألا وهي شخصيّة ألكسندر بوشكين، هذا الذي يؤثر الكثيرون اليوم إلقاءه خارج مركب الحداثة. بوشكين.. حادثة المبارزة كان موت بوشكين في حادثة المبارزة الشّهيرة سنة 1837، قد وسم الشّعر بدمغة فاجعة، سوف تزداد مأسويّة بعد أربع عشرة سنة حين لقي الشّاعر ميخائيل ليرمنتوف المصير ذاته، في حادثة مماثلة. وفي العقود الموالية، سوف يتنامى النّثر على حساب الشعر، الذي أضحى مع نيقولاي نيكراسوف شعراً شعبويّاً. ومع ذلك برزت الشّخصيّة المجيدة لفيودور تيوتشاف وأفاناسي فات اللذين كانا من دعاة الفنّ من أجل الفنّ. وعرف الشّعر حينها من جديد، انتشاراً باهراً، بدأ نحو 1892 ليتواصل حتّى العشرينيات من القرن الماضي، وضمّ تيّارات شتّى زادت من ثرائه، مثل التّيار الرّمزيّ، التيار المستقبلي وتيّار «الأكْمِييسم» (من أكْمِي أي الذّروة). وقد أعلن ديميتري ماراجكوفسكي، أحد أعلام التيّار الرّمزي آنذاك، نهاية زمن الفكر الوضعي الخانق والسّقيم، وكان من أبرز أنصاره، ألكسندر بلوك، أندريه بييالي، قسطنطين بلمون.. وجميعهم أفصح عن نزعة تصوّفيّة في الكتابة الشّعريّة، فيما كان فياتشيسلاف إيفانوف، الرّمزيّ الهوى، يرى أنّ على الفن تغيير الواقع. ويمكن أن نلمس صدى هذه الرّمزيّة أيضاً في شعر ماريا تاسفيتاييفا. كان الرّمزيّون يتوقون بشكل جامح إلى إحداث ثورة روحيّة في مجال الكتابة الشّعريّة. فيما كان التيّار المستقبلي الذي دخل روسيا بعد 1910، يدعو إلى إحداث ثورة تطال شكل هذه الكتابة، التي على عكس نظيرتها في إيطاليا، لم تكن ذات نزعة حربيّة ولا معادية لحركات تحرير المرأة، ولكنّها عرفت بميلها الشّديد للفكر الفوضوي، وكان بوريس بسترناك من أبرز رموز هذا التيّار. أما تيّار «الأكمييست» (التيّار الرّمزي)، المشتقّة تسميته من المفردة الإغريقيّة (أكمي)، والذي تأسّس سنة 1913 مع نيقولاي غوميلاف، فقد كان يطمح إلى إلقاء نظرة جديدة، متجدّدة على العالم والتزام صرامة شديدة في الكتابة الشّعريّة، تكون مقترنة بثورة فكريّة، وأبرز ممثّلي هذا التيّار، آنّا أخماتوفا، أوسيب مندلشتام وخلابنيكوف، وهم الشّعراء الذين كانوا بلا شكّ الأكثر تأثيراً في الحركة التحديثيّة للشعر الرّوسي. وفضلاً عن هذه التيّارات الثّلاثة، عرفت روسيا يومذاك عديد المدارس الشّعريّة الأخرى المتأثّرة بالشعر الوافد من غرب أوروبا، كانت أبرزها المدرسة السورياليّة ممثّلة في الدّادئيّة. ثمّ كانت ثورة فبراير 1905 التي احتفى بها وبحماس بالغ عامّة الشّعراء وسكّان البلاد، غير أنّ سيطرة البولشفيك على الحكم في أكتوبر 1917، وما أعقبه من انتشار سريع للرّعب، جعل الأوهام تتبدّد بسرعة، إذ أنشأت، في غمرة الأيام الأولى من الثورة ورشات أدبيّة موجّهة للعمّال، في إطار ما سمّي بـ(البرولتكولت)، ولكن حرص البولشفك على إرساء أسس هذه الثقافة البروليتاريّة الجديدة سرعان ما أخفق، إذ تبيّن أن غالبيّة الشّعراء البروليتاريين كانوا يكتبون شعراً رديئاً، بل سخيفاً ومثيراً للسّخرية. هكذا.. تراجع الزّخم الشّعري ليتوقّف تماماً أمام سطوة الفكر الماركسي- اللّينيني، لتشهد البلاد سنوات جمر سوداء، ودوّامة من القهر طالت خاصّة في ظلّ حكم الطّاغية ستالين، المفكّرين والأدباء والشّعراء، فانهار ألكسندر بلوك جرّاء حالة من الصّرع المزمن، لتودي كآبة حادّة بحياته سنة 1924، وأعدم نيقولاي غوميلاف في ذات السّنة، ودُفع سيرغي إيسنين قهراً إلى الانتحار سنة 1925، وانتحر مايكوفسكي بدوره سنة 1930.. وتتالت في غمرة تلك الحقبة السّوداء الإيقافات والتّحقيقات البشعة والملاحقات والنّفي إلى مخيّمات الإبادة أو ما عرف بأرخبيل الغولاغ في سيبيريا، وكان أوسيب مندلشتام من أبرز ضحايا موجة العنف الأسود تلك. وفي سنة 1932، وعلى أثر قرار من اللّجنة المركزيّة للحزب يقضي «بإعادة بناء التّنظيمات الأدبيّة والفنيّة»، تمّ منع وحلّ جميع المنظّمات الأدبيّة، وتأسيس «اتّحاد الكتّاب الرّوس» الذي رفع شعار الفكر الأوحد: فكر الواقعيّة الاشتراكيّة. وانقسم الأدب الرّوسي – ليبقى كذلك على مدى ستّين سنة - إلى اتّجاهين: الأدب السّوفييتي من ناحية، وأدب المهجر وأدب السريّة من ناحية ثانية، ومن الشّعراء الذين ألزموا بمغادرة البلاد والهجرة نحو الغرب: رينايدا هيبيوس، ديمتري مارجكوفسكي، قسطنطين بالمون، إيفان بونين، فلاديسلاف خوداسّفيتش... وآخرون كثر، وكذلك مارينا تاسفيتاييفا التي سوف تعود إلى الاتحاد السّوفييتي ليكون مصيرها النّفي والإذلال ثمّ الانتحار. وفي المهجر تشكّل جيل جديد من الشّعراء في باريس، ضمّ أسماء لامعة كثيرة، وغدا الكتّاب والشّعراء الرّوس مشتّتين في أنحاء كثيرة من العالم. أمّا أولئك الذين لم يهاجروا، وأفلتوا من النّظام دون مغازلته، فقد وجدوا ملاذهم في التّرجمة وكتابة أشعار للأطفال، وقد خفّت قليلاً وطأة الرّقابة الحزبيّة أثناء الحرب، فتمكّنت آنّا أخماتوفا حينها من نشر بعض أشعارها. وبعد موت ستالين سنة 1953، انتعشت نسبيّاً حركة الإبداع الشّعريّ مع شعراء عرفوا على أنّهم (ألسنة الصدق)، وتعدّدت أيضاً المجموعات الأدبيّة والشّعريّة غير الرّسميّة في البيوت والنّوادي، وتنوّعت فيها المشارب والأذواق الأدبيّة والشعرّية، التي غدا يوحّد بينها جميعاً، رفضها للفكر البلشفي، والحرص على العودة إلى الإرث الأدبي والشّعري والفكري لما قبل الثّورة، واستلهام تجارب كبار الشعراء من أمثال بوريس باسترناك وآنّا أخماتوفا الذين أسلموا مشعل التّغيير إلى جوزيف برودسكي، فيما ظلّ الشّعر السّوفييتي على قناعته من أن كلّ الأجوبة التي ينشدها الشعر والأدب كامنة في الفكر الماركسي اللّينيني. وفيما أضحى الشّعر الحديث يطرق المواضيع المحرّمة مثل القضايا الوجوديّة كالموت واليأس والعدم والتجلّيات الّرّوحانيّة.. كان الشّعر السّوفييتي يتشبّث بالكتابة الشعريّة البسيطة والمستساغة من قبل البروليتاريا. وفي عهد خروتشوف، سرعان ما لاحت في الأفق حدود هذا التحرّر، فاضطُهد بوريس باسترناك من جديد على أثر نشره رواية (الدّكتور جيفاغو) في إيطاليا. ثمّ اشتدّت الرّقابة مع بريجنيف، فأوقف الشّاعر جوزيف برودسكي بتهمة (طفيليّته) الضارّة، ولكن وعلى الرّغم من اشتداد وطأة الرّقابة، تكاثرت على نسق حثيث المجموعات السريّة وشبه السريّة، فيما اضطرّ كثير من الشّعراء إلى الهجرة، أمثال جوزيف برودسكي، باخيت كنجيف... الذين رفضوا الانخراط في أصوليّة أكاديميّة تأبى أّي تحديث يمسّ بشكل ومحتوى الإبداع الفكري والأدبيّ والشّعريّ. وفي أواخر عهد بريجنيف، حلّ شعر الرّوك محل الشّعر الغنائي، وتنامت تيّارات عديدة ساهمت في انبثاق موجة شعريّة جديدة ذهبت إلى أبعد حدود التّحديث، وتلوّنت في مدّها، المناحي الفكريّة والأدبيّة والشّعريّة، فبرز التيّار المفهومي والتيّار الماورائي.. وغيرهما، وتعدّدت تبعاً لذلك المجموعات والأندية الثقافيّة ودور النّشر، ليتسارع ويتّسع، وعبر حركة مدّ وجزر عسيرة، نسق التّحديث في مجمل مناحي الحياة الفكريّة في روسيا. وفي هذا الملف، مقالات تلقي أضواء كاشفة على بعض أعلام هذا الشّعر الرّوسيّ الحديث الذين غدوا اليوم، أيقونات متوهّجة في سماء الإبداع الشّعري العالمي، علماً بأنّ جميع هذه المقالات، هي للشّاعر والنّاقد الفرنسي البارز، جيل براسنيتزار، الذي يعدّ من أكثر (مهرّبي الأحلام) في الأدب الفرنسيّ المعاصر. بوشكين.. أمير الشّعر الرّوسيّ بدأ تشكّل الأدب الرّوسي الحديث في غضون القرن الثّامن عشر، على أثر الإصلاحات اللّغويّة والنّحويّة التي أمر بها بها بيير الأكبر، والتي اكتملت على أيدي ميخائيل لومونسوف زمن إليزابيث. ومع إطلالة القرن التّاسع عشر، كان نيقولاي كارمزين قد استوفى ضبط القواعد الحديثة للّغة الأدبيّة في روسيا، فكان ذلك إيذاناً ببروز عصر أدبيّ مشرق، سيكون دفريل درجفين وفاسّيليي جوكوفسكي أبرز روّاده، قبل أن يبلغ هذا العصر ذروته، برعاية شخصيّة مهيبة.. معشوقة حدّ الوله، ألا وهي شخصيّة ألكسندر بوشكين، أمير الشعر الروسي، الذي يؤثر الكثيرون اليوم إلقاءه خارج مركب الحداثة. وكان موت بوشكين في حادثة المبارزة الشّهيرة سنة 1837، قد وسم الشّعر بدمغة فاجعة، سوف تزداد مأسويّة بعد أربع عشرة سنة حين لقي الشّاعر ميخائيل ليرمنتوف المصير ذاته، في حادثة مماثلة. ألسنة الصدق مع وفاة ستالين سنة 1953 وذوبان ذاك الجليد الذي طالما جمّد وبشكل قاس البلاد، انتعشت نسبيّا حركة الإبداع الشّعريّ مع شعراء عرفوا على أنّهم (ألسنة الصدق)، وكان من بينهم يفغيني إييفتوشنكو، أندريه فوسزنسكي وبيلاّ أخمادولينا، الذين غدوا يلقون أشعارهم في ملاعب رياضيّة أمام حشود من الجماهير المتحمّسة للشّعر. كما ظهر عدد من الشّعراء الغنائيين الذين كانوا ينشدون أشعارهم على إيقاع آلة القيثار. وخرجت إلى النّور أخيرا أشعار آنّا أخماتوفا، مارينا تسفيتاييفا وأوسيب مندلشتام، وحظيت بالنّشر. حقبة سوداء مع سيطرة البلاشفة على الحكم تراجع الزّخم الشّعري ليتوقّف تماما أمام سطوة الفكر الماركسي- اللّينيني، لتشهد البلاد سنوات جمر سوداء، ودوّامة من القهر طالت خاصّة في ظلّ حكم الطّاغية ستالين، المفكّرين والأدباء والشّعراء، فانهار ألكسندر بلوك جرّاء حالة من الصّرع المزمن، لتودي كآبة حادّة بحياته سنة 1924، وأعدم نيقولاي غوميلاف في ذات السّنة، ودُفع سيرغي إيسنين قهرا إلى الانتحار سنة 1925، وانتحر مايكوفسكي بدوره سنة 1930.. وتتالت في غمرة تلك الحقبة السّوداء الإيقافات والتّحقيقات البشعة والملاحقات والنّفي إلى مخيّمات الإبادة أو ما عرف بأرخبيل الغولاغ في سيبيريا، وكان أوسيب مندلشتام من أبرز ضحايا موجة العنف الأسود تلك. تيارات عرفت روسيا ثلاثة تيارات شعرية كبرى هي: الرمزي وكان شعراؤه يتوقون بشكل جامح إلى إحداث ثورة روحيّة في الكتابة الشّعريّة والتيار المستقبلي الذي كان يدعو لإحداث ثورة تطال شكل هذه الكتابة، و الأكمييست، المشتقّة تسميته من المفردة الإغريقيّة (أكمي)، وكان يطمح إلى إلقاء نظرة جديدة، متجدّدة على العالم والتزام صرامة شديدة في الكتابة الشّعريّة، تكون مقترنة بثورة فكريّة، وأبرز ممثّلي هذا التيّار، آنّا أخماتوفا، أوسيب مندلشتام وخلابنيكوف، وهم الشّعراء الذين كانوا بلا شكّ الأكثر تأثيراً في الحركة التحديثيّة للشعر الرّوسي. وفضلاً عن هذه التيّارات الثّلاث، عرفت روسيا يومذاك عديد المدارس الشّعريّة الأخرى المتأثّرة بالشعر الوافد من غرب أوروبا، كانت أبرزها المدرسة السورياليّة ممثّلة في الدّادئيّة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©