الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

أخطبوط الاخوان الأوروبي

أخطبوط الاخوان الأوروبي
18 أكتوبر 2017 21:23
الحلقة الرابعة 4-4 لا تؤمن جماعة الإخوان الإرهابية بالوطنية، أو الدولة الوطنية، أو الانتماء القومي. هوية هذه الجماعة هو مشروعها، به تعرّف نفسها، وبه تحاكم الآخرين. وهذا النكران «الهوياتي» رافق الجماعة منذ تأسيسها داخل الساحات المحلية، وحكم توجهاتها وهي تجعل من «التنظيم الدولي» وجمعياته ومؤسساته ومعاهده، أذرعاً أخطبوطية تحتمي بها وتضرب. لم يكن وجود الجماعة في الساحات الغربية عموماً، والأوروبية خصوصاً، مجرد التجاء إلى ملاذ آمن، تجنباً لعسف مفترض أو متوهم. بل كان خياراً تقاطعت فيه المصالح والغايات، بين «اللاجئ» و«الملجأ». تداخلت براجماتية الإخوان مع تطلعات السياسات والاستراتيجيات الغربية، التي اتسمت بسوء تقدير وتدبير أحياناً، أو بخبث التخطيط والتنفيذ في أغلب الأحيان. كلا الطرفين قدما لبعضهما خدمات متبادلة. في هذا الملف، تلقي «الاتحاد» أضواء كاشفة على تغلغل منظمات الإخوان المسلمين في أوروبا، منذ التأسيس إلى التمكين، على قاعدة «أعطني وخذ». وهي مسألة لا يشعر الإخوان معها بأي حرج، طالما أنها تحقق أهدافهم الخبيثة. فمنذ عقود تجرأ أحدهم (تقي الدين النبهاني) على القول، عندما رصد خارجاً من السفارة البريطانية في القاهرة، متأبطاً حقيبة أموال: «عرضنا عليهم الإسلام فأبوا، ففرضنا عليهم الجزية»! طريق الإخوان السري إلى الولايات المتحدة «اعتمدوا علينا لتأمين مصالحكم»! أدرك الإخوان أن بريطانيا سوف تغرب عنها الشمس عما قريب، وأن الولايات المتحدة الأميركية هي القوة البازغة الجديدة والوريث المؤكد للنفوذ الإنجليزي في الشرق الأوسط. بعد يوم واحد من تأسيس دولة اسرائيل واعتراف واشنطن الفوري بها، أرسل حسن البنا المرشد المؤسس لجمعية الاخوان يوم 16 مايو (أيار) 1948 خطاباً للرئيس الاميركي هاري ترومان يحمل تهديدا واضحا وبلغة خشنة قال فيه: «إن اعترافكم بالدولة الصهيونية هو إعلان حرب على العرب والعالم الاسلامي، وإن اتباعكم لهذه السياسة الخادعة الملتوية هو انتهاك لميثاق هيئة الأمم والحقوق الطبيعية للإنسان، وحق تقرير المصير، وسيؤدي حتما إلى إثارة عداء دائم نحو الشعب الأميركي، كما سيعرض مصالحه الاقتصادية للخطر ويؤذي مكانته السياسية ونحن نحملكم المسؤولية أمام العالم والتاريخ والشعب الأميركي». ولعل الواجب طرحه في هذا المقام، هو: هل كان هذا الخطاب يعبر بالفعل عن حقيقة العلاقات الخفية بين جماعة الاخوان والولايات المتحدة الأميركية؟ الجواب يعود بنا إلى فكرة «اللعب على المتناقضات» التي أجادها الآباء المؤسسون للاخوان، ويمضي الأبناء بل والأحفاد على إثرها حتى الساعة، من زمن حسن البنا وصولا الى محمد بديع آخر مرشد للاخوان قبل ان ينقلب عليهم الشعب المصري خلال ثورة 30 يونيو 2013. لقد لمح البنا تصاعد النفوذ الأميركي في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولاحظ اهتمام أميركا بالأوضاع في المنطقة، وفي مصر على وجه الخصوص، فقرر كعادته أن يجدّف بقاربه في اتجاه هذه القوة الصاعدة وأن يناور معها هي الأخرى. أحد أفضل الذين وثقوا لهذه العلاقة الصاعدة في مصر في ذلك الوقت كان الراحل محسن محمد الكاتب الصحفي الشهير في كتابه المتميز «من قتل حسن البنا»، وفيه يروي عبر العديد من النصوص المنقولة عن وثائق الخارجية الأميركية المودعة بمكتبة الكونجرس شكل تلك العلاقة. ومن الكتاب المذكور هذه الواقعة: «التقى الأستاذ حسن البنا مع فيليب إيرلاند السكرتير الأول للسفارة يوم 29 أغسطس (آب) 1947، وعندما أشار إلى المظاهرات الحاشدة التي وقعت تلك الأيام أراد البنا أن يوهمه بقدرته على إشعال المظاهرات وإخمادها، فقال في بساطة «لن تكون هناك اضطرابات جديدة فإن بوسعي بدأها وإنهاءها»، ورد عليه ايرلاند: «من المشكوك فيه أن نتمكن من إنهاء الفتنة بعد إشعالها». يحلل الدكتور رفعت السعيد مبدأ ومنشأ العلاقة بين الإخوان والأميركان بالإحالة إلى أن البنا استخدم كأداة للتقارب مع أميركا سلاحاً مهماً، فهو عدو الشيوعية التي كانت قد ظهرت على سطح الأحداث المصرية آنذاك، مدركاً أن هذا الأمر شديد الإغراء بالنسبة للأميركيين. الأميركيون يرفضون خطة البنا أدرك الأميركيون مبكراً وبخلاف أطراف دولية عديدة حجم البراجماتية الإخوانية كما عبرت عنها سياقات الأحداث. خصوصا وأنه في العام 1947 كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها، وأن الشيوعية العالمية الأممية لم تكن قد انتشرت حول العالم على النحو الذي حصل في الخمسينيات بشكل يقلق الأميركيين ما اضطرهم لاحقا لقبول خيارات والدخول في تحالفات أخرى. طلب البنا في أغسطس (آب) 1947 مقابلة ثانية مع السكرتير الأول للسفارة الأميركية في القاهرة فيليب ايرلاند، وتم اللقاء في بيت ايرلاند، وحضره محمد الحلوجي من قيادات جماعة الاخوان، والدكتور محمود عساف مدير إعلانات صحيفة الاخوان. وأشار البنا إلى خطر الشيوعية في الشرق الاوسط، وأن الاخوان يحاربونها بكل الوسائل الممكنة، ويضطر أعضاء الجماعة إلى أن يتركوا عملهم الأصلي لدخول الخلايا الشيوعية للحصول على المعلومات، وعندما يفعلون ذلك فإنهم يتركون وظائفهم وبذلك يفقدون مرتباتهم. وفي اللقاء عينه اقترح حسن البنا على الجانب الأميركي أنه إذا أمكن تعيين عناصر الإخوان هؤلاء على أساس أنهم محققون وباحثون فان هذه المشكلة يسهل حلها. لم تتوقف طموحات البنا عند هذا الأمر بل اقترح كذلك «انشاء مكتب مستقل مشترك بين الاخوان والحكومة الأميركية لمحاربة الشيوعية»، لكن ايرلاند لم يقبل الفكرة في أول الأمر، ما دعا البنا لأن يجيبه «لا أريد إجابة الآن، ولكني أرغب فقط في عرض الفكرة وسيجري محمود عساف معك محادثات تفصيلية». لكن هذا الرفض الأميركي أغضب البنا والرواية دوما لمحسن محمد الذي قرر الضغط على أميركا كي تقبل، فقد كان يتوقع مالاً وفيراً من مثل هذا المكتب، فنشرت جريدة الاخوان في اليوم التالي مباشرة مقالا بعنوان «أميركا والعالم العربي» شنّت فيه هجوما عنيفاً على الأميركيين. فهل كان الأمر مزايدة مقصودة من البنا وجماعته؟ أغلب الظن أن ذلك كذلك بالفعل، إذ فيما كان يحضر المقابلة قال له «ايرلاند: أشعر بالدهشة لأنك عرضت بذل جهود مشتركة بين الاخوان والسفارة». وفي اليوم التالي مباشرة نشر عمر عزمي مقالا في جريدة الاخوان حمل فيه بعنف على أميركا وساستها، ووصفها بأنها مخادعة، وهاجم نزاهة الأميركيين عامة، ورد البنا رداً «سابق التجهيز» قلل فيه من قيمة المقال وكاتبه، وقال إنه مجرد رد فعل متحمس لما يشعر به الاخوان إزاء أسلوب أميركا في فلسطين. ثم أضاف: «على العموم آمل ألا يؤثر هذا الحادث على اقتراحاتي السابقة». وكان العام 1948 هو عام محنة بالنسبة للاخوان حيث حظرت الجماعة رسميا ولقي المرشد المؤسس حسن البنا مصرعه، وعاشت الجماعة محنة كبرى حاولت فيها لملمة شتاتها. وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 خيل لجماعة الاخوان أنها ستضحى شريكا فاعلا في حكم البلاد مع الضباط الأحرار، وهنا تقول بعض الوثائق إن الاخوان عاودوا الكرة مع الأميركيين عام 1953 وهي محاولة رتب لها المرشد العام الجديد المستشار حسن الهضيبي عن طريق شقيق زوج ابنته. ويبدو أن الأميركيين في كلتا الحالين لم يبتلعوا الطعم الاخواني، فالتعليقات في النصوص الكاملة للوثائق توحي أحيانا بعدم الثقة وأحيانا أخرى باعتقادهم بأن الإخوان يبالغون في استعراض قدرتهم أكثر من اللازم، وقد كان تعليق مندوب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على قول ممثل المستشار الهضيبي «إن الاخوان يدرسون إمكانية إزاحة عبد الناصر وعبد الحكيم عامر عن السلطة» لاذعا. لكن شيئا ما تغير جذريا في الداخل الأميركي فتح الباب واسعاً لعودة الاخوان من الأبواب بعد أن تم طردهم عبر شباك مقترحات البنا عام 1947.. ما الذي جرى وبدل الأوضاع وغيّر الطباع؟ التيارات الأصولية ولاهوت الاحتواء كانت صدمات الحرب الباردة هي السبب من جديد لأن تنفتح الولايات المتحدة الأميركية على كافة التيارات الأصولية، لاسيما الاسلامية منها وبنوع خاص الاخوان كما سيتبين لاحقا. في مؤلفه الفخيم «زمن الأصولية/‏‏ رؤية للقرن العشرين» يقودنا الفيلسوف المصري المعاصر الدكتور مراد وهبه لفهم أبعاد ما جرى في أوائل الخمسينيات في الولايات المتحدة الأميركية حيث كان جون فوستر دالاس (1888 1959) لاهوتيا قبل ان يكون سياسيا أو وزيرا لخارجية بلاده، في حين كان أخوه آلان فوستر دالاس رئيسا للاستخبارات المركزية الأميركية. اعتبر جون فوستر دالاس أن الحرب الباردة هي معركة دينية أكثر منها سياسية أو آيديولوجية، فالشيوعية إرهاب بلا إله وعليه فإن القضاء عليها أمر مشروع دينيا، ومن هنا كانت فكرة «لاهوت الاحتواء». بلور دالاس لاهوت الاحتواء المشار إليه سلفا في كتابه المعنون «حرب أم سلام»، كان ذلك عام 1950 وجاء فيه أن ثمة طريقين للقضاء على المعسكر الشيوعي: طريق سلبي يتمثل في المعونات الاقتصادية والعسكرية، وطريق إيجابي يدور على ضرورة توحيد كل القوى الدينية حول العالم، ومن هنا كان مولد ما عرف لاحقا باسم «مجلس الكنائس العالمي». واللافت للانتباه هنا أن الرجل اللغز لجماعة الإخوان الذي ستفتح له الأبواب المغلقة في واشنطن، من أبواب جامعة برنستون إلى أبواب البيت الأبيض هو سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا، الذي كان يرأس مركزاً إسلامياً في مدينة جنيف بسويسرا. فمن هو سعيد رمضان الحلقة التي بنيت عليها لاحقا علاقة الأميركيين بالإخوان المسلمين بداية، وببقية التيارات الاسلامية الأصولية تاليا وحتى الساعة؟ سعيد رمضان والجد الأصلع ايزنهاور يصف روبرت دريفوس في «لعبة الشيطان» ما جرى في أواخر صيف عام 1953 حين قام البيت الابيض بدور خشبة المسرح للقاء، الذي جرى دون ملاحظة تذكر، بين الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور وشاب مثير للمتاعب ذي ملامح شرق أوسطية. في الصورة التذكارية ذات اللونين الأبيض والأسود التي التقطت بهذه المناسبة (عثر على هذه الصورة التذكارية المشار اليها في الملف الخاص باجراءات تنظيم الكونجرس الذي عقد في سبتمبر 1953 في جامعة برنستون وواشنطن العاصمة)، يبدو ايزنهاور كالجد الأصلع، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثة وستين عاما يقف منتصب القامة في رداء رمادي ويستند بذراعيه وقبضته كما لو كان يبرز عضلاته، وإلى يساره وقف شاب مصري ذو بشرة سمراء يرتدي رداء أسود لحيته مشذبه بعناية وشعره ممشط جيدا ويمسك بيديه حزمة من الأوراق يضعها خلف ظهره وينظر باهتمام الى الرئيس. كان سعيد رمضان يبلغ من العمر 27 عاما ولكنه يمتلك من الخبرة ما يقدر بأكثر من عقد من الزمان في قلب الحركة الاسلامية المليئة بالعنف والتعصب السياسي، والى جواره يقف بعض الذين يرتدون الملابس الغربية وآخرون يرتدون الجلابيب والشيلان وأغطية الرأس الإسلامية وهم أعضاء وفد رجال الدين والملالي النشطين من الهند وسوريا واليمن. ايزنهاور ورمضان من تلاعب بالآخر؟ لم تكن الصورة السابقة حدثاً عشوائياً، فسعيد رمضان (1926 1995) كان زوج وفاء ابنة حسن البنا، وهو أب طارق البنا المفكر الاسلامي الذي يعيش حاليا في سويسرا. كان سعيد من بين الذين طاردهم وطردهم عبد الناصر من مصر، أما ندوة برنستون السابق الاشارة اليها فقد كانت عملا استخباراتيا أميركيا بامتياز لاسيما أنه في مثل هذه الندوات تمارس الاستخبارات الأميركية كتابة التقارير عن أفكار الاشخاص المشاركين. وقد جاء في التقرير الخاص بسعيد رمضان: إنه نازي ولديه شهوة للسلطة ولا يتحدث إلا عن آيديولوجيا الاخوان. قبل وصول سعيد إلى أميركا، كتب السفير الأميركي في القاهرة جيفرسون كافري تقريرا رفع لأعلى المستويات السياسية والاستخباراتية في واشنطن جاء فيه: «إن الإخوان في مصر وحلفاءهم في جماعة الاسلام في باكستان يمكن أن يكونوا حلفاء جيدين ضد الشيوعية وضد حركة القومية العربية ذات المنحى اليساري كحزب البعث». هنا ينقل عبد العظيم حماد في كتابه «الوحي الأميركي/‏‏ قصة ارتباط البنا بالإخوان» عن كافري وصفه لشخصية سعيد رمضان ودوره أنه «واسع الصلات في العالم الاسلامي، فهو بمثابة سفير متجول للجماعة، وهو الذي أسس فرع الإخوان في القدس الذي أصبح حماس، وفرعي عمان وبيروت، وساهم في تأسيس جماعة الاسلام تحت قيادة أبي الأعلى المودودي في باكستان، وهو الذي مثل الجماعة في مؤتمر العالم الاسلامي في باكستان، وقد أقام فيها بعد حل الجماعة في مصر عام 1949 بقرار من حكومة محمود فهمي النقراشي إثر اغتيال القاضي أحمد الخازندار، وعاد الى مصر عام 1950 بعد تولي حزب الوفد السلطة». لعب سعيد رمضان أخطر أدوار التعاون بين الإخوان والأميركان، فقد ساهم عام 1955 في تأسيس جيش التحرير الإسلامي ليكون «الجهاز السري للاخوان في الأردن، هذا التنظيم انتقلت قيادته إلى المانيا الغربية ومنها وبمساعدة واضحة من حكومتها أقام خلايا نشيطة في جمهوريات وسط آسيا الاسلامية التي كانت أجزاء من الاتحاد السوفيتي وقتها. وفي عام 1959 رحل من المانيا إلى جنيف قبل أن ينجز رسالة الدكتوراه التي كان قد سجلها في جامعة كولونيا، وفجأة أعلنت المخابرات الألمانية أن المخابرات الأميركية أعطت سعيد رمضان جواز سفر أردنيا، ولكن المخابرات السويسرية قالت عنه إنه عميل أميركي، وقيل عنه انه يعمل وينشط تحت مظلة المخابرات الأميركية. أما روبرت دريفوس فإنه يحسم المسألة برمتها استنادا منه الى التقييم السري للولايات المتحدة في مصر، والذي كان ينظر إلى رمضان باعتباره حليفا محتملا، وقد كان ذلك في ذروة المكارثية والحرب الباردة حيث كان الاخوان يعادون الشيوعية بقوة. هل من خلاصة لما تقدم؟ المؤكد إن كل جزئية من القراءة المتقدمة في حاجة إلى شرح مستفيض، وقد كتبت عن بعضها مؤلفات قائمة بذاتها، غير أن جل الهدف منها بهذه الصورة البانورامية يقودنا إلى فهم عقلية الاخوان الذين شربوا من بئر حسن البنا وحتى الساعة ما زالوا يمارسون اللعب على التناقضات. تنقّل الإخوان بين المانيا وبريطانيا وأميركا، ولاشك أن لديهم القدرة والرؤية على التعاطي مجددا مع أي قوة عالمية تظهر على السطح. وما يعيشه الاخوان جيلا بعد جيل هو ضرب من ضروب الجينات الموروثة من حسن البنا ومن شخصيته، فالرجل الذي يبدو هادئا وديعا جاءت كتاباته دموية. نقرأ على سبيل المثال ما أصدره البنا في العيد العاشر لتأسيس الجماعة عام 1938 من رسالة بعنوان «إلى أي شيء ندعو الناس؟»، وهي الرسالة التي أوردها الدكتور السعيد في مقدمة كتابه «الارهاب المتأسلم/‏‏ حسن البنا وتلاميذه من سيد قطب الى داعش». تحدث البنا عن الوطن الاسلامي، وقال إن الاخوان يعطون الأولوية لاسترداد الخلافة، وإن الوطن الاسلامي يسمو على حدود الوطنية الجغرافية والوطنية الدموية، أي رابطة الدم الى وطنية المبادئ، أي إن الاعتقاد بمبادئ الاخوان هو بذاته وطن. ولعل هذا ما اهتدى به مرشد عام إخواني لاحقا (مهدي عاكف) عندما قال: «طظ في مصر».. وهو نفس ما نطق به سيّد قطب من قبل. السؤال الجوهري: هل فات تلك القوى العالمية تلاعب الاخوان بهم؟ الجواب هو إنهم إذا كانوا قد تلاعبوا بالآخرين فإن الآخرين أيضا قد اعتبروهم جسورا لتحقيق أهداف استراتيجية أوسع، وإن كان قد غاب عن أعينهم مقدار الدموية التي يحملونها لشعوبهم ولشعوب العالم. إنه غرام الأفاعي كما يقال. وليس أدل على ما نقول من إنه عندما أصدر البنا مجلة «النذير» كتب في افتتاحية العدد الأول يقول «إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن، ونحن سوف نتوجه بدعوتنا إلى كل المسؤولين فإن أجابوا آزرهم الإخوان وإن لجأوا إلى المواربة والمراوغة فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس أو حزب أو هيئة لا تقوم على نصرة الاسلام ولا تسير في الطريق إلى إعادة حكم الاسلام ومجد الاسلام». وعندما حذره بعض المسؤولين بعدم الخلط بين الدين والسياسة صاح شعرا: الدين شيء والسياسة غيره دعوى نحاربها بكل سلاح قد جاء طه عابدا ومجاهدا دك الحصون وقص كل جناح «الأخوان».. صناعة ألمانية أم بريطانية أم أميركية؟ ولاءات تباع على أرصفة الدول الكبرى أحد أهم الأسئلة المطروحة على دائرة البحث والنقاش حتى الساعة، هو ذاك المتصل بجماعة الإخوان وكيف نشأت، ومن هو مصدر نشأتها في واقع الأمر؟ في هذه القراءة نحاول تقديم رؤية مختصرة عن العلاقات الأولى للجماعة حول العالم. وهي علاقات مشوبة بكثير من الغموض والبراجماتية. جون كولمان والمؤسسون الأوائل أحد الذين فككوا بعض غموض التأسيس لجماعات الإسلام السياسي عامة، والإخوان خاصة هو جون كولمان صاحب الكتاب الشهير «لجنة الـ300». والمؤلف هو محلل للشؤون العالمية، وضابط ووكيل للمخابرات الخارجية البريطانية، كتب العديد من الكتب والأوراق عن تحليل بنية السلطة في العالم. يتحدث كولمان عن بعض الشخصيات التي لعبت دوراً مؤكداً في إنشاء جماعة الإخوان، بهدف خدمة أغراض الإمبراطورية البريطانية، وفي مقدمتهم توماس إدوارد لورنس، الضابط البريطاني الذي لمع نجمه في الحرب العالمية الأولى، والذي وقفت وراءه بريطانيا ليدفع للأمام فكرة القومية العربية، ولاحقاً ساعدته في تأجيج نيران الأصولية الإسلامية، انتقاماً من الإمبراطورية العثمانية المناوئة. تالياً يأتي هاري سانت جون فيلبي وقد عرف باسم الشيخ عبد الله فيلبي، بعد أن أشهر إسلامه، وإن كان المؤرخون يشيرون إلى أنه كان «ملحداً». وفي الأصل كان مستعرباً وكاتباً وعميل مخابرات بمكتب المستعمرات البريطاني، وقد وقف طويلاً وكثيراً وراء فكرة قيام تنظيمات عربية إسلامية ضد العثمانيين كانت جماعة الإخوان لاحقاً إحدى أهم تجلياتها. وهناك ويلفريد سكاوين بلانت، و م. ج. براون، وأرنولد توينبي، وبرتراند راسل، وهؤلاء جميعهم لعبوا دور رأس الحربة الفكرية للإمبراطورية البريطانية في إحياء النعرات الدينية. الإخوان.. في البدء كان الألمان في كتابه «تاريخ جماعة الإخوان/‏‏ المسيرة والمصير» يتحدث المفكر اليساري الراحل الدكتور رفعت السعيد عن الشائعات التي تحولت إلى حقائق في شأن علاقة الإخوان بالألمان. يذكر ذلك في الفصل الرابع من المجلد الأول لمؤلفه «لعبة المصالح المشتركة مع الطاغوت»... فما الذي حدث؟ خلال البحث في الأرشيف العام للخارجية البريطانية، تم العثور على برقيتين من السفير البريطاني في مصر إلى وزارة خارجيته تحتويان ترجمة إنجليزية لبعض أوراق مكتوبة بالألمانية ضبطت لدى ولهلم ستلبوجن، وبياناتها كالتالي: 23342-0371.F 22-10-1939 مكتب الأمن العسكري ـ مصر الهر ولهلم ستبلوجن مدير مكتب الدعاية النازية بمصر، بالإضافة إلى توليه مسؤولية الملحق الصحفي بالبعثة الألمانية بمصر بشكل مؤقت، وهو لا يتمتع بأي صفة دبلوماسية، عثر عنده لدى تفتيشه على مذكرة مكتوبة بلغة الاختزال ومؤرخة في 18 أغسطس (آب) والمعتقد أنها كتبت عام 1939 تقول: «لقد أرسلت البعثة إلى حسن البنا (مؤسس الإخوان المسلمين) مرة أخرى ذات المبلغ بذات الطريقة، لكن الإخوان المسلمين طلبوا مزيداً من المال رغم أنني سلمتهم مبلغ الألفي جنية التي وصلت باسمهم من ألمانيا والتي وعدناهم بها». ثم ترجمة لورقة أخرى مكتوبة بالآلة الكاتبة الألمانية مؤرخة 16-8 تقول: «إن دفعة جديدة من الأموال لجماعة الإخوان المسلمين قد أصبحت في اعتقادي ضرورية جداً، لابد من الاتصال ببرلين فوراً عن طريق البعثة لطلب ميزانية إضافية... ثم (...) إن المحادثة التي جرت مع «ح . ب» (حسن البنا) حول المسألة «ب» كانت مرضية تماماً، وقد أعرب «.....» عن كامل رضائه عنها». أما البرقية الثانية فتتضمن ترجمة عن الألمانية لأوراق أخرى ضبطت لدى ذات الشخص وفيها: F.0371-23342 مكتب الأمن العسكري ـ مصر عثر لدى المذكور على المذكرات التالية: 1 ـ لقد أكد مؤتمر الإخوان المسلمين أن الوضع الراهن سيىئ للغاية، وأعلنوا باسم العرب أن القتال في فلسطين هو حرب مقدسة، وأن واجب كل مصري هو مساعدة المقاتلين هناك. 2 ـ قرر المؤتمر البدء في حملة تبرعات لدعم القتال في فلسطين. 3 ـ مذكرة بالاختزال تقول: «أرسلت البعثة مرة أخرى لحسن البنا ذات المبلغ بذات الطريقة. هؤلاء الناس يمكنهم فعل أشياء كثيرة». بريطانيا وتحالفاتها مع الإخوان لعل أفضل من كتب عن علاقة بريطانيا بالتيارات الإسلامية الأصولية، يجيء الكاتب البريطاني مارك كورتيس الباحث في المعهد الملكي للشؤون الدولية، ومؤلفه الذي يبلغ نحو ستمائة صفحة «التاريخ السري لتآمر بريطانيا/‏‏ بريطانيا مع الأصوليين» مليء بالمفاجآت. كانت الأعوام 1936 ـ 1939 فرصة ذهبية للإخوان، حيث دعوا للجهاد ضد اليهود في فلسطين إبان الثورة العربية، وأرسلوا متطوعين إلى هناك بعد نداء وجهه المفتي، كما ساعدهم ضباط ألمان في بناء جناح عسكري. كيف تعاطى الإنجليز مع الإخوان؟ بحسب المرجع المذكور، فإنه في السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، انطوت الاستراتيجية البريطانية إزاء الإخوان على محاولة قمعهم، ومع ذلك فقد حظي الإخوان الذين تعاملوا وتحالفوا مع اليمين السياسي برعاية الملكية المصرية الموالية للبريطانيين، والتي بدأت تمولهم في 1940. فقد اعتبر الملك فاروق الإخوان معارضاً مفيداً لقوة الحزب السياسي الرئيسي للبلاد، حزب الوفد الوطني العلماني والشيوعيين. لاحقاً نبّه تقرير للمخابرات في عام 1942 إلى أن «القصر بدأ يرى أن الإخوان مفيدون، وأضفى حمايته عليهم». المخابرات البريطانية والأخوان تم أول اتصال مباشر معروف بين المسؤولين البريطانيين ـ والرواية لكورتيس ـ والإخوان عام 1941 في وقت رأت فيه المخابرات البريطانية أن الحشود المناصرة للمنظمة وخططها للتخريب ضد بريطانيا هما «أشد خطر يواجه الأمن العام» في مصر. وفي ذلك العام كانت السلطات المصرية قد سجنت البنا تنفيذاً لضغوط بريطانيا، لكن عند إطلاق سراحه أجرى البريطانيون أول اتصال مع الإخوان، ووفق بعض التقارير عرض المسؤولون البريطانيون مساعدة المنظمة «لشراء» مساندتها، وفي ضوء الهدوء النسبي للإخوان لبعض الوقت عقب هذه الفترة، فإنه من المحتمل أن تكون المعونة البريطانية قد قبلت. دريفوس.. لماذا الإسماعيلية تحديداً؟ أحد أفضل الذين نقّبوا عن علاقة بريطانيا بالإخوان هو الكاتب الأميركي روبرت دريفوس رئيس التحرير المشارك لمجلة «ذا ناشونال» الأميركية والمحرر المسؤول عن تغطية شؤون الأمن القومي في المجلة، وقد أصدر كتاباً متميزاً العام 2005 بعنوان «لعبة الشيطان/‏‏ كيف ساعدت الولايات المتحدة الأميركية على إطلاق العنان للأصولية الإسلامية». يقول دريفوس: «من المستحيل المبالغة في أهمية وشرعية حسن البنا... إن حرب القرن الواحد والعشرين ضد الإرهاب هي حرب ضد خلفاء البنا وإخوانه، ولقد ظهروا في كل مكان في مكتب المدعي العام السوداني وميادين المعارك في أفغانستان، في حماة بسوريا، على قمة بعض الجامعات العربية، وفي حكومة مابعد صدام حسين في العراق». يروي دريفوس «أنه من أجل إخراج جماعة البنا أي الإخوان إلى حيز الوجود، ساعدت شركة قناة السويس البنا في بناء مسجد الإسماعيلية الذي سوف يغدو مركزاً لقيادة الإخوان المسلمين، وقاعدة لعملياتهم» وذلك طبقاً لرواية المؤلف ريتشارد ميتشيل في كتابه «جمعية الإخوان المسلمين». ويعلق الكاتب والمؤرخ المصري صلاح عيسى في دراسة له عن تاريخ الإخوان وعلاقتهم بريطانيا بالقول «ثبت أن ذكاء الإخوان السياسي فوق مستوى الشبهات، وهو ما تأكد من الطريقة التي تعاملوا بها مع الاحتلال، إذ تعاملوا معه بحجمهم الحقيقي لا بأهدافهم التي أعلنوها تدريجياً فيما بعد، كما نجحوا في خديعة شركة قناة السويس وحصلوا منها على منحه بلغت (خمسمائة جنيه) رغم أنها شركة تعمل لمصلحة الاحتلال، فقد آثروا أن يكفوا عن أي نشاط سياسي خلال سنوات الحرب، يعرضهم للعصف بهم، بل على العكس أخذوا فرصة للانتشار والتوسع وتصرفوا بذكاء جعل سلطات الاحتلال في مصر ترضى عنهم رضاء تاماً، ففي بداية الحرب العالمية الثانية، ضيّقت هذه السلطات على كل القوى السياسية الوطنية، ولم ينج من هؤلاء سوى الإخوان». ونلاحظ هنا أن السفارة البريطانية التي لم تتعود التراجع عن قراراتها ضد خصومها السياسيين وخاصة في فترة الحرب، قد تراجعت أو تظاهرت بأنها تتراجع مرتين أمام القصر الملكي لحماية حسن البنا، فهل كان هذا الشد والجذب أو لنقل هذه المرونة بداية لعلاقة من نوع خاص؟ الأخوان وخدمة الإنجليز في مصر يؤرخ الكثير من الكتّاب البريطانيين لشكل العلاقة الخاصة بين الإخوان وسلطات الاحتلال في مصر، منهم على سبيل المثال الكاتب هيوارث ديون في كتابه المعنون: «الدين والاتجاهات السياسية في مصر». وفي هذا المؤلف يشير إلى ما أسرّه إليه مصدر أخواني كان على علاقة بالسفارة البريطانية في القاهرة من أن حسن البنا قد ألمح خلال الاتصالات مع السفارة ومن خلال عناصر وسيطة أنه على استعداد للتعاون، وأنه سيكون سعيداً لو أن مساعدات مالية قدمت إليه. قدم البنا للإنجليز في مصر خدمات مهمة بالفعل، على سبيل المثال ولتقديم برهان على قدرته على تقديم تلك الخدمات على مستوى الجماهير اتفق البنا مع وزارة الداخلية على تحجيم المظاهرات التي كان مقرراً أن تندلع يوم 2 نوفمبر 1945 بمناسبة ذكرى وعد بلفور، وقام البنا بنفسه بنصح المتظاهرين بالانصراف والتفرق. كذلك عقد تحالف الأخوان حلفاً وثيقاً مع إسماعيل صدقي الذي كان حليفاً وثيق الصلة بالإنجليز بل تعاونوا معه في ترويج معاهدة صدقي ـ بيفن، ودون أدنى حرج يقف القائد الطلابي للإخوان مصطفى مؤمن معلناً تأييده لإسماعيل صدقي مستخدماً الآية الكريمة: «واذكر في الكتاب إسماعيل أنه كان صادق الوعد وكان صديقاً نبيا».. فلماذا الإنجليز بالذات؟ هذا السؤال يجيب عنه المؤرخ الأكثر تأييداً لجماعة الإخوان د. اسحق موسى الحسيني، بالقول: «إن تحرير وادي النيل كله من النفوذ الأجنبي كان مطلباً يلي في الأهمية لدى الإخوان مطلب إقامة الحكومة الإسلامية». الأخوان وكلاء الإنجليز في مصر يدهش المرء من الدور الذي لعبه الأخوان لصالح الإنجليز في مصر، والذي يشرحه مارك كورتيس بشيء من التفصيل، وعنده أنه بحلول العام 1942 كانت بريطانيا قد بدأت على وجه القطع في تمويل الإخوان، ففي 18 مايو (أيار) عقد مسؤولو السفارة البريطانية اجتماعاً مع أمين عثمان باشا رئيس وزراء مصر، نوقشت فيه العلاقات مع الإخوان وتم الاتفاق على عدد من النقاط، إحداها أن تدفع الحكومة المصرية سراً الدعم المقدم لحزب الوفد للإخوان، وإنها ستحتاج في هذا الأمر إلى بعض المساعدة المالية من السفارة البريطانية، وإضافة لذلك ستدخل الحكومة المصرية عملاء موثوقاً بهم في صفوف الإخوان لتراقب الأنشطة عن كثب، «وتقدم لنا في السفارة البريطانية المعلومات التي يحصل عليها هؤلاء العملاء».بحلول عام 1944 كانت لجنة المخابرات السياسية البريطانية تصف الإخوان باعتبارهم خطراً محتملا لكنهم بقيادة ضعيفة، فقد اعتقدت أن البنا كان هو الشخصية البارزة الوحيدة وبدونه يمكن أن ينهاروا بسهولة. وهكذا فإنه بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية توافرت لبريطانيا بالفعل خبرة كبيرة في التواطؤ مع القوى الإسلامية لتحقيق أهداف معينة. وتعمقت هذه السياسة البريطانية النفعية بصورة كبيرة في عالم مابعد الحرب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©