الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استعادة معاصرة لرومانسية كلاسيكية

استعادة معاصرة لرومانسية كلاسيكية
25 يونيو 2013 21:31
كان جمهور أبوظبي الأسبوع الماضي على موعد غير مسبوق مع الرومانسية والجمال، وذروة الكمال الموسيقي والفني، وسحر الثقافة الفرنسية، في ليلة فنية فرنسية استثنائية وحفل موسيقي يقدّم لأول مرّة على مستوى منطقة الخليج، أطلق عليه اسم “معزوفات من صندوق الجندي” بصياغة وأداء الثنائي النسائي: سيليمان دودي على آلة “البيانو”، وآماندا فافييه على آلة “الكمان”، وربما يكون من أهم مظاهر هذا الحفل المحلّق في فضاءات الرشاقة الفرنسية الساحرة، هو أن تقوم فتاتان شابتان تتمتعان بموهبة خاصة في أداء المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، بتقديم تجربة فريدة تتمثل في تكريم عازف الكمان والملحن والجندي الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى لوسيان دوروزوار (1878 ـ 1955). أقيم هذا الحفل التذكاري على خشبة مسرح أبوظبي بكاسر الأمواج، بالتعاون والتنسيق ما بين سفارة الجمهورية الفرنسية بأبوظبي، ممثلة بالمعهد الثقافي الفرنسي، ومركز سلطان بن زايد للثقافة والاعلام، وحضره السفير الفرنسي لدى الدولة آلان أزواو، ونخبة من أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الدولة، وجمهور قدّر بنحو 1000 متفرج، وهو رقم قياسي وغير مسبوق على مستوى حفلات الموسيقى الكلاسيكية التي تشهدها العاصمة بفضل مجموعة من البرامج تتولاها مؤسسات ذات صلة بالتذوق الموسيقي الرفيع. بلاغة جاذبة إذا أردنا الحديث عن برنامج هذا الثنائي الجميل، فيجب أن نقول أولا: أننا كنا نستمع إلى موسيقى ذات طابع عالمي بنكهة ومذاق فرنسي معبر عن روح الثقافة الفرنسية المنفتحة على التراث الانساني، بحيث يستطيع كل إنسان أن يستمتع ويتأثر بها بفضل بلاغتها وقوّة تأثيرها ومظهرها الرومانسي الخلاّب، مع حواف حماسية، تجعلك تتبّع كل نغمة ولون ودرجة موسيقية، ويقف على هرم مقطوعات البرنامج الأداء الموسيقي العالي والأنيق للسوناتا رقم 6 لبيتهوفن والتي تتميز بجمالها الشّاعري الفذ، وبروح إفصاحها الودودة الممتزجة بأشجان ساحرة منبعثة من عالمنا الدنيوي، ويمكن القول بحقّ أن إختيار العازفتين لهذه السوناتا، كان موفقا، فهي عالم من الموسيقى بذاتها. ويلفت الانتباه هنا، هذا الانسجام المثالي التّام بين الوتريتين البيانو والكمان، في تأثير يشهد للعازفتين بالمهارة والدّقة على إكتشاف موسيقى بيتهوفن وكيف تآلفت بوضوح روحانيته ومثاليته، وأيضا الانضباطية والمقدرة على التّحكم في الآلآت الموسيقية حتى الرّمق الأخير من المعزوفة لتصل إلى مدركنا السمعي والبصري قطعة واحدة ذات هارمونية ولون واحد. ولا نبالغ إذا قلنا أن النجاح المتقن لهذه السوناتا، يعود في الأصل إلى بيتهوفن الذي كان متقدما على عصره بنحو قرن من الزمان، فهو قد عرف بوضوح مشكلات الموسيقى (الألترا مودرن) في القرن العشرين، وما زالت سوناتاته ورباعياته الأخيرة تعد حتى يومنا هذا، أفضل أمثلة شامخة لموسيقى المستقبل.. إنها موسيقى حديثة من أسمى طراز مستطاع، وهنا ربما لا يعرف القارئ أن تقديم العازفتين لهذه السوناتة الشهيرة، وبقية معزوفات الحفل كانت في وقتها موسيقى شبابية، فتجد فيها أيضا جانبا من المرح وسرعة الإيقاع وصخب الحياة ولهذا وصلت بسرعة إلى جمهور الحفل. تقوم صياغة الأداء الموسيقي في الشّكل والانشاء، لدى كل من سيليمان وأماندا، على مبدأ الاستهلال، بحيث تفتح نغمات البيانو فضاء الطريق للكمان للدخول إلى قالب المقطوعة، وبناء ثنائية العزف، كما في أدائهما لمقطوعة الموسيقي فلوران شميث (1870 ـ 1958) رقم 25، وهي مستمدة من أجواء وتأثيرات الحرب العالمية الأولى، والمقطوعة بشكل عام ذات طابع غير متكلّف، وفي أعماقها تيّار غنائي ميلودي، وجاء أدائها الفرنسي ساحرا وناعما، بسبب تلك اللمسات الأنثوية العفوية للعازفتين اللتين أتقنتا الدّور في جانب مسحات البيانو الشاعرية الصغيرة ذات الحركة الواحدة، ممتزجة بضربات رشيقة من الكمان لتتضح لنا بسرعة فائقة السمات الرومانتيكية في الموسيقى ذات الايقاع الدرامي، ففيها على الأقل ما يتسنّى للخيال من روح الانطلاق والمخاطرة في تتبع الحدث الموسيقي بكل تفاصيله. لقد وفّرت المهارة الفائقة، والتدفق الموسيقي المتناغم روحا وتفصيلا للعازفتين الأنيقتين جرأة كافية للابحار إلى جهة غير مطروقة بالنسبة للمتفرج المعاصر، حينما قدّمتا مقطوعة الملحن والجندي الفرنسي لوسيان دوروزوار، بكل ما فيها من حماسة وقوة وصعود وهبوط، في إطار يحفل أيضا برومانسية فيها نشوة النصر، الممتزجة بروح جنائزية فيها هالة من السحر الرومانتيكي، لتضم المقطوعة في النهاية درجات وعالما من الخلجات العاطفية ووفرة من العواطف الإنسانية الصادقة، التي تشهد لهما بمقدرة وجاذبية على توثيق لون فني يجمع بين الموسيقى والشعر وطابع الغنائية. ثم لا ننسى هنا أن نشير إلى أن طلّة العازفتين بتلك الملابس السوداء المشعة جمالا ودلالا، وحركتهما المنضبطة إيقاعا وروحا، وثنائية قلما تجد لها مثيلا في الكونشرتو، قد ساهم كل ذلك في إضفاء صورة مشهدية مصقولة للمتفرج، وما بين الرنين المستساغ للبيانو، والقدرة على إطالة الأنغام في الكمان، ما مكّن العازفتين الشابتين من إبراز ما في الرومانتيكية من سحر وروعة ألوان وأجواء محببة إلى النفس المشتاقة على الدوام إلى لحظة فرح وغموض. نبرات ومشاعر قد يبدو صوت البيانو أكثر وضوحا في سوناتا كلود ديبوسي (1862 ـ 1918)، في لحن بديع يعبر عن كثير من المرارة، وصيحات منبعثة من القلب، ونبرات موسيقية مؤثرة، وصفاء في المشاعر والاخلاص، ويكمن جمال أداء هذه السوناتة، في قوتها العاطفية، وتواتر النغمات والطبقات الصوتية وتدرجها حتى (الكريشندو)، ولذا وبرغم مضي أكثر من نصف قرن على ظهور هذه السوناتة، فما زال تأثير تعبيراتها قويا، كما كان في الأصل. وسط أجواء موسيقية محفوفة بالأناقة والمخملية، استمعنا إلى مقطوعة للموسيقي الشهير ألفريدو أمبروسيو (1871 ـ 1914)، وربما يكون هذا الأداء الفرنسي لها، هو أول أداء محكم من ناحية الصناعة الفنية، ففيها أيضا موسيقى حركية تثير التأمل، وتجعل من الوتريات مصدر إلهام من حيث قدرتها على إثارة أقوى العواطف، وقد يتقاطع مع هذا الفهم، ما قدمته سيليمان وأماندا لمقطوعة الموسيقي الشهير أندريه كابلت (1878 ـ 1925)، بما فيها من بهجة وانشراح، وظهرت لنا في أداء معاصر بصورة توافر لها كل من الاخلاص والنقاء وعفة المشاعر، موسيقى تستطيع أن تلمسها بقلبك وروحك وأذنك وكل ما في داخلك، وهو ما جعل هاتين الشابتين وهما يستقدمان لنا موسيقى كلاسيكية قديمة، مبعث اهتمام وإعجاب الجمهور الذي صفّق لهما طويلا، لأنهما كما بدا لنا طوال 90 دقيقة ممتزجتان، متآلفتان، متماسكتان، وكأنهما يشكلان معا فرقة كونشرتو كاملة. في الواقع لقد كان برنامج الحفل الفرنسي حافلا ودسما ومليئا بالتصميمات الموسيقية المعقدة وبخاصة محتويات أعمال الموسيقي لوسييه دروسر في أربع سوناتات، وغيره من الموسيقيين، ممن برعوا في الأداء الكلاسيكي العالمي، وإن كان هناك من ملاحظات لا تقلل من شأن النجاح الساحق الذي تحقق في شارعنا الثقافي، فربما يكون في تلك الفجوات البسيطة بين العازفتين في أدائهما لسوناتات لوسييه دوسر، بحيث كانت تفلت منهما ربما عن غير قصد بعض النقلات والقفلات، على الرغم من رومانسية وجمالية العزف. وقد تبدو ملاحظة تتعلق بتصميم الاضاءة لهذا الحفل مهمة جدا، فالموسيقى كانت ذات فضاءات رحبة ومحلّقة، والايقاعات كانت تأخذنا مع كل جملة موسيقية أو مقطع إلى عوالم مزدحمة بالمشاعر، وإلى جذوة إلهام، لا يتحقق إلا في جو رومانسي، جاءت الاضاءة العامة (الجنرال) بعيدة وغير متطابقة مع هذا الجو، حيث كنا نأمل في تصميم ضوئي مركز على وسط خشبة المسرح حيث آلة البيانو والعازفتين وهما مركز اهتمام المتفرج، كما كنا نأمل في توزيعات جانبية للاضاءة في الأركان، لنصنع ذلك المناخ الذي يليق بهذا الفن الموسيقي الرفيع. ربما تجدر الاشارة إلى مفاجأة الحفل، وهو الجمهور بثقافاته الفرنسية والعربية والانجليزية، والذي استوعب كامل تفاصيل العرض، فكان متذوقا من الطراز الأول، كما تعرّف من خلال هذا الجهد البنّاء واكتشف هذه المؤلفات الموسيقية الضائعة المنسية، التي وصلتنا طازجة شفافة بفضل عازفتين من جيل الشباب الفرنسي، الذي قام على تقديم تفسير عصري جديد لموسيقى عظيمة خصبة، لموسيقيين عظام كانت لهم إنجازات خالدة في عالم الكلاسيك. نودّ في الختام الاشارة إلى أهمية مثل هذه الحفلات الموسيقية النادرة، فهي على أقل تقدير تحقق ذلك الذيوع للحفلات العامة (الكونسيرات)، والاوركسترا السيمفوني، وجماعات الرباعيات، وحفلات الغناء، وعزف البيانو، والأداء الأوبرالي، وغير ذلك من الفنون المتطورة، فإن كل ذلك يحقق لنا مع الوقت فن جماهيري، ليس مقصورا على النخبة، وتحقيق هذا النوع من الثقافة الجماهيرية، هو في المحصلة مشروع كبير نحو جمهور جديد كبير توّاق إلى تذوق الفن والأدب الرفيع..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©