الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صورة الروائي في شبابه

صورة الروائي في شبابه
25 يونيو 2013 21:31
الروائي التشيكي المولد ميلان كونديرا في روايته «الحياة في مكان آخر» يعد مثالا واضحا على مكر الروائي، الذي يتخفى وراء شخصية بطل الرواية الشاب ياروميل الذي تتداخل سيرة حياته مع سيرة تاريخ التجربة الشيوعية في بلده في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، عندما يربط مصيره بها بعد أن يصبح عضوا في الحزب الشيوعي التشيكي، على الرغم من أن كونديرا يعد من أكثر الكتاب الذي هجوا تلك المرحلة، وحاولوا السخرية منها بلغة جارحة تفضح الطابع القمعي للسلطة، ومحاولات إخضاع كل شيء في الحياة لسلطة الحزب وسياساته، ما أفقد الحياة والناس حريتهم، وإخضعهم لرؤية أحادية تعسفية ذات طابع قمعي. بين كونديرا وبطله.. أيهما يشبه الآخر؟ لعل السؤال المركزي الذي يطرح نفسه بعد نشر تقرير يتحدث عن الدور الذي لعبه كونديرا ككاتب تقارير ضد عدد من زملائه وأساتذته الجامعيين أثناء دراسته الجامعية، هل يكون بطل روايته ياروميل الشيوعي المتحمس لسياسات الحزب وكاتب التقارير هو كونديرا نفسه، وبالتالي هل تكون حياة تلك الشخصية تتويجا لسيرة حياة كونديرا في تلك الحقبة، وما تميزت به من تناقضات وسلوك معقد وغريب، كان يحاول عبره تحقيق ذاته، ولتعويض عن الشعور الذي كان يعاني منه بالضعف والفشل والعجز، لا سيما في علاقته التي اتسمت بالعدائية والرغبة في التسلط مع المرأة والآخرين. رواية “الحياة في مكان آخر” هي رواية شخصية بامتياز يحاول فيها كونديرا تتبع حياة بطله ياروميل منذ الطفولة، مركزا على تلك العلاقة الخاصة التي كانت تربطه بأمه، ومدى تأثيرها على شخصيته وحياته، بفعل الهيمنة الكبيرة للأم عليه، وهو ما سنجد تأثيره واضحا على علاقته بالمرأة بصورة خاصة. إن الكاتب بقدر ما يحاول تقديم تحليل سيكولوجي لشخصية بطله والكشف عن العوامل التي ساهمت في طبع شخصيته بتلك الصفات الغريبة، فإنه يسعى في الآن ذاته إلى تعرية ممارسات النظام الشيوعي في بلده وإدانتها، والكشف عن الأسباب والدوافع التي قادت بطله للانخراط في الحزب الشيوعي، والتحول إلى مخبر يكتب التقارير بزملائه من الطلبة، دون أن يخفي في الوقت نفسه حالة التناقض التي كان يعيشها هذا البطل على مستوى العلاقة مع الحزب، في عدد من القضايا التي تتعلق بالشعر والفن ووظائفهما الجمالية والإنسانية، فهل كان ذلك بمثابة الارهاصات الأولى لتكون وعي جديد لدى بطل الرواية بحقيقة النظام الشيوعي وسياساته الشمولية التي تسعى لفرض رؤيتها الايديولوجية على الناس والحياة بالإكراه، وهو ما مهد فيما بعد لموقف كونديرا الساخط على هذا النظام وممارساته التعسفية؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، لابد من الإشارة إلى حضور وجهة نظر الكاتب في شخصية بطله، والتي لا تقل من حيث السخرية والنقد الجارح عن نقده لحقبة النظام الشيوعي، وذلك من خلال الألقاب التي كان يطلقها على تلك الشخصية أثناء الحديث عنها. إن التركيب النفسي المعقد لشخصية البطل يظهر واضحا في سلوكه وحواراته ومواقفه التي كانت تتسم بالتناقض، والارتباك وعدم الثقة بالنفس بفعل التربية الطفولية التي عاشها في ظل هيمنة شخصية الأم التامة عليه: “إنه لأمر غريب حقا: فقد تخلى ياروميل عن لغته في لحظة هياج، أي في لحظة يتصرف فيها المرء بعفوية بحيث يفصح عن ذاته كما هي، واختار أن يكون وسيطا لغيره. وهو لم يكتف بالتصرف على هذا النحو فحسب، بل رافق تصرفه ذاك شعور داهم بالرضا”. هل عمل كونديرا الجديد هو رواية تعرية، أم تحليل نفسي؟ يمضي السرد الحكائي في هذه الرواية في مسارين يصعب الفصل بينهما، نظرا لتداخلهما وتلازمهما بصورة كبيرة، بحيث يصعب فهم أحدهما دون الآخر، وهما مسار التجربة التي عاشها بطل الرواية والعوامل الحاسمة التي طبعت شخصيته بهذا الطابع الغريب، ومسار التجربة الشيوعية التي انخرط فيها، ولم تكن مواقفه منها أقل تناقضا من سلوكه مع المرأة أو العالم الذي كان يعيش فيه. لا شك أن الكاتب يحاول الكشف عما تنطوي عليه شخصيته الروائية من نمط وعي اجتماعي ـ ثقافي، وكيفية تشكل هذا الوعي، الذي لعبت في تكوينه شخصية الأم وشخصية الرسام الغريبة التي كان يتلقى عندها دروسا في الفن دورا أساسيا ومهما، طبع شخصيته ومواقفه بطابعه الخاص. تتميز هذه الشخصية بطابع القلق واختلال العلاقة التي تعيشها مع ذاتها ومع العالم، ما يفسر طابع التناقض العجيب في سلوكها ومواقفها وعلاقتها بالشخصيات الأخرى باستثناء الأم والشرطي ابن البواب بالاختلاف، لكن محاولة الكاتب التركيز على طفولة الشاعر وعلاقته بأمه حتى بعد أن أصبح شابا وعجزه عن التخلص من تأثير تلك العلاقة القوي عليه، يكشف عن محاولة الكاتب الإضاءة على العوامل الحاسمة التي ساهمت في تكوين شخصيته وعالمه الداخلي، انطلاقا من نظرية التحليل النفسي عند فرويد، والتي ترد جميع دوافع الشخصية وسلوكها ومواقفها إلى مرحلة الطفولة والعلاقة مع الأم، لذلك بدا واضحا التركيز على تلك العلاقة وتعبيراتها عند بطل الرواية: “وذات يوم عندما قال لها ياروميل فجأة: أنا لست صغيرا كما تظنين يا ماما، إنني أفهمك، كادت تصاب بالذعر بطبيعة الحال لم يكن الطفل يقصد شيئا محددا، وكان يريد فقط أن يوحي لوالدته بأنه يستطيع أن يشاطرها كل أحزانها، لكن ما نطق به كان مشبعا بالمعاني، وتمعنت ماما في كلامه كما لو كانت تنظر في هاوية بغتة”. إن فهم تلك الشخصية الغريبة لبطل الرواية يتطلب دراسة بنيتها المركبة كلها، وإدراك خلفيات دوافعها ومواقفها النفسية والشخصية المختلفة، لذلك لا يمكن فهم طابع التناقض والغرابة والعجز والغيرة بمعزل عن تقصي مختلف جوانبها النفسية والشخصية، من أجل فهم وإدراك دلالات سلوكها، سواء على صعيد موقفها من الشيوعية، أو من المرأة والحب، أو من المجتمع، وقبل ذلك كله من الأم التي تمركزت حياته وشخصيته حولها. لقد تميزت تلك الشخصية بسلوكها التعويضي الذي حاولت من خلاله النعويض على شعورها بالعجز والفشل وعدم الثقة بالنفس، سواء على مستوى اندفاعها لاعتناق الشيوعية، أو على مستوى علاقته مع المرأة، إذ كان يعاني بسبب هيمنة شخصية الأم عليه من الشعور الداخلي بالخصاء، وهو ما تجلى واضحا في علاقته الجنسية الأولى مع البائعة النمشاء، التي تحولت إلى معشوقته التي لا يقبل أن يشاركه في لمس جسدها أي شخص كان. إن هذه الغيرة الجنونية تعكس ظاهرة التحويل التي كان يقوم من خلالها بإسقاط علاقته مع أمه ورغبته في امتلاكها كليا على تلك المعشوقة، في حين لم يستطع أن يستجب لإعجاب المخرجة السينمائية ودعوتها له بالبقاء معها عندما كان يهم بمغادرة منزلها مع الشاعر الكبير الذي كان يحثه على اغتنام تلك الفرصة الثمينة التي لا تعوض!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©