الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

توني موريسون تنبش «بيت» العذابات

توني موريسون تنبش «بيت» العذابات
16 يناير 2013 19:46
لم تحظ الروائية الأميركية توني موريسون، (نوبل للآداب لعام 1993) بأي جائزة في بلادها أو سواها عن روايتها الأخيرة «بيت» الصادرة عن ألفريد نوبل للكتب في النصف الأخير من السنة الماضية. ومع ذلك فقد حظيت باهتمام قرائي كبير، بحسب ما نشرت يومية «نيويورك تايمز» الأميركية في حصيلة سنوية عن الكتب الأكثر ملاحظة وبالتالي الأكثر مقروئية، فكانت «بيت» من بين الكتب المئة الأولى في مختلف الحقول التي حظيت باهتمام القرّاء، وذلك فضلا عن اهتمام نقدي واسع في دوريات مراجعات الكتب الأكثر أهمية. في هذه الرواية، تستعيد توني موريسون بعضاً من أجواء لغتها التي طرحتها في رواية سابقة هي «محبوبة»، بحيث إن المرء يلاحظ ذلك مباشرة في بعض مقاطع الرواية التي تبدو كما لو أنها قصيدة نثر تماماً، وبالمعنى الذي يمارس فيه شعراء أميركا الشمالية كتابة هذا الجنس الأدبي، إلى حدّ أنه مع اجتزاء تلك المقاطع وإدخال نوع من التعديل التحريري عليها، فإنه بالإمكان أخذها بمعزل عن الرواية- الكتاب والحدث والحكاية. لكن «بيت» أيضا، كما هو حال روايات أخرى لتوني موريسون، تبقى في أجواء الأفارقة الأميركان التي هي واحدة منهم؛ في أجواء تاريخهم إذ تحوّله بمخيلتها الخصبة إلى تاريخ يخصّ الأفراد جميعاً وبحيث تحقق تعاطفا من قبل القارئ مع أبطالها وتحاول عبر مزج ما هو تاريخي بالإنساني – الواقعي، أن تفضح أسس العلاقة التي كانت تقوم عليها علاقة السود بالأوروبيين البيض الحاكمين والمهيمنين. الندوب التي في الروح تحكي الرواية، التي تدور أحداثها في إحدى البلدات الصغيرة بولاية جورجيا، عن فترة الخمسينيات؛ فترة ما يُعرف بالحرب الكورية وهي فترة واجه فيها السود الكثير من العنصرية المقننة والمُدافع عنها بحكم أنها ممارسة قانونية، تمّ تتويجها في ما بعد بما يُعرف بالـ «مكارثية» التي كانت كارثية على الأفارقة الأميركان وعلى أنصارهم حتى من البيض أو سواهم من الأميركان من أصولهم المختلفة. تقريباً هذا هو الإطار التاريخي الذي تجري فيه الأحداث، لكن البنية النصية للرواية تتكئ على حكاية صغيرة لجندي أسود يدعى «فرانك موني». يعود هذا الغاضب، المحارب القديم من تلك الحرب في بلاد الآخرين البعيدة يائساً بسبب أنه قتل فتاة كورية اكتشف أنها تنظر إليه وماتت وهي تفعل ذلك، وفي إثر تجربة مؤلمة في الخطوط الأمامية للجبهة فقد فيها عددا من أصدقائه المحاربين، ليجد نفسه في أميركا عنصرية عندما عاد إليها بالكثير من الندوب التي خلَّفتها جروح الحرب على جسده. هكذا يبدو البيت الذي ينظر إليه، في مطلع الرواية، غريباً بالنسبة إليه. لقد صدمه أن يعود من تلك التجربة فلا يجد سوى تلك اللا مبالاة الطبية التي ووجِه بها عندما أراد أن يعالج شقيقته الصغرى، والتي يكن لها مودّة عميقة وباتت مقعدة الآن، يعود بشقيقته إلى بيت الطفولة في تلك البلدة من جورجيا، أي يعود إلى ذكرياته الأولى معها هناك فتبدأ الذاكرة المعذَّبة بسرد روايتها المعذِّبة، لكن امتزاج الذاكرتين معا، أي ذاكرة الحرب وذاكرة الطفولة، يكشف عن شخصية تكتشف في ذاتها بسالة كان يظن «فرانك موني» أنه فقدها إلى الأبد. كتابة أبدية والحال أن توني موريسون تنجح إلى حدّ بعيد في جعل هذه الرواية مثيرة للمشاعر والإدهاش معاً. تبدأ الرواية بكلمات ثلاث، أو بسؤال حارق بمعنى أدقّ: «لمَنْ هذا البيت؟»، التي يشبهها الناقد الأميركي ليه هاجر بأنها كتابة منقوشة في أسفل تمثال، أي أنها أبدية ودائمة، وذلك في مقالة له نشرتها «نيويورك تايمز» بعد صدور الرواية، كما يكشف عن أن توني موريسون كانت كاتبة أغنيات، أي أنها أيضا شاعرة بمعنى ما، وكتبت كلمات هذه الأغنية دون أن تحدد هوية المغني. لكنه يرى أيضا أن هذا الاختيار لكلمات الأغنية هذه تحديداً دلالة على «كم هي الأفكار الرئيسية التي تقولها قد تزوّدت بمخزون كبير»، ويقصد بمخزون تاريخي كبير. وبعيداً عن ذلك فإن القصيدة أو كلمات الأغنية التي يرددها «فرانك موني» هي الأقرب إلى طبيعة الشخصية ذاتها والأكثر تعبيرا عنها. يبدو فرانك موني، إذ بالضرورة عند افتتاح الرواية بهذه القصيدة أن يكون الشخص السارد فيها هو ذاته الشخص السارد في الرواية، في حالة عجز عن إدراك المنزل الغريب والمبهم والخفيّ الذي يجد فيه نفسه مرة أخرى. وهذه الحالة، التي في الرواية، هي حالة شعرية بامتياز، وتصعِّد منها كثيرا توني موريسون، بحيث بدا العمل كله وكأن القصيدة هي جوهره بل جوهره إذ تكثَّف وتقطَّر. ما يلي ترجمة للقصيدة، التي بلا عنوان، والفصل الاستهلالي الأول للرواية. إنما قبل ذلك ينبغي الإشارة إلى أن مخاطبة غير العاقل في الصرف والنحو العربي كما نعهده عربياً يتم التعبير عنه في صيغة المثنى أو الجمع عبر التأنيث، لكن ها هنا يتم التعبير عنه في اللغة الانجليزية الحديثة بصيغة العاقل والعكس صحيح أيضاً. «لمَنْ هذا البيت الذي يتجنَّب الظلُّ الضوءَ فيه؟ بكلمة أخرى، لمَنْ هذا البيت؟ إنه ليس لي. حلُمتُ بآخرَ سواه، حُلواً أكثر، وأكثر إشراقاً بمشهد بحيرات تعبرها مراكب ملوّنة وبحقول واسعة مثل ذراعين انفتحتا لي. هذا البيت غريب. ظلالُه تمتد. بكلمة أخرى، أخبرني، لِمَ قفلُه يلائم مفتاحي؟ مشهد نهضا مثلما ينهض الرجال. لقد رأيناهما. مثل رجلين وقفا. لم نكن قريبين من ذلك المكان في أية حال. مثل أغلب المزارع البعيدة عن، لوتس، جورجيا، كانت هي واحدة من الكثير من إشارات تحذيرٍ تروِّع. تدلّت تلك التهديدات من شَبَك السياج المعدني؛ من أوتاد خشبية ارتفعت كل نحو خمسين قدماً، لكن عندما رأينا حفرةً أحدثَها إلى الأسفل من الشبك حيوان ما- قد يكون ذئباً أو كلباً زنجياً- لم يعد يمكننا أن نقاوم. أطفلين كنا، فحسب. كان العشب أعلى من كتفيها وأعلى من خاصرتيَّ أيضاً. زحفنا خلاله، حَذرَيْنِ من الأفاعي، على بطنيْنا. فكان أنْ كَسِبْنا عُصارة عشب سيِّئة وغيمات من بعوضٍ أُعدَّت لأعيننا لأنهما هناك مباشرة، قُبالتنا، على مبعدة خمسين قدما قد نهضا مثلما ينهض الرجال. حوافرهما البادية للعيان تدمِّر وتفلع. وقد انقذف الشَعْر الذي في عنقيهما إلى الوراء لأجل عينيهما؛ تلك البيضاء والوحشية. التحم أحدهما بالآخر مثلما يلتحم كلبان، لكنْ عندما نهضا شبّا على قوائمهما الخلفية، أما قوائمهما الأمامية فصعقت الآخرين، حبَسْنا نفَسَيْنا من الدهشة. كان أحدهما بلون الصدأ، والآخر أسوَد بإفراط، لكنهما أشرقا بعرقهما، لم يجفِّل الصهيلُ، الذي تلا رفسةً من القوائم الخلفية، الصمتَ في شفاههما العليا عندما التقى وجه أحدهما بالآخر. على مقربة، كان ثمة أفراس ومُهَر تلوك عشباً أو تنظر إلى البعيد، بحياد. عندها، توقفَتْ. الذي بلون الصدأ أسقط رأسه وضرب الأرض بحافره، بينما كان الفائز يتبختر في شكل قوس ومسّ برفق الأفراس وراءه. عندما انعطفنا على أكواعنا عائديْن من خلال العشب نتطلع إلى المكان الذي زحفنا منه، تجنّبْنا صفّاً من عربات نقلٍ اصطفّت في الخلف، فأضعنا طريقنا. وعلى الرغم من أنّ نظرتها لم تعُد تبلغ السياج إلى الأبد، فإننا لم نُصَبْ بالرعب إلا عندما سمعنا أصواتاً، مِلحاحةً كانت.. لكنْ خفيضة. أمسكتُ بها من ذراعها ثم وضعت إصبعاً على شفتيَّ. لم نرفع رأسيْنا أبداً، فقط، اختلسنا النظر من خلال العشب. رأيناهم يجرّون جسدا في عربةٍ ذات عجلة واحدة ثم قذفوا به في حفرة كانت تنتظر من قبل. ارتفعتْ قدمٌ على الحافة ثم اهتزت، كما لو أنها سوف تُغادر، كما لو أنها، بقليل من الجهد، سوف تنكسر. بسبب القمامة التي كانت ترفشه لم نستطع أنْ نرى وجوه الرجال الذين يقومون بالدفن، فقط، سراويلهم، لكنْ رأينا حافة المجراف تقود القدم المرتجة إلى الأسفل كي تلتحق بالقمامة ذاتها. عندما رأت تلك القدم السوداء، بلونها القرنفلي المتجعِّد ونعلها المُقلَّم بالوحل وقد بدأت تُدفع نحو القبر، كان جسدها كله قد أخذ يرتعش. احتضنت كتفيها الممتلئتين في محاولة دفع ارتجافها إلى عظامي، لأنني، بوصفي شقيقها الذي يكبرها بأربعة أعوام، قد حسِبْتُ أنّ بوسعي أن أعاملها بطريقة خاصة. كان الرجال قد مضوا بعيدا. خلال وقت أحسسنا أننا آمنان بما يكفي لإزعاج ورقة عشب ونتحرّك على بطوننا، بحثا عن أيّ فجوة أسفل السياج. عندما أصبحنا في البيت توقعنا أنْ نُضربَ بسوط أو أقلّها نُعنَّف لأننا تأخرنا خارج البيت، غير أنّ مربّيينا لم يلاحظانا. كان بعض القلَق قد شغل اهتمامهما. منذ أنْ جلست لتسمع حكايتي، مهما يكن ما تَحسب، ومهما يكن ما تدوِّن من ملاحظات في أسفلها؛ فاعلم هذا: حقّا لقد نسيت الدفن. إنني أتذكّر الحصانين فقط. كانا جميلين جداً، وبرّيين جداً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©