الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قضية أمي

قضية أمي
31 يناير 2010 21:03
كانت أمي هجومية معي وتغضب لأصغر الأشياء، وكنت أنتظر اليوم الذي سيبوح فيه الجميع بالسر، وهو أنني لست ابن هذه الأسرة، وأنهم وجدوني في كرتون أمام المسجد، خصوصاً أنني آخر من جاء إلى هذه الحياة، والجميع بالتأكيد يعرف قضيتي. كانت الكلمة التي تخرج من فمي تتحول في نظر أمي إلى سهم موجه إليها، بينما أشقائي يرمون كلاماً مشابهاً لكنه مثل العسل على قلبها. وكان الكلام بيننا مقتضباً ومكهرباً ويتصاعد الموقف بسرعة كأننا نعيش على صفيح ساخن. وبمقدار ما كانت تقترب من أشقائي، كانت تبتعد عني، خصوصاً مع شقيق لي، كانت تقبّله وتمسح على رأسه. ولم أكن أحسد أخي هذا، لأنني لم أكن آبه بقضية اسمها «أمي»، فما دام هناك أصدقاء السوء، فما الحاجة لشيء اسمه «أم»؟ هي مجرد امرأة أنجبتني والسلام. بل إن الرضاعة التي هي رأس مال الأمهات، يمكن تسديد ثمنها بعشرة كراتين حليب مجفف. وكنت أشعر أن وجود أمي يربك خططي ويحدّ من حريتي التي كنت أريدها منفلتة. بالطبع كنت أشعر بحب أمي واهتمامها في طفولتي وفي فترات مرضي والأيام العصيبة في حياتي، لكنها كانت أياما قليلة، ولولاها لَما عرفت شيئاً اسمه أمومة. كانت الأمور طيبة إلى ما قبل المراهقة، وبدأت علاقتنا تضطرب كلما ازداد حجمي، وبقيت الأمور معلقة حتى في مرحلة الشباب، لأنني أصبحت رجلاً مستقلاً بذاتي وأستطيع محاججة أمي في كل ما تقوله، ولا أرى في الوقت نفسه فائدة من الكلام معها، والشيء الوحيد الجيد الذي يمكن أن تفعله من أجلي هو أن تبحث لي عن زوجة. بدأت الأمور تتغير بعد الزواج والاستقلال عن البيت، ورحت أستشعر أمي في حياتي، من باب أن من لم يكن حليماً فليتحلّم، ومن لم يكن يشعر فليستشعر، مسترجعاً كل الذكريات الجميلة معها، والأيام الحالكة التي نوّرتها بحنانها ودعمها لي، وكل ما صنعته لي دوناً عن بقية إخواني، فأنا الوحيد الذي أقامت له أكثر من حفلة عيد ميلاد، وأنا الوحيد الذي استقبلتني وأبي في المطار بعد سفرتي الأولى، وأنا الوحيد الذي كانت تدافع عنه ساعة الجد. وكان من حسن حظي أن شريكتي في الحياة امرأة لا تحتفظ بشريط الأحداث، فتعيد إرجاعه في كل مرة وتقف على بعض المواقف وتحللها وتستنتج منها وتصدر الأحكام والتوصيات، خصوصاً ضد الحماة. ومع الأيام أدركت أن المشكلة كانت فيني، فقد كنت أنتظر مبادرة أمي، بينما المفترض أنني الذي يبادر: أقترب منها متراً لتقترب مني ألف كيلو متر، أقبّلها مرة لتغرقني بالقبلات، أحضنها بين الحين والآخر لتحضني بشكل يعيق حركتي، ألاطفها وأداعبها لتفيض رقةً وضحكاً، أبلع لساني أمامها ولا أمارس معها دور الحكيم صاحب الرؤية الاستراتيجية الذي يرى أن من واجبه تصحيح الأوضاع الحياتية وبيان الأخطاء العائلية وتحسين الإجراءات المنزلية، فأنا في نظرها أبقى ذلك الطفل الذي لم يكن يعرف أي شيء، ولا كيف يقضي حاجته. ودشّنت ولادة ابني رسمياً تلك المرحلة، وكنت أصاب بالإحباط كلما تخيلت أنني سأجري خلفه حين يكبر، بينما أتوقع أنه هو الذي سيأتيني هازاً ذنبه مثل الكلب الوفي، فقد لاعبته وداعبته وقبّلته وهو صغير، وعليه أن يؤدي هو هذا الدور حين يكبر، حتى لا أشعر بأنني فقير إليه، ذليل أمامه، متوسل لقبلاته، مستمع لتوجيهاته السامية، مستسلم للإجراءات التصحيحية التي يريد أن يفرضها علي لأكون جديراً بدخول المقبرة من أوسع أبوابها. أتوقع أن يخفض هو جناح الذلّ من الرحمة، على الرغم من أنه لم يكن في بطني ولم أرضعه ولم أسهر ليلة من أجله، ودوري محدود في حياته. ومن الطبيعي أن أكون خشناً معه ولا أظهر محبتي له إذا لم يركع أمامي ويقبّل التراب الذي أدوسه. إذا كانت هذه توقعات الأب من ابنه، فكيف هي توقعات الأم؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©