الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيلسوف أمام «أبواب جهنم»!

فيلسوف أمام «أبواب جهنم»!
21 يونيو 2012
لم يكن الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي، الذي توفي يوم الأربعاء الماضي عن عمر يناهز 98 عاماً، في العمق سوى روح حائرة تبحث عن معنى الوجود وعن معناها فيه، وعن محاولة لفهمه أو التواصل مع الحياة بشكل يحقق الذات المبدعة التي تضج في بحر من الأسئلة المتلاطمة. ولم يكن الرجل، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع آرائه، سوى مفكر مسكون بالسؤال والبحث عن المعرفة التي تحمل للقلب شيئاً من اليقين، ومطارد لا يمل في البحث عن”الحقيقة” التي كانت بغية كل فيلسوف سبقه وستظل الهدف المبتغى لكل فيلسوف سيأتي لاحقاً. هذا التوثب وهذه الروح الساعية وراء السؤال تتجلى بمظاهرها الحياتية والفكرية في سيرته، وهي سيرة حافلة على كل حال، وفيها من دوامات القلق الشيء الكثير... لم ترتح روح الرجل طوال مطاردته لهذه الحقيقة في أحضان أي من الفلسفات والنظريات الكبرى التي شكلت وجه القرن العشرين وصاغت قسماته الكبرى، بل لم تهدأ سريرته حتى في اليهودية والمسيحية وربما الإسلام حسب ما قال كثير من المفكرين ورجال الدين. ظل شيء ما يسكن أعماقه ويدفعه باتجاه حيرة هائلة، تفتش عن إجابة شافية. ولسنا هنا بصدد البحث عن صدق إسلامه من عدمه، فالرجل بات عند خالقه، علاّم القلوب وما تنطوي عليه الصدور، وحده سبحانه وتعالى يعلم ما في نفسه، وهو وحده من يحاسبنا على ما أسررنا وما أعلنا... إنما هنا، نتوقف عند سيرته الحياتية والفكرية والنضالية لعل فيها عبرة ومثل... أينكِ.. أيتها الحرية؟ لطالما أثار جارودي الجدل سواء لجهة كتاباته وأفكاره وانتماءاته أم لجهة صراعاته الفكرية والحزبية مع الماركسية والشيوعية والانتقادات التي كان يوجهها لها.. لكن الدوي الهائل الذي أحدثه بعد اعتناقه الإسلام ومعاداته للصهيونية لم يكن له مثيل. كان الرجل مشاغباً بامتياز، بل لقد وصل في شغبه حداً خطراً لم تصله سوى قلة من الكتاب والمفكرين. ودخل إلى المكان الأكثر خطورة على صعيد الفكرة والممارسة، ما جعله هدفاً لهجوم لا يرحم من قبل الصهيونية.. كما أن حريته الفكرية في قراءة الإسلام وفهمه وتحليله اعتبرت غير مرة سبباً للتشكيك في إيمانه وصدق انتمائه للإسلام، بل ذهب البعض إلى القول إنه منافق يدعي الإسلام وهو في حقيقته ممن يمكرون به. في الثاني من يوليو عام 1982 أشهر جارودي إسلامه، وقبلها اعتنق البروتستانتية وهو في سن الرابعة عشرة، وانضم إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، ولم ترتح روحه.. ظل قلقاً، متوتراً، باحثاً عن تلك العلاقة الغائبة بين العقل والوجدان، ولما عرف الإسلام أدرك معنى الحرية الحقيقية. معنى أن تكون عبداً لله فقط وسيداً لنفسك لا يستعبدك شيء آخر على الإطلاق. هذا المعنى الذي لا يستشعره كما ينبغي كثير من المسلمين ـ للأسف ـ ولا يتبدى في سلوكهم هو الذي أغرى جارودي بأن يسلم حيث وجد أنه وحده الكفيل بأن يجعل الروح حرة تماماً، حرة حرية مطلقة لا يشعر بحلاوتها إلا من يعيشها ويطبقها في كل مناحي حياته. نشط جارودي، رغم الصعوبات الكثيرة التي واجهته بسبب إسلامه، في التأليف والكتابة عن الإسلام وكتب مجموعة من الكتب التي تستحق القراءة مثل: وعود الإسلام، الإسلام دين المستقبل، المسجد مرآة الإسلام، الإسلام وأزمة الغرب، حوار الحضارات، كيف أصبح الإنسان إنسانياً، فلسطين مهد الرسالات السماوية، مستقبل المرأة وغيرها... ويرى جارودي في الإسلام نموذجاً لحوار الحضارات، لما يتميز به من شمولية في استيعاب وقبول الآخر والانفتاح على الحضارات والثقافات والشعوب ذات الديانات المختلفة، ولهذا يعتبره “دين المستقبل” والدين القادر على تحقيق التعايش النموذجي بين هذه الحضارات. ولا شك في أن تلك العلاقة الوطيدة بين الإيمان والعلم في الحضارة الإسلامية، التي تفتقدها الحضارة الغربية، كانت واحداً من الأسباب التي دفعت الرجل للتفكير في الإسلام بشكل عميق. يقول عن الحضارة الإسلامية: “لن يحدث الفصل والتجزئة بين الأشياء، في الإسلام، فالعلم متصل بالدين والعمل مرتبط بالإيمان والفلسفة مستوحاة من النبوة، والنبوة متصلة بالعقل. هذه الوحدانية في مفهوم الحضارة ومفهوم الجماعة يحتاج إليها عالم اليوم المجزأ في كل شيء وهذا ما جذبني نحو المفهوم الإسلامي للوجود”. عثر جارودي في الإسلام على ضالته الفلسفية والروحية، في تقديري، عندما وجد القيمة الكبرى والمنزلة العظيمة التي ينظر بها الدين الحنيف إلى المسلم ودوره في الأرض. الدور الاستخلافي الذي يجعل منه خليفة يعمر ويبني ويرتقي مادياً ومعنوياً ليكون إنساناً بكل ما في الكلمة من معنى.. أما حرية الاختيار فقد مست قلبه: “إن ما يجعل الإنسان إنساناً هو إمكانية تحقيقه للمقاصد الإلهية، وفي استطاعته أن يلتزم بالعهد أو أن ينقض العهد، فعلى حين أن الإسلام لا يدخل في نطاق إرادة المخلوقات الأخرى من نبات وحيوان وجماد. إذ لا تستطيع الهروب من القوانين التي تسوسها. نجد أن الإنسان وحده يستطيع الامتثال. فيصبح مسلما بقرار حر وباختيار كامل عندما يعي نظام الوحدة والكل الذي يكسب الحياة معنى. وهو مسؤول مسؤولية كاملة عن مصيره طالما باستطاعته أن يرفض أو يستسلم للواجبات المفروضة عليه”. وبكلمات المثقفين الهاربين من توحش الحضارة، وجد جارودي في روحانية الإسلام الحلقة الضائعة في الحضارة الأوروبية المعاصرة، والحل لأزمتها والعلاج لمرضها المستعصي، وأعني بذلك “روحنة” الحضارة المادية لأن الإسلام في رأيه “وضع اللبنة لحل مشاكل الإنسان الروحية”. جرأة استثنائية بنشره مقالاً عن الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 بدأت رحلته مع مناهضة الصهيونية ونضاله من أجل إبراز الحقيقة التي لا يريد أحد أن يعرفها أو حتى يتساءل حولها، لكن بنشره كتابه الشهير “الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل” فتح جارودي على نفسه “أبواب جهنم”، فقد حوكم بتهمة العداء للسامية وحورب حرباً شعواء رغم أن حياته لم يكن فيها سوى حرب واحدة هي “من أجل السلام ومن أجل حوار الحضارات” كما قال في أكثر من مناسبة. يفرق جارودي في المسألة الفلسطينية بين الدين والسياسة، وهو يرى أن اليهودية شيء والصهيونية شيء آخر تماماً، فالصهيونية حسب قوله حركة ملحدة تأسست على تفسير متطرف وأصولي للتوراة وتبرير لحركة سياسية وليس لها أي علاقة مع الدين، وهو يذهب إلى أن “الصهيونية الملحدة تصنع إسرائيل بالدين”. وربما تلقي وجهة نظره الضوء على سر تلك العلاقة المقدسة التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، فهو يرى أن الاثنتين قائمتان على الهيمنة وإلغاء الآخر.. وتجد هذه الرغبة في الهيمنة ترجمتها تاريخياً في اعتبار اليهود أنفسهم “شعب الله المختار” كما أن (أنا الآن أقتبس من الحوار الذي أجراه معه أحمد منصور في قناة الجزيرة) “الولايات المتحدة الأميركية مع الأسف يعتقدون أن لهم رسالة الهيمنة على الشعوب الأخرى، ونفس العقيدة نجدها عند الصهاينة، يعتقدون أن من واجبهم التسلَّط والهيمنة على الشعوب الأخرى، فيقول مؤسس دولة إسرائيل أن جدودنا قتلوا الكنعانيين وأبادوا الكنعانيين ولذلك يجب أن نطرد الفلسطينيين من أرضهم، هذه فكرة شعب الله المختار ينفي الآخر، ينفي التساوي والمساواة مع الآخر!”. يؤكد جارودي موقفه الداعم للحق الفلسطيني، بل في الكثير من مقالاته وحواراته يتحدث باسم المسلمين “نحن المسلمون” على أن “الحدود لا ترسم بالمدافع، هذه الأرض الموعودة هي في الواقع أرض محتلة، فكيف نكتب التاريخ بالمدافع؟”. لكن هذا الموقف لا يعجب الكثير من العرب والمسلمين عندما يتعلق الأمر بموقفه السياسي من وجود إسرائيل، ويأخذون عليه أنه يعترف بقرار التقسيم الذي منحها حق الوجود رغم أنها اغتصبت أرض الشعب الفلسطيني. وهو يبرر ذلك بأن هذا هو الواقع، فإسرائيل موجودة ولا بد من احترام القانون الدولي. وسواء كان الرجل يعبر عن تناقضاته الفكرية الخاصة به أو عن تناقضات تفرضها معالجة الموضوع الفلسطيني الذي يبدو في بعض جوانبه “إشكالياً” حتى لدى شريحة من الفلسطينيين والعرب أنفسهم، فإن الرجل، المسكون بهمِّ التوحيد بين أبناء إبراهيم خاض معاركه بجرأة تثير العجب، فقد قارع مؤسسة شرسة تمتلك قداسة تجعلها خارج المساءلة وتجعل من كل من يسائلها عرضة للمطاردة الفكرية والقانونية، لكنه لم يخضع ولم ينحني للضغوط التي تفلّ الحديد وقرر أن يخوض معركته الفكرية إلى الآخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©