السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ثنائية الصخرة والشجرة ولحظة الانتحار الفلسفي

ثنائية الصخرة والشجرة ولحظة الانتحار الفلسفي
8 يوليو 2014 00:57
محمود عبدالله (أبوظبي) احتفالات فرنسا، وأوروبا، والعالم، قبل سنة بمرور مائة عام على ميلاد الفيلسوف الوجودي والكاتب المسرحي والروائي الفرنسي ألبير كامو (7 نوفمبر 1913 - 4 يناير 1960)، كانت استعادية بشكل غالب. فقد أعيدت طباعة وترجمة العديد من أعماله الروائية، وقدمت حولها مقاربات نقدية جديدة لاستنباط سياقات من وقائعها غير تلك التي توصلت إليها النقود السابقة. من بين روايات كامو التي لاقت اهتماماً واسعاً طيلة سبعين عاما، رواية «الغريب». فمنذ أن كتبها عام 1942 في باريس، أثارت ضجّة تكررت عند صدور ترجماتها إلى اللغات الأخرى، ومنها العربية، حيث صدرت منها ترجمات عدة، ربما يكون آخرها وأهمها الترجمة الأنيقة البسيطة الدقيقة التي قدّمها النّاقد المصري عاصم عبد ربّه عن منشورات دار الآداب العامة لقصور الثقافة ، إضافة إلى رواية «الغريب»، صدرت في الفترة نفسها، أي خلال الاحتفالات بمرور 100 عام على ميلاد كامو، ترجمة «مفكرة كامو» بـ«العربية» عن «دار الآداب»، بفضل مشروع «كلمة» لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة. والمفكرة بأجزائها الثلاثة، تترجم للمرة الأولى إلى لغة الضاد، وتوضع بين يدي القراء، حاملة العناوين التالية: «لعبة الأوراق والنور» و«ذهب أزرق» و«عشب الأيام». وهذه الكتب تضم بين حناياها تسعة دفاتر دوّن عليها كامو ملاحظاته، بدءاً من عام 1935 وحتى قبيل وفاته عام 1960، ليستعين بها بعد ذلك في صياغة كتبه، وربما في كتابة سيرة ذاتية زاخرة بالتفاصيل الحميمة ووقائع من كواليس الحياة الشخصية. لكننا نهتم برواية «الغريب» لكونها عملاً فريداً من حيث رؤيته الفلسفية للوجود والمجتمع والفرد الهشّ، وسرد نوعي حول غربة الإنسان في مجهول بلا حدود، أما الرواية/ الحكاية والبطل، فتغلب عليه التجربة الشخصية للكاتب. وتدور أحداث الرواية في الجزائر، حيث ولد كامو، ثم استقر في فرنسا، وبطل «الغريب» هو «ميرسول» عاشق للحياة، صادق، لا يبالي بشكليات المجتمع، فرديته صادمة، يتعرض صدفة لموقف عبثي يقتل فيه أحد الأشخاص، دون أن يقصد، بل كان القتل وليد لحظة جنون اختلط فيها وهج الشمس ببريق سكّين في يد الضحية، في ملابسات شجار لم يكن للبطل فيه ناقة ولا جمل، لكنه «العمى المؤقت» تحت سياط الشمس والعرق الحارق في العينين، كان وراء الحادثة الفاجعة. في سياق الأحداث، تجري لميرسول محاكمة هزلية، يستند فيها القضاء على أنّه مجرم بالفطرة؛ لأنه لم يبك يوم ماتت أمّه، بل ذهب إلى السينما في اليوم التالي، ودخّن سيجارة، واحتسى فنجان قهوة، وبالتالي فإن إقدامه على القتل لم يكن وليد صدفة، بل مع سبق الإصرار والتّرصد، وتكتفي الرواية بصدور الحكم، أن تطير رأسه بالمقصلة في ميدان عام. في الحقيقة إن أجمل ما في هذه الرواية هو بطلها، وطريقة رسمه وهندسته في «التموضع الحدثي» خارج إطار تشكيل البطل التقليدي في الرواية العالمية، فهو نموذج نادر للكائن الهشّ والمعذّب المسحوق، الكائن المتشكّل من تراكمات الوجع الذي يشكّل الخبرة الإنسانية، التي تبني الكائن المتصاعد في اجتراحاته وألمه وفق معطيات اللامعقول واللامبالاة، فهو حتى لا يجيد الحزن، لكي يبكي على موت أمّه. إن فكرة الرواية التي قدمها كامو في إطار سرد وصفي عميق مشبع عن سطوة الحياة المادية، يتبعها الكثير من المفاهيم الفلسفية التي صيغت وفق مفردات ولغة عالية القيمة والتعبير لاغياً فيها الحواجز بين رفعة الموت حين يجئ مفاجئاً، وبين رمادية الحياة حين تنزح للحيلولة دون الكائن وإنسانيته، وبهذه الصياغة جاءت «الغريب» عملاً متفرداً مشغولاً بعناية حول مفهوم «التجمد العاطفي طويل المدى» كما لم يكتب من قبل. يذكر أن ألبير كامو ولد في قرية الذرعان بالجزائر، من أب فرنسي، وأم أسبانية، وتعلم بجامعة الجزائر، وانخرط في المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال الألماني، وأصدر مع رفاقه في خلية الكفاح نشرة باسمها ما لبثت بعد تحرير باريس أن تحولت إلى صحيفة Combat «الكفاح» اليومية، التي تتحدث باسم المقاومة الشعبية، واشترك في تحريرها جان بول سارتر. وتقوم فلسفة كامو على كتابين هما «أسطورة سيزيف» 1942 و«المتمرد» 1951 أو فكرتين رئيسيتين هما العبثية والتمرد ويتخذ كامو من أسطورة سيزيف رمزاً لوضع الإنسان في الوجود، وسيزيف هو هذا الفتى الإغريقي الأسطوري الذي قدّر عليه أن يصعد بصخرة إلى قمة جبل، ولكنها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح، فيضطر إلى إصعادها من جديد، وهكذا للأبد. وكامو يرى فيه الإنسان الذي قدر عليه الشقاء بلا جدوى، وقُدّرت عليه الحياة بلا طائل. وقد حضرت فكرتي الموت والعبث في معظم كتابات وروايات ومسرحيات كامو: الطاعون، العادلون، كاليجولا، أسطورة سيزيف، السقوط، المقصلة، الانسان المتمرد، سوء تفاهم.. وهما فكرتان عكستا بشكل أو بآخر نهايته العبثية، فقد اصطدم بسيارته بشجرة وفي جيبه تذكرة السفر، ليرحل في حادث عبثي عام 1960، حيث غيّر رأيه في آخر لحظة وسافر بالسيارة بدلا من القطار. فكأن الصخرة والشجرة عند كامو الروائي والإنسان وهما الثنائية الضرورية للوصول إلى لحظة الانتحار الفلسفي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©