الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحركة والسكون وما بينهما

الحركة والسكون وما بينهما
22 يونيو 2011 20:25
للمكان في رواية “زينة الملكة” للروائي على أبوالريش دلالات ووظائف مختلفة، يقوم بها سنحاول الوقوف عليها ودراستها، وفي مقدمة تلك الوظيفة التي يقوم بها تحديد المكان للعالم الروائي المتخيل، والمتمثل في منطقة المعيريض الواقعة في رأس الخيمة، في جملة الاستهلال التي تشكل عتبة مكانية للرواية، ينطلق منها السرد. يشكل هذا التعيين المكاني البؤرة المركزية التي تؤسس للسرد الحكائي وتنهض به، حيث تتفرع منها مجموعة من البؤر السردية الأخرى التي تشكل المتن الحكائي للرواية. ترتبط جملة الاستهلال بشخصية الراوي ارتباطاً وثيقاً، وتكون وظيفتها منوطة بوضع المتلقي داخل هذا العالم الروائي، الذي ستجري فيه الأحداث وتخترقه شخصيات الرواية. يلعب وصف المكان الذي تعيش فيه بطلة الرواية زينه دوراً مهماً على مستوى الكشف عن علاقة الارتباط الوثيقة القائمة، بين تلك الشخصية والمكان من جهة، ومن جهة أخرى عن التشابه الكبير بين البيت/ الخيمة وشخصية البطلة التي تسكنه، إلى جانب ما تفصح عنه تلك التفصيلات أثناء الوصف والتحديدات المتعلقة بضيق البيت وقدمه وانفتاحه على الخلاء، وتداخل حياة البشر فيه مع حياة القطط والكلاب التي ترعاها زينة، عن الدلالة الكلية التي يبني الروائي على أساسها هذا المكان، والدلالة التي تشي بها حول حقيقة ساكنيها، الأمر الذي يجعل المكان يلعب دوراً مهماً في إكساب الرواية معناها، بل إن القارئ سوف يجد أن المكان قد تحول إلى أداة للكشف عن رؤية بطلة الرواية إلى العالم وإلى التحولات الجديدة التي طالت الحياة من حولها، كما ستبوح بذلك زينة في منولوجاتها الذاتية عند حديثها عن موقفها تجاه بيوت الإسمنت التي تحيط بخيمتها، وحياة ساكنيها المغلقة على أصحابها. يكشف البيت بصورة عامة عن قيم الألفة والحياة الداخلية لساكنيه ولعل التعلق الكبير لزينة بخيمتها وارتباطها الوجودي بها يدلل على تلك القيم التي عززها وجود يوسف الرواي زوجها والحب الذي كان يكنه لها والمتع الجسدية التي كان يغدقها عليها هي من زادت في قوة هذا الارتباط ومنحتها ذلك الشعور بالطمأنينة والألفة والسكينة رغم الفقر والبؤس اللذين كانت تعيش فيهما، ويجعلانها تتدبر كل يوم طعامهما وطعام حيواناتها مما يجود به عليها الناس في ذلك المكان. إن قيم الألفة ومشاعر الفرح والطمأنينة لا تقتصر عند زينة على البيت الذي تعيش مع الرواي فيه، بل هي تشمل المكان كله الذي تحاول أن تتماهى معه: “تناهت والتراب. مرَّغت زينة ساقيها في الرمل البارد مكتسبة لذة القشعريرة الأولى، منحت لله عينيها وأشرعت باب القلب... الزقاق الضيق المنحدر من لسان مطلق عند الجهة الشمالية يتوغل في العمق غائراً في أحشاء شعاب وتعاريج ومفاصل متراصة بزوايا قاتمة، تفصل بين الجدران. أعطت وجهها لبيت “ابو حميد” تذكرت خلية النحل التي دبت في زمن ما وسط الفناء الواسع وملأت السماء بأصوات الصغار وصراخ الكبار وضجكات النساء الأربع التي تزوجهن أبو حميد” ص 15. ثنائيات ودلالات ينبني المكان الروائي على التقاطب الضدي، أو الثنائيات المتقابلة لعالمين مختلفين، عالم الخيمة القديم الذي يدل مظهره على الرثاثة والفقر والتمسك بالحياة القديمة، وعالم البيوت الإسمنتية الذي يدل على الغنى والحياة الجديدة لساكنيه، حيث يلعب مظهر البيوت دورا مهما في الكشف عن حقيقة أوضاع ساكنيه الاجتماعية، على خلاف ما هي عليه الحال بالنسبة إلى عالم الخيمة البائس والرث. وإذا كنت صورة المكان القائمة على هذا التقابل بين عالمين مختلفين، تدل من جانب على تحولات الزمان في المكان، فإنها من جانب آخر تتحول إلى أداة للتعبير عن موقف الشخصيات من العالم كما أشرنا سابقاً، ذلك أن المكان الروائي يتشكل من خلال وجهات نظر الشخصيات المختلفة التي تعيش فيه، إذ لا يتمتع المكان بأية استقلالية عن الشخصية التي تحيا فيه، كما نجد ذلك في واضحاً في حديث زينة التالي: “لو أن أحد هذه الأجساد نهض الآن فجأة وجلس على التل وحدّق في المكان المتسع ونظر وبصر فسوف يصاب بالدهشة، وقد يمنى بسكتة قلبية، فالكائنات التي تسير على أديم الأرض ليست هي تلك التي كانت مساحة الإسمنت التي ربضت على صدر الأرض، وخنقت مسامها، لم تكن معهودة في ذلك الزمن. الأشياء هنا تغيرت إنها جديدة ومزرية وعفنة تثير الألم، فحين لا أجد جارتي إلا من خلال جهد جهيد، وبعد محاولات مميتة لطرق باب خشبي سميك ومحكم الإغلاق أشعر بالأسى” ص 141. وينبني المكان على ثنائية أخرى هي ثنائية المكان المعاش الذي يمثله عالم الأحياء الذين يعيشون فوق الأرض، والمكان الذي يشكل عالم الأموات الذين يعيشون في باطنها، حيث يتسم المكان الأخير بالرهبة والخوف وعجز الأحياء عن اختراقه. لكن فطوم الراعية هي الوحيدة التي تتمكن من عبوره واختراقه، دون خوف أو وجل. يمثل المكان ذاكرة تختزن صور الزمن الماضي، من خلال الشواهد والآثار التي ما تزال تدل على ذلك الزمن، أو على أحداث بعينها “منطقة التلال القريبة من خاصرة معيريض منطقة محظورة على الصغار فهنا تسكن مقبرة قديمة انتشرت في أرجائها الكلاب الضالة وبقايا منازل قيل إنها هاجمها زلزال عنيف أطاح بجدرانها الطينية وقضى على البشر والكائنات... المقبرة وحدها بقيت شاهدة تعرِّف الناس بأثار أقدام فطوم” ص 138. إن مكان الأموات يتحول عند بطلة الرواية زينة إلى مكان للتأمل الذي يولّد عندها الأفكار والمشاعر والخواطر على المستوى الوجودي، والرؤية إلى الناس والحياة التي عاشوها منساقين وراء غرائزهم وجشعهم متناسين هذه اللحظة التي كانت في انتظارهم: “- يا إلهي.. كم من الذين تغاضوا يرقدون هنا، وكم من الذين نصبوا وسلبوا وارتكبوا الجرائم في حق الناس السذج والتافهين، ثم كم امرأة خانت وزنت وتحاشت المثول أمام الضمير لتدبير رغبة الجسد. كم رجل غرق في وحل الرذيلة متسلحا بقيم باهتة..” ص 140. ويظهر التقاطب الضدي أو الثنائيات المتقابلة بصورة أشد جلاء وأكثر دلالة بين عالم القرية الصغيرة وعالم المدينة الحديثة والغريبة التي تمثلها مدينة دبي عندما تزروها زينة برفقة القارئة مهرة التي تحضرها معها لزيارة أقاربها، حيث نلاحظ الصدمة الكبيرة التي شعرت بها وهي ترى تلك المدينة العجيبة والمشاعر التي اعترتها حينها ومدى الغربة والرهبة اللتي تولدتا عندها، فهي لم تكن بالنسبة لها سوى عالم من الإسمنت البارد والموحش يعيش فيه الغرباء، وتكاد تحس بقدمها تهوي في قاعها السحيق المظلم، وهي التي عاشت ممتزجة مع الطبيعة في بساطة ووئام جعلت حياتها مستقرة وأليفة، ولذلك فهي تجمل وصفها لهذه المدينة كاشفة، من خلاله عما ولّدته عندها من إحساس مفزع بالموات: “لا أحد هنا يعرف أحداً والوجوه الباردة لا حلم على قسماتها، ولكن هناك تجاعيد مبهمة كما هي الشوارع التي تتسع على سطوة الشواهق الصلبة الجامدة. ربما تضع زينة يدها على الإسمنت الصقيل الناعم، لكنها لن تلمس غير البرودة كما جثة المتوفى منذ ساعات. شعرت زينة وكأن قدميها تهويان في جوف يقود إلى سحيق داكن مظلم معتم متوتر قلق” ص 157. ويظهر التقاطب الضدي في الرواية بين المكان المفتوح ممثلاً بخيمة زينة التي لم تكن لها جدران إسمنتية، ولا أبواب مغلقة تحتاج لمن يقوم بفتحها، والمكان المغلق ممثلاً بالبيوت الإسمنتية التي كانت تجد زينة صعوبة بالغة في الدخول إليها بسبب الأبواب الخشبية العالية والمغلقة دوماً، والتي تجعلها تحتاج لإذن من أصحابها للدخول. ترتبط زينة مع المكان بعلاقة ألفة قوية، تجعلها عند مغادرته مع القارئة مهرة إلى دبي تشعر بالأسى والندم، فقد أصبحت خيمتها هي كل عالمها الأثير، وتحولت قططها وكلبها فهد إلى أسرتها البديلة كتعويض عن عجزها عن الإنجاب، في حين كان البشر يمثلون لها الشر والرياء والنفاق الذي يجعلها تستبدل العلاقة معهم بهذه العلاقة مع مخلوقاتها الطيبة والأليفة التي تناجيها، وتتحدث إليها بما يجول في خاطرها من مشاعر وأفكار. إن هذا التقاطب الثنائي في صورة المكان يجعل المكان على مستوى الدلالة الاجتماعية يتخذ صفتين اثنتين، صفة العالم الفقير البائس، ولكن الذي يتميز بالصدق والقناعة والطيبة والحب والبساطة وقيم الألفة، وصفة العالم الغني الذي يتميز سكانه بالشر والرياء والخنوع والتنكر لقيم الماضي، الأمر الذي يجعل زينة لا تحاول اختراق هذا المكان إلا من خلال الحاجة التي تدفعها لتأمين طعامها وطعام حيواناتها، بل هي تظل دائمة الهجاء له ولمنظومة قيمه وسلوك أبنائه. الحركة والانتقال تتسم رواية الشخصية عادة بكون الحدث فيها يتم بناؤه من خلال المكان، بينما تقوم حركة الشخصية في المكان والانتقال من مكان إلى آخر بدور أساسي في منح المكان الروائي وزمانه مقاييسهما الخاصة، إضافة إلى دور تلك الأماكن في الكشف عن تصورات الشخصية عن العالم الذي تعيش فيه. إن حركة زينة في هذه الرواية تكون بداية محكومة بالبحث عن الطعام الذي سرعان ما يلتهمه يوسف الرواي وقططها بسبب الفقر الشديد الذي يعيشون فيه. وباستثناء الانتقال من منطقة المعيريض إلى دبي برفقة مهرة، فإن بطلة الرواية تظل مرتبطة بالمكان الذي ألفت وأصبح يمثل حدود عالمها والذي يتمثل في خيمتها. لكن موت زوجها وما خلفه من فراغ وحسرة وشعور بالأسى دفعها للخروج من هذا العالم رغم الجو الشتائي القاسي على غير هدى يتبعها كلبها فهد باتجاه السدرة الشاهقة التي أصبحت علامة على بيت سعيد بن عبيد. ويظهر البحر كمكان يحمل معاني متناقضة، فعلى الرغم من اتساعه الكبير يكون عند غضبه رمزاً للجبروت الذي يفقده الحب، فقد خطف من زينة زوجها عندما كان يعمل على أحد مراكب النوخدة، ما يجعلها وهي تشاهد تعيش مشاعر متناقضة حياله: “البحر قيامة الله في الجسد المنهك، يضع الملح في الدماء الساخنة ثم يمضي بعيداً في العميق، والمرأة التي نعمت بصهيله حين كان أنيقاً يرسم زبده على وجه يوسف الرواي صارت الآن تفسر الأكذوبة وتقف عند حافة الموجة. يا لها من إبرة مسننة تخز القلب، وتفري الروح وتصير مسعراً حرارياً يطحن ما تبقى من عمر” ص 43. وتأتي الحركة والانتقال من مكان إلى آخر عند زينة بسبب انجذابها نحو حقيقة الموت المطلقة بعد موت زوجها، ما يفسر ذهابها إلى أرض الشريشة المسكونة بالجن كما يروي الناس عنها، خاصة أنها من خلال التخيلات التي كانت تعيشها، باتت ترى في صورة الرجل الخرافي الذي ظهر لها هناك صورة يوسف الرواي. ويتخذ البحر دلالتين مختلفتين تبعاً لطبيعته التي يكون عليها في حالة السكون أوحالة الهيجان والثورة، وتتخذ تلك الدلالة بعداً أكبر بعد أن غدر البحر بيوسف الرواي وابتلعه ليتركها لمصيرها المأساوي وحيدة بعد أن كان يمد الرواي بقوة الفحولة التي كانت تنعم بها بعد عودته من رحلته في: “البحر قيامة الله في الجسد المنهك، يضع الملح في الدماء الساخنة، ثم يمضي بعيداً في العميق. والمرأة التي نعمت بصهيله حين كان أنيقاً يرسم زبده على وجه يوسف الرواي صارت الآن تفسر الأكذوبة، وتقف عند حافة الموجة”. وبعد موت النوخذة فيه يصبح ملجأً لزينة، التي تمضي نحوه مدفوعة بنداء شبيه بذلك النداء الغامض الذي سمعته عند موت الرواي. من هنا، فإن انتقال زينة من مكان خيمتها إلى مكان آخر، يكون محكوماً غالباً بالبحث عن صورة زوجها يوسف الرواي ومحاولة استحضاره من الغياب، لكي تبثه مشاعرها الحزينة وعواطفها المتقدة، وتستعيد معه ذكرياتها، أو يكون انقياداً وراء أثر الذاكرة في محاولة لاستعادة زمن مضى بدأ الناس فيه يبدلون نمط حياتهم القديم، متخلين عن تربية الغنم التي أصبحت تربيتها في البيوت الجديدة مثيرة للرائحة الكريهة والتعب، إلا أن المكان يظل عندها ملهماً للأفكار والمشاعر والتأمل في أحوال الخلق والموت. ويحمل المكان المرتفع الذي تقف فوقه زينة، وتطل منه على الرمال الكثيفة التي تحتضن أجساد الأموات معنى رمزياً يدل على حالة السمو والتعالي التي تمثلها شخصية زينة بالنسبة لهؤلاء الأموات الذين كانوا يتخاذلون أمام سطوة النوخذة، فيكذبون ويفعلون الشر وينافقون بحثاً عن المنافع الشخصية أو خوفاً منه دون أن يفكروا في ساعة النهاية التي ستنهي حياتهم على خلاف زينة التي ظلت صادقة مع نفسها ومع قناعاتها لا تعرف غير الحب وفعل الخير: “التلة الرهيبة تحزمت بالألق والوحشة، تأزرت بالعتمة قابضة على الأسرار.. صمتت زينة ثم قالت في صوت منطفئ يا الله هذه الرمال الكثيفة تجثم على أجساد كانت في يوم ما تحمل أسرارها وأوزارها وأحمالها، مدت خطوات وخطوات، وقطعت هضاباً ووهاداً وسهولاً وودياناً، والآن هي راقدة بعضها صار عظاماً رميماً وذاب في رطوبة التراب بعد أن تورم الدود باللحم والدم والشحم، يستطيع المرء أن يتصور كل شيء إلا الغياب تحت الرمل - إنه النهاية المفزعة ترتعد لها الأبدان ولا أشك في أن كل الذين يرقدون هنا كانوا يفكرون في هذا المستقر” ص 139/140. تغيير الأمكنة أما في رواية “فرّت من قسورة”، فتدور أحداث القسم الأول منها في مكان مغلق هو فضاء الغرف الذي يتألف منه المسكن الحديث لبطل الرواية التاجر خلفان، بينما تدور أحداث القسم الأخير في مكان مغلق قديم هو القلعة، وفي فضاء مفتوح يتوزع بين الشوارع والصحراء، حيث يرتبط التحول الذي يطرأ على أحداث السرد والمنحى الدرامي الذي تتخذه تلك الأحداث بتلك الحركة في الانتقال من مكان إلى آخر، لتظهر علاقة التضاد والمقابلة بين هذين المكانين بوصفهما يحيلان على عالمين مختلفين العالم الداخلي من أحلام وخواطر وتداعيات ومشاعر مختلفة تعيشها شخصيات الرواية، والعالم الخارجي/ العام. وفي حين ينتمي العالم المغلق للبيت إلى العالم الحديث للمدينة الحديثة، فإن العالم الخارجي يحمل صفات القدم أو يمثل عالم الصحراء، حيث تتجلى ثنائية المكان أو العلاقة الضدّية بين المكانين، وارتباطها بالتحول الذي يطرأ على شخصيات الرواية وعلاقتها ببعضها بعضاً، أو علاقتها بالمكان، ودور هذا التحول والتبدل، في تعميق المنحى الدرامي لأحداث الرواية، وتطور بنيتها السردية الحكائية. يحيل المكان المغلق ـ كما هو معروف ـ على ما هو خاص وذاتي أو على الحياة الداخلية لشخوص الرواية الثلاث خلفان الزوج وغزالة الزوجة وهيلين الفتاة المتبناة، القادمة من ويلات بلاد البوسنة، لكي تعوض على غزالة مشاعر الأمومة التي لم تستطع تحقيقها بسبب عقمها. داخل جدران تلك الغرف تتكشف الحياة الداخلية لهؤلاء الشخصيات الثلاث من مشاعر وأحلام ورغبات وقلق وصراع يتجلى من خلاله اختلال العلاقة المتفاقم بين خلفان وغزالة، والناجم عن الاختلاف في وعي الشخصيتين واهتماماتهما، حتى يصبح من غير الممكن استمرار تلك العلاقة والبقاء معاً، في حين تعيش هيلين صراعها الداخلي المحتدم داخل عالمها بين مشاعر متناقضة حيال تلك الشخصيتين، تؤدي إلى كسر رتابة إيقاع السرد، وخلق تحول درامي في بنيته الحكائية، وإلى تبدل في علاقة الشخصيات بالمكان، وفي المنحى الدرامي لأحداث الرواية. تؤدي حالة التباين في الوعي والسلوك بين شخصيتي خلفان وغزالة إلى تعميق الصراع على امتلاك هيلين بينهما، حتى تتحول عند غزالة إلى خوف يتهددها باستمرار ما ينجم عنه فقدان الشعور بالألفة والطمأنينة على صعيد العلاقة مع المكان/ البيت، وظهور مشاعر القلق والخوف والعجز والإحباط ، التي تتفاقم بشكل درامي قاس ينعكس على علاقتها بالحياة والعالم المحيط بها، وقبل ذلك بذاتها الغريبة المهزومة: “غزالة... لا أريد أن أعيش. الحياة ما عادت تعنيني. هذه الجدران صارت قبراً يعصر جسدي، ويهلك روحي، والفراغ من حولي سياط شائكة تنغرس في روحي. تنظر إلى هيلين... تغرق عيناها بالدموع، تريد أن تقول شيئا، فيطبق الصمت على شفتيها الذابلتين... تنكفئ تتلاشى في داخلها، تبحث عن شيء ما يضيع في داخلها”. وعلى خلاف هذه العلاقة المأساوية مع المكان المغلق الذي يمثله البيت، ويحيل على ما هو داخلي وحميم بالنسبة لعالم الشخصية، يشكل هذا المكان ملجأ تحتمي به هيلين، وهي تعيش صراعها الداخلي بين مشاعر متناقضة من الفرح والخوف، تتنازعها على صعيد علاقتها مع والديها بالتبني لا سيما بالنسبة إلى تطور علاقتها الوجدانية مع خلفان، والتي تتخذ منحى دراميا بعد اكتمال نضوج أنوثتها، وتنامي مشاعر الحب والرغبة في الزواج منها، واستشعار غزالة بهذا الخطر الذي بات يتهدد وجودها: “في غرفتها اختبأت هيلين كالفارة المذعورة، تحركها نوازع الخوف والفرح معا، نزعت الخاتم من إصبعها وصارت تقلبه وتقبله، وتقربه أمام عينيها، كان لبريقه صهيل يغري الروح، وعويل أيضاً يقلب مواجع التاريخ المختبئ تحت الجفون.. لا تستطيع هيلين أن تستنكف هذه الهدية الغالية ولا تستطيع أن تذود عن نفسها هذا الالتحام الوجداني الذي شق طريقه إلى القلب المرتجف.. كما أن لا عليها أن تهدأ وتلوذ إلى الطمأنينة، طالما هناك في الجانب الآخر امرأة تتألم”. تحاول هيلين أن تفتح كوة في جدران هذا العالم الذي أخذت تضيق بجدرانه على العالم الخارجي، فيصادف مرور شاب يخلبه جمال هيلين المختلف، بينما تنتابها مشاعر الإعجاب، لكن هذه المشاعر تصطدم بالضوابط والموانع التي تربَّت عليها داخل هذا البيت، فتعيش حالة صراع بين الرغبة في استمرار تلك العلاقة مع العالم الخارجي، والالتزام بعلاقتها مع أهل بيتها على الرغم من إغراءات العلاقة التي تخلق عندها مشاعر الفرح والحب والجمال. كذلك يتحول هذا المكان بسبب وجود غزالة الذي لم يعد يطاق إلى عالم خانق وكئيب بالنسبة إلى خلفان، لا سيما بعد انكشاف علاقته الحميمة مع هيلين من قبل الزوجة، الأمر الذي يقود إلى تحول حاسم في علاقة تلك الشخصيات بالمكان، وفي علاقتها مع بعضها البعض، وبالتالي يفضي إلى تحول في بنية السرد، وفي المنحى الدرامي للرواية. يغادر خلفان المدينة هرباً من واقعه بعد أن تنكشف علاقته بهيلين، ويعود إلى مكانه القديم المعيريض، مستعيداً علاقته بالمكان القديم، حيث تظهر علاقة المقابلة بين المكانين الحديث الذي غادره، والقديم الذي يفر إليه هائما على وجهه،والذي توحي ملامح أمكنته المختلفة بالقدم والإهمال والتهالك، وبين المكان المغلق للبيت الحديث، والمكان المفتوح الذي يتجول فيه “كان من البداية يشعر خلفان برغبة جامحة لمغادرة المنزل واختراق الأزقة المتلاحمة، لجدران بيوت تلاصقت واكتظت أشبه بطابور صباحي لتلاميذ صغار، لم يألفوا بعد النظام المدرسي.. في المساء، يبدو المعيريض ساحة موحشة تتلقفها أفواه الكلاب النابحة، الباحثة عن صدى أصواتها تلاحقها القط المذعورة وبعضها يفتش عن فئران تخرج من فوهات المواسير المفتوحة على آخرها بفعل الإهمال والزمن ولا سبء يلتئم به، تجويف المكان غير صياح الصغار النافد من باطن المنازل ذي الجدران المتهالكة وبعض همهمات تتسلق الجدران الخفيضة”. إن هذا التحول في العلاقة مع المكان المغلق لفضاء البيت الحديث، وافتقاده لقيم الألفة والاستقرار والفرح خاضع لتحولات مظاهر الحياة الداخلية للشخصيات، النابعة من تحولات العلاقة الدرامي التي تنشأ فيما بينها، حيث يكتسب المكان صفاته الخاصة من خلالها. يحاول الروائي استخدام الأسماء الحقيقية للأماكن والشوارع التي يتجول فيها بغية منح المكان الروائي مظهرا مماثلا للمكان الواقعي: (الميناء البحري، وانحرف باتجاه البنط البريطاني، واستمر باتجاه السوق القديم، دكان حسن غلوم وحسن الشحي ودكان المصلي) وكأن عين الكاميرا هي التي تتجول في المكان، وتصور تفاصيل المشهد مع حركة شخصية خلفان فيه. ينبني المكان الروائي على مجموعة من التقاطبات الضدية التي تميز ثنائية المكان في العالم التخييلي للرواية، والتي تسمح بظهور ثنائيات جديدة تتفرع عنها، يمكننا أن نجملها في مجموعة من الثنائيات المتقابلة في الجدول التالي: ? أماكن تشرد وتنقل: أماكن قديمة، أماكن مفتوحة، أماكن واسعة. ? أماكن إقامة واستقرار: أماكن حديثة، أماكن مغلقة، أماكن ضيقة. يشكل البيت والمقهى المكان الحديث الذي ينتقل خلفان بينهما، بينما تنحصر تجليات علاقات الزمان في المكان القديم على مستوى مشاعر الناس فقط، في حين يحافظ المكان على صورته القديمة وعلاقاته المحافظة التي تحاول المرأة أن تنتقم من قيودها عبر الاحتيال والخداع البصري. ويلعب الوصف والتحديد الذي يقدمه للمكان دورا مهما في إدراك الدلالة التي يقوم عليها بناء المكان في هذه الرواية، إضافة إلى ما يقوم به من دور في التأسيس لبنية السرد ومحاولة الإيهام بواقعية العمل الروائي. الحركة في المكان يقوم المكان في الرواية بتنظيم أحداثها بشكل درامي، بينما يؤدي الانتقال من مكان إلى آخر إلى حدوث تحول في حبكة الرواية وتركيبة السرد الروائي، ولذلك سنجد أن أحداث الرواية في نصفها الأول تدور في مكان مغلق، تتكشف فيه الحياة الداخلية للشخصيات الثلاث خلفان وغزالة وهيلين، وعلاقاتها التي تتنامى في اتجاهات متناقضة، ويكون الحركة في المكان بالنسبة لخلفان هي بين فضاءين مغلقين هما البيت والمقهى، وفي النصف الثاني من الرواية سنجد أن العلاقات التي تربط تلك الشخصيات قد بلغت مستوى من التأزم بات معه من الصعب الاستمرار في تلك المعايشة، فيهجر خلفان البيت باتجاه بلدته المعيريض، ثم تهرب هيلين باتجاه الصحراء على الرغم من إدراكها بأن تغيير الأمكنة هو فعل بلا جدوى، طالما أنها لم تجد من يجيب على تساؤلاتها الملحة حول هويتها الحقيقية. يترافق هذا التغيير في الأمكنة مع التغيير الذي يطال المنحى الدرامي لأحداث الرواية، وتطور السرد الحكائي . ومع هروب هيلين وانتقالها من مكان إلى آخر تبدو ثنائية المكان الضدّية من خلال المكان الذي الذي تسير فيه هيلين أثناء هروبها، والدال على طبيعته الملوثة بالدخان والضجيج، والمكان الذي تنهي إليه حيث يقيم البدو في عزلة المكان الذي يتشبثون به، ويتماهون معه في صفاته. كذلك فإن تغيير الأمكنة عند هيلين يرتبط بمحاولات البحث عن ذاتها، كاشفاً عن حالة القلق والتوتر التي تعيشها على مستوى وعي الذات، ما يجعل هذا التحول عند الشخصية يؤدي إلى تحول في المنحى الدرامي للسرد، إذ ينفتح السرد على عالم آخر ومغامرة تقود هيلين في مفازاته المجهولة: “قناعة البدوي من قناعة الجبل الذي يجاوره، ولذلك فهو يحتفظ بنقاؤه (بنقائه) من الأزل، لو اقتنعت غزالة بشيء من الأمومة ومنحتني شيئاً من الحرية للزم الأمر أن نكون أكثر التصاقاً.. أشعر أنني الآن أبحث عن ذات، ربما لا تكون هنا.. ولا في أي مكان على الأرض”. تلتقي هيلين بعد هروبها من منزل خلفان برجل بدوي يدرك عندما يرى ملامحها الغريبة أنها ليست من هذا المكان، وهنا تبدأ علاقة من نوع آخر بينها وبين البدوي الذي يرتاب بدوافع قدومها إلى هذا المكان المعزول، ثم يقودها إلى القلعة التي توحي لها عند دخولها إليها بالريبة. هناك يحبسها السيد في مكان ضيق معتم، فيصبح جلَّ همها الفرار من هذا المكان، وهو ما يتحقق لتعود وتلتقي بالبدوي، لتبدأ علاقة من نوع آخر بينهما يصبح فيها مصيرهما واحداً بعد فرا بعيداً وسكنا كوخاً يقع قرب سفح الجبل، حيث الطبيعة البكر والهدوء التي تنتهي فيها مغامرة البحث عن الذات عند هيلين، التي يفاجئها البدوي بروح تشف عشقاً، ويغدو معها الحب جوهر الحياة الإنسانية والعلاقة التي باتت تجمعهما معاً في هذا المكان النائي عن صخب المدن وتلوثها. لقد اتخذ المكان في هذه الرواية صفات طبيعية واجتماعية مختلفة، ساهم من خلال الانتقال فيها من مكان إلى آخر بصورة درامية في تنظيم أحداث الرواية، وتطورها، وكان فيها ومعها مرتبطا بالتحولات التي كانت تطرأ على شخصيات الرواية، وعلاقاتها داخل بنية السرد الحكائي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©