الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صنع الله إبراهيم.. المحايد المزعوم!

صنع الله إبراهيم.. المحايد المزعوم!
11 أكتوبر 2017 18:54
إيهاب الملاح حصل الروائي المصري صنع الله إبراهيم والشاعر محمد الشهاوي على جائزة كفافيس الدولية لعام 2017. وجائزة كفاكفيس نسبة إلى الشاعر اليوناني كفافيس المولود بمدينة الإسكندرية، وتمنح الجائزة كل عامين للمبدعين من الكتّاب والأدباء، من مصر واليونان، كتعزيز للعلاقات الثقافية بين البلدين، حيث قدمت لأول مره عام 1990. وحصل على الجائزة العديد من الكتّاب والمبدعين في مصر من بينهم: فاروق شوشة، سيد حجاب، إبراهيم أصلان، رضوى عاشور، سحر الموجي، بهاء طاهر، أهداف سويف، أمين حداد، بشير السباعي، ومحمد المنسي قنديل. (1) جولة مسائية مقدسة، نقطعها يومياً، سيراً على الأقدام، أنا وزميلي باسم شرف (المخرج والكاتب المعروف) من حيِّنا المتاخم لمحطة مترو الجامعة حتى أول شارع الهرم (محطة نصر الدين)، نشتري الجرائد والمجلات والإصدارات الدورية، ونقتني الكتاب الصادر عن مكتبة الأسرة بعد ثلاث سنوات من انطلاقها، في ذلك الوقت، كانت هي المشروع الثقافي الأبرز والأهم في مصر. في واحدة من هذه الجولات التي لم تنقطع طوال سنوات الدراسة الجامعية، أظن في صيف عام 1997، صدرت رواية «شرف» لصنع الله إبراهيم عن روايات الهلال، أذكر أن باسماً «طار من الفرح» كان سعيداً غاية السعادة بأن رواية صدرت بعنوان «شرف»! ولمن؟ صنع الله إبراهيم! وقْع الاسم وحده في الأذن كان يحمل خليطاً من الفرادة والتميز والغرابة والندرة! فأنا لم أعرف حتى الآن أحداً يحمل اسم صنع الله سواه! بعدها بشهور قليلة، وجدت «باسم» قد أتى بكل روايات صنع الله إبراهيم الصادرة قبل «شرف»! قرر أن يكون صنع الله كاتبه الأول.. لم لا.. والرجل قد خلّد اسمه الثاني في رواية كاملة! (2) ربما كان الوحيد من كتّاب جيل الستينيات الذي قرأتُ عنه كثيراً قبل أن أقرأ نصوصه مباشرة، ما من كتابٍ أو دراسة أو مقالة تعرضت لأدب الستينيات وجيل الستينيات إلا وكان اسمه في الصدارة من هذه الكتابة. عرفت أنه ينفرد بطرائقه في السرد منذ صدرت أولى رواياته «تلك الرائحة». قرأتُ عنها ما كتبه جابر عصفور وما عرضه عن الاستجابات المتعارضة لها، ما بين تقزز يحيى حقي منها وحماسة يوسف إدريس لها! ورغم ذلك فلم تكن «تلك الرائحة» هي أول ما قرأت لصنع الله! «بيروت بيروت»، في طبعتها الصادرة عن دار المستقبل العربي، بغلافها الأصفر و«فونتها الدقيق»، هي أول ما قرأت لصنع الله، رواية جديدة عليّ ومختلفة بطريقتها التوثيقية التسجيلية، وما زلت أراها حلقة أساسية في استيعاب تجربة صنع الله إبراهيم، وفي طريقته للتعامل مع فن السرد وأدواته، ومحاولته اصطناع حالة من الحياد، تتيح التأمل بقدر ما تصنع من الصدمة، ثم قرأت «اللجنة» و«نجمة أغسطس».. وتوالت قراءاتي لأعماله تباعاً «ذات»، «تلصص»، «يوميات الواحات»، وكان آخر ما قرأت روايته القصيرة البديعة «67» التي نشرت في دورية (عالم الكتاب) منذ عامين تقريباً. لا.. بالتأكيد صنع الله من أهم الأصوات الروائية المصرية في المائة سنة الأخيرة. أيقنت أنني إزاء كاتب مراوغ تغري بساطة سرده وسهولة نسجه بأنه كاتبٌ عاديٌّ!! لا لم يكن كاتباً عاديّاً أبداً! كان واعياً وعميقاً ويعلم أن يختط لنفسه مساراً مغايراً وطريقاً مختلفاً، لديه مزج بديع بين العام والخاص، حياده السردي «مذهل»، طريقة الرصد التسجيلي وتقنية عين الكاميرا التي اعتمدها مع فن السرد وأدواته، أتاحت له حالة من التأمل قد تثير من الصدمة لقارئها حال قراءتها بنفاذ استشفاف دلالات هذا الحياد «المزعوم»! (3) صنع الله إبراهيم، وكما وصفه مجايله الكاتب الراحل علاء الديب «ظاهرة خاصة في حياتنا الأدبية المعاصرة»، لأنه من أكثر الكتاب إخلاصاً للكتابة، وتفرغاً لها، ومن أكثرهم تجريباً بل أمانة في التجريب، كما أنه من أكثرهم التزاماً بقضاياه الاجتماعية والفكرية في وسط ما يعتمل في الواقع الفني والاجتماعي من دوامات حقيقية وزائفة. صنع الله إبراهيم، كاتب خاص جداً، مركب ينحت في الصخر. صخر الشكل الروائي، وصخر الواقع، ويتحدى بكل كلماته حدود التعبير وموانعه، يقول عنه علاء الديب: «إنه يكتب بصعوبة شديدة ساحباً في يديه وقدميه قيوداً ثقيلة من المعارف والاعتبارات الاجتماعية، اعتبارات النشر والتعبير والذوق السائد، اعتبارات الرقابة والسياسة، فهو من القلائل الذين يكتبون بالعربية، دون أن يكون عندهم استعداد مسبق لمراعاة اعتبارات السوق». ينتمي صنع الله إبراهيم بحكم المولد والنشأة إلى جيل الستينيات الذي ضم، بالإضافة إليه، أسماء بهاء طاهر، إبراهيم أصلان، خيري شلبي، جمال الغيطاني، علاء الديب، محمد البساطي، عبد الحكيم قاسم، يحيى الطاهر عبدالله، أحمد الشيخ، مجيد طوبيا، وآخرين. اختط كل منهم طريقه وفق الرؤية التي تشبع بها والقناعة الفكرية والجمالية التي كونها، منهم من اتخذ طريق استلهام التراث والحفر عن جذور السرد العربي طريقاً لتشكيله، ومنهم من سعى بدأب لاكتشاف العناصر الجوهرية في تراثنا الشعبي الفلكلوري لينطلق منه للبحث عن شكل روائي مغاير، وهكذا. أما صنع الله إبراهيم فكان من الكتاب القليلين الذين نجحوا في إحداث قطيعة حاسمة مع التقنيات الواقعية السائدة آنذاك، بكسره عامداً قواعد المنظور الروائي وتراتب أهمية التيمات والأحداث في الرواية. وانفرد صنع الله، دون أبناء جيله بتكنيك مميز، توضحه الناقدة نادية بدران بقولها: «تعتمد تركيبة البنية السردية في أعمال صنع الله على مادتين متلازمتين: الوصف الدقيق للواقع الروائي بمختلف علاقاته المتشابكة من أحداث وشخصيات، والمادة التسجيلية الخالصة التي تعرض مقتطفات إخبارية وثائقية شتى مستمدة من الواقع الفعلي لزمن كتابة الرواية». وركز صنع الله على توظيف تلك التقنية التي لم تظهر بوضوح من قبل في الرواية العربية، أو على الأقل لم تكن ضمن مدونة التقنيات الظاهرة التي استخدمها الكتاب والروائيون قبل صدور روايته «بيروت بيروت» التي دارت وقائعها حول الحرب الأهلية في لبنان، ومعها انتشرت، أي تقنية التوثيق والتسجيل على نطاق واسع مع ما أسماه نقادٌ بـ«رواية المقاومة» (هذه التقنية قدمها الروس بعد الحرب العالمية الأولى). وفي هذا الإطار كرس صنع الله لجمالية التوثيق والتسجيل في الرواية العربية، وبحيث تكون هناك علاقة تبادلية مشتركة بين شقي النص «المرجعي» و«المتخيل»، ويشكلان معاً وحدة دلالية واقعية للعمل، ذات أبعاد متشعبة، متناقضة فيها مفارقة وسخرية من مجريات العصر، وتغدو شخصيات العمل وأفعالها إفرازاً طبيعياً، للمرحلة الزمنية التي تصورها الرواية. وهذه التوليفة تجعل الرواية وثيقة فنية تاريخية لفترة بعينها، بحسب ما تقول نادية بدران. هكذا، بدا من واقع إنتاج صنع الله الروائي أنه من أبرز الروائيين الذين كتبوا «الرواية السياسية» من بين أبناء هذا الجيل، ودانت كل أعماله الأنظمة الحاكمة ورفضه الشديد لكل مظاهر القمع والقهر والفساد، والتغلغل الأجنبي بكل أشكاله، وما يترتب على ذلك من معاناة للبشر. (4) في يونيو 2015 دعاني المركز الثقافي الفرنسي لقراءة مقاطع من روايتيْ صنع الله إبراهيم «برلين 69» و«جليد» (صدرتا على التوالي) بمناسبة ظهور ترجمتهما الفرنسية عن دار «أكت سود» المعنية بترجمة الأدب العربي إلى الفرنسية. المفاجأة الأكبر بالنسبة لي، أن هذه القراءة ستكون بحضور صنع الله نفسه، والمترجم والباحث الفرنسي المرموق ريشار جاكمون صاحب الكتاب المهم «بين كَتَبَة وكُتّاب الحقل الأدبي في مصر المعاصرة»، وكان من المقرر أن تتم هذه القراءة على يومين، الأول في الإسكندرية في ضيافة المركز الفرنسي هناك، والثاني في القاهرة بمقر المعهد في المنيرة. يومان كاملان بصحبة صنع الله، وجاكمون، كلاهما أعرفه جيداً على الورق دون أن ألتقي أياً منهما ولا مرة، قرأت أكثر إنتاج صنع الله ووعيته، وقرأت كتاب ريشار جاكمون وعندي حصيلة لا بأس بها عن مشروعه السوسيولوجي الضخم في إطار علم اجتماع الثقافة لدراسة الحقل الأدبي المصري، وإذا كان جاكمون الفرنسي حتى النخاع بحكم المولد والتربية والثقافة، فهو أيضاً أتيح له أن يكون مصرياً «ابن بلد» تربطه علاقات صداقة قوية ووطيدة بمعظم الكتاب والمثقفين المصريين خلال الفترة من منتصف الثمانينيات وحتى كتابة هذه السطور! جاكمون اتخذ من القاهرة وطناً ثانياً عاش واستقر بها وأنجز أطروحته المشار إليها سابقاً. من بين كل الذين اتصل بهم جاكمون ينفرد صنع الله أو «صُنصُن» كما يحب أن يناديه تدللاً بمكانة خاصة وقديمة، فهو الذي ترجم أشهر أعمال صنع الله إلى الفرنسية، وكشف جاكمون عن جانب من هذه العلاقة في الندوة التي عقدت بالمركز الفرنسي في الإسكندرية وسط حضور كبير (للأسف لا أعلم إن كان هناك تسجيل مرئي أو حتى صوتي لهذا اللقاء أم لا، وأذكر أنني حينما حاولت سؤال أحد مسؤولي المركز الفرنسي عن ذلك انفعل بشدة واعتبر ما أقوله تدخلاً غير مقبول ولا يجوز إبداء الملاحظة أو طلب شيء مثل هذا!! ما علينا!!). أتيح لي خلال هذين اليومين الجلوس إلى صنع الله إبراهيم والاستماع إليه، الخبرة مجسدة في صنع الله، واتساق المواقف والمبادئ والغايات مع الوسائل، بساطته ظاهرة وإحباطه أيضاً! ورغم ذلك في لحظات خاطفة تلمع عيناه بومضة إذا سمع ما يجعله ينصت أو يصغي باهتمام، أثنى على قراءتي لنصوصه، قال لي «العربي بتاعك كويس أوي!».. المرتان اللتان انطلقنا فيهما في أحاديث متشعبة طالت التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع.. مساء على كورنيش الإسكندرية الجميل، وصباحاً على مائدة الإفطار بفندق «سيسيل» التاريخي، وفي المرتين تكشّف لي عمق واتساع ثقافته وإلمامه المذهل بالمراحل التاريخية المختلفة لمصر قديماً وحديثاً، رؤيته للعالم تحددت إلى حد كبير من قراءاته الماركسية وعلم اجتماع المعرفة المنبثق عنها أو في إطارها.. بحكمة ونضج رجل تجاوز الخامسة والسبعين، كان يتحدث وهو مطمئن أن ما لديه قاله، والرهان على المستقبل! (5) أكثر من كاتب شاب، قاص أو روائي، أخبرني أن صنع الله هو أول من قرأ له وشجعه وأعطاه الدفعة المعنوية الأولى لخوض الطريق، وكان هذا وجهاً جديداً عليّ من وجوه صنع الله على عكس الوجه الشائع، الجهامة الملازمة والعزلة التي تنطوي على شك وتوجس، والنفور من الأضواء والشهرة «الزائفة منها والحقيقية على السواء».. وجدي الكومي أخبرني أن صنع الله اتصل به وأثنى عليه عقب قراءته لنصه الأول «شديد البرودة ليلاً».. وأحمد مراد كذلك في دائرة كتابته التي اختارها وتفوق فيها بعيداً عن التصنيفات المملة والمقارنات السمجة التي لا معنى لها ولا طائل من ورائها، وآخرون كثيرون.. مارس صنع الله الدور الأدبي والإنساني المفترض أن يمارسه كل كاتب أصيل تحددت معالم تجربته ومشروعه الإبداعي.. الدعم اللازم والضروري للأجيال الشابة، لو لم يمارس يحيى حقي هذا الدور ما كان بهاء طاهر ويحيى الطاهر وغيرهما، ولولا يوسف إدريس ما كان صنع الله نفسه.. من بين أبناء الستينيات سنجد أبرز من قدموا هذا الدعم لمن بعدهم الراحل علاء الديب، وبهاء طاهر، وصنع الله إبراهيم. تحية تقدير ومحبة وإجلال لصنع الله إبراهيم. المشاكس صنع الله إبراهيم (مواليد القاهرة 1937)، جعلته سلسلة طويلة من رواياته يتصدر قائمة الروائيين العرب المعاصرين، وقدمته مواقفه السياسية على أنه من أكثر الكتّاب والمثقفين المثيرين للجدل. وما زالت الأوساط الثقافية تتذكر، موقفه المفاجئ بإعلان رفضه استلام جائزة الرواية العربية عام 2003 التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة، وذلك خلال وقوفه على المنصة أثناء حفل التكريم. وقد سُجن صنع الله أكثر من خمس سنوات من 1959 إلى 1964؛ وذلك في سياق حملة شنّها الرئيس جمال عبد الناصر ضدّ اليسار. من أشهر روايات صنع الله «اللجنة» التي نشرت عام 1981، وهي هجاء ساخر لسياسة الانفتاح التي انتُهجت في عهد السادات. صوّر صنع الله إبراهيم أيضاً الحرب الأهلية اللبنانية في روايته «بيروت بيروت» الصادرة سنة 1984. واختيرت روايته «شرف» كثالث أفضل رواية عربية حسب تصنيف اتحاد الكتاب العرب، بالإضافة إلى سيرته الذاتية «مذكرات سجن الواحات». يعد صنع الله إبراهيم أحد أكبر الروائيين المصريين الذين يتمكنون من السرد والحكي ويميل أسلوبه إلى ماركيز إلا أن صنع الله إبراهيم يعد أقدم من ماركيز ككاتب ويتحتم على القارئ أن يضع تركيزه كاملاً في رواياته حتى لا تهرب منه أحد خيوط الرواية. حصل صنع الله إبراهيم على جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004. وتم تحويل روايته «ذات» إلى مسلسل تلفزيوني عرض في رمضان 2013 بعنوان «بنت اسمها ذات».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©