الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأيدي المصريَّة

الأيدي المصريَّة
11 أكتوبر 2017 18:46
د- خزعل الماجدي تنكشف، يوماً بعد آخر، جذور (المعجزة الإغريقية) كما أسماها أرنست رينان، وتتداعى الكثير من صروحها حين نعرف أن النشأة الأولى المؤسسة لها لم تكن إغريقية بل كانت مشرقية، وكان لمصر الدور الكبير في تكوين هذه الجذور، وفي هذا المقال/ الدراسة نتتبع المراحل الأولى للفلسفة الإغريقية التي كانت أساس الفلسفة الكلاسيكية القديمة، ونرى تلك الجذور المصرية بشكل خاص. المرحلة الأولى: ظهر ما يقرب من اثني عشر فيلسوفاً يونانياً قبل سقراط، بدأت بهم مدرسة أيونيا الأولى، وهم (طاليس، انسكيماندر، انكسيمانس) كلهم سافروا ودرسوا في مصر.. وحين عادوا قال طاليس، إن أصل العالم هو الماء، بينما قال انكسيماندر، إن أصله هو البيرون (الفضاء اللامتناهي)، وقال أنكسيمانس، إنه الهواء. ولم يذكروا الآلهة، وهكذا تأسست بدايات الفلسفة الإغريقية التي كانت جذورها في تعاليم مدارس الأسرار المصرية. أما فيثاغورس الذي تلقى أرقى تعليمه في مصر ودخل إلى أعمق أسرار مدارسها الروحية (لدرجة أنه قبل الاختتان وكان شرطاً من شروط الدرجات العليا في التعليم المصري)، فتلقى تعاليم نظام الأسرار الخاصة بالتناسخ وخلود النفس والخلاص وأسرار الأعداد والرياضيات وهي المبادئ التي أسس عليها فلسفته ومدرسته الشهيرة. المدرسة الإيلية التي ضمت (أكزينوفان، بارمنيدس، زينو، ميليسوس) وتأثروا بتعاليم الأسرار المصرية ونبغ فيهم، بشكل خاص، بارمنيدس الذي أسس الميتافيزيقيا (الطريق إلى الحق) والأبستمولوجيا (الطريق إلى المعرفة) والكوزمولوجيا (الطريق إلى الكون)، وناقش أنثربولوجيا الظواهر. وعلى يده نضجت الفلسفة الإغريقية على وجه أوضح. أما المدرسة الأيونية المتأخرة، فقد ضمت (هراقليطس وانكسوجوراس وديموقريطس) حيث نهل أعلامها من مدارس ومعابد الأسرار المصرية، فقال هيراقليطس بأن أصل العالم هو النار وهو مبدأ مصري (بير= هرم= نار)، لأنها من الشمس نار الكون المركزية فضلاً عن مبادئه في الفيض الكوني والمعرفي والعقل الكلي (اللوغوس). «وبلغنا بالمثل أن هيراقليطس (530 ق.م) وأمبيدوقليس وأنكساجوراس وديموقريطس كانوا أيضاً من مواطني أيونيا، وعنوا بأمور الطبيعيات. لذلك فإننا حين نتعقب مسار ما سمي الفلسفة اليونانية نجد أن تلامذة أيونيا عادوا إلى موطنهم الأصلي بعد أن تلقوا تعليمهم على أيدي الكهنة المصريين، هذا بينما هاجر البعض الآخر إلى أنحاء أخرى من إيطاليا، حيث استقروا هناك.» (جيمس: 1966: 25). أما أنكسغوراس، فقد ثبت مبادئ العقل والإحساس، وقال ديمقريطس بمبدأ الذرة والخلق والحياة والموت والإحساس والمعرفة.هذه المبادئ الأولى التي نشأت على أساسها الفلسفة اليونانية هي التي ستشكل أساس الهيكل الفلسفي اللاحق. المرحلة الأثينية المرحلة الثانية: التي شغلها (سقراط، افلاطون، أرسطو) هي المرحلة الأثينية، حيث دخلت الفلسفة عنوةً إلى أثينا وراح سقراط ضحيتها وطورد أفلاطون وأرسطو بعدهما. نقلت الفلسفة من المبادئ الأساسية إلى البناء والمعمارية، حيث بنى هؤلاء الفلاسفة شكلها المميز، ولكن ذلك لم يكن بجهودهم الشخصية فقط، بل لأنهم نهلوا أيضاً وبغزارة أكبر من الذين قبلهم من حكمة الأسرار المصرية. «من ثم يوضح لنا التاريخ أن البلدان المجاورة لمصر ألفت جميعها نظم الأسرار المصرية قبل أثينا بقرون طويلة البلد الذي حكم بالإعدام على سقراط عام 399 ق.م.. مما اضطر أفلاطون وأرسطو إلى الهرب من أثينا انقاذا لحياتهما. وسبب ذلك أن الفلسفة كانت أمراً غريباً أجنبياً غير معروف لديهم. ولهذا السبب نفسه يحق لنا أن نتوقع أن يبادر الأيونيون أو الإيطاليون بادعاء أنهم أصحاب فلسفة نظراً لاقترانها بهم قبل الأثينيين بزمن طويل، خاصة وأن الأثينيين كانوا دائماً ألد أعدائهم إلى أن غزا الإسكندر مصر وهي الغزوة التي يسرت لأرسطو فرصة الوصول إلى مكتبة الإسكندرية دون عائق.» (جيمس: 1966: 25). يحاول جورج جيمس إثبات أن سقراط كان عضواً مميزاً في نظام الأسرار المصري. نال مرتبة رفيعة فيه بدليل أنه لم يهرب من الموت (رغم أن الكثيرين عرضوا عليه الهرب) بل اعتبر ذلك قدره، وكانت مبادئه تنضح من أفكار الأسرار المصرية.ومن أهم مبادئه هو مبدأ العقل الكلي (نوس) أو العلة العاقلة التي كانت تجسدها العين المفتوحة لأوزيريس وحورس والتي تشير إلى البصيرة الكونية للإله والوجود غير المحدود للإله باعتباره العاقل الأعظم. ومبدأ الخير الأسمى الذي عبرت عنه نظم الأسرار المصرية القديمة وصرحت بأنه غرض الفضيلة وخلاص النفس. أما مبادئه الأخرى في (التناسخ والخلود وكون الجسد مقبرة النفس والأضداد والتناغم) فهي أفكار أخذها من الفيثاغوريين الذين أخذوها بدورهم من الأسرار المصرية. أما افلاطون الذي هرب إلى ميجارا بعد إعدام سقراط ونفي فيها 12 عاماً، فقد درس هو الآخر في مدرسة أون (عين شمس) لسنوات وهناك نظّم أفكاره المعروفة. والحقيقة أن أهم نظرياته في المثل موجودة في ثنايا كل الأديان الشرقية التي ترى أن في السماء النموذج الأصلي لكل ما هو موجود في الأرض التي تعتبر نسخاً ناقصة عن نموذجها السماوي، وكانت الديانة المصرية ترى هذا أيضاً بوضوح. أما مبدأ الصانع الأول (الديمورج) فهو مبدأ زرادشتي معروف قبل أفلاطون، وقد نادى به فيثاغورس في بلاد الإغريق. ونجد المبدأ ذاته في الديانة المصرية من خلال مدرسة منف التي اعتبرت أتوم هو الصانع الأول الذي تلقى أوامره من بتاح. أما النظام الأخلاقي للفضيلة، والذي يمكّن النفس من التطهر والصعود للخالق فنجده كاملاً في نظام الأسرار المصري الذي يشترط على المريدين الالتزام بالمبادئ العشرة الأساسية للفضيلة. وهناك إشارات كثيرة في كتاب جمهورية أفلاطون أهمها صورة العربة وسائقها والجوادان المجنحان اللذان يجران العربة حيث لهما شأن في تفسير النفس ورغباتها، فهي ربما تعود إلى مشهد الحساب في آخر كتاب الموت عند المصريين القدماء. أما أرسطو، فقد تميزت فلسفته بمؤثرات مصرية عميقة جاءته مباشرة من نظام الأسرار أو من خلال من تأثر بها من الفلاسفة الذين سبقوه مثل تعايش الأضداد الذي اكتسبه من المصريين مباشرة ومبادئ صفات الطبيعة والنفس (التي تنوعت عند المصريين من با، كا، خات، أب...إلخ) التي هي الأنماط النباتية والحيوانية والعاقلة...إلخ عند أرسطو. العلوم الأرسطية تأخذ جذورها من البرديات المصرية التي استولى عليها الاسكندر وأرسلها إلى أثينا، وهناك دقق فيها أرسطو وأخذ منها الكثير. «إن كتابات أرسطو، وهي كتابات مقطعة الأوصال لا تربطها وحدة واحدة إنما تكشف عن حقيقة أنه هو نفسه أخذ ملاحظات على عجل من كتب عديدة أثناء بحثه في المكتبة المصرية الكبرى. ونعرف أن المنهج القديم في التعلم كان شفاهياً.. وأجد لزاماً هنا أن أكرر اقتناعي بأن أرسطو يمثل هوة ثقافية مداها 5000 سنة هي المسافة الزمنية الفاصلة بين إبداعه ومستوى الحضارة اليونانية في زمانه. ويصعب الاقتناع بأنه اكتسب تعليمه وحصل على كتبه من بلد آخر غير اليونان، بلد متقدم بمسافة كبيرة على ثقافة اليونان آنذاك وأن هذا البلد هو مصر والمصريين» (جيمس: 1996: 124). وفي سيرة أرسطو ما هو غير معقول مثل عدد الكتب التي ألفّها (بلغت ألف كتاب)، وكذلك الشك في كونه قضى 20 عاماً تلميذاً لأفلاطون. ويصل جيمس إلى أن «الإغريق ليسوا هم أصحاب الفلسفة اليونانية وإنما أصحابها الشعب الأسود في شمال أفريقيا وهم المصريون» (جيمس: 1996: 153). وهو بذلك يقترب من النتيجة التي وصل لها مارتن برنال مؤلف كتاب (أثينا السوداء:الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية) (انظر برنال2002 ج1 و2004 ج2). يقول برنال، «يبدو أن كلاً من إيسخلوس وأفلاطون، شأنهما شأن عدد من الإغريق الآخرين، ساءتهما الحكايات التراثية التي تتحدث عن الاستعمار، لأنها تضع الثقافة الإغريقية في منزلة أدنى من ثقافة كلّ من المصريين والفينيقيين الذين كان إغريق ذلك الوقت يشعرون نحوهم شعوراً يتّسم بالتضارب الحاد، فقد كان الإغريق يحتقرونهم ويخشونهم ولكنهم يكنّون في الوقت ذاته احتراماً عميقاً بسبب تاريخهم العتيق وماكان لديهم من عقائد دينية وفلسفة بقيا على مدى الزمن.وفي هذا الصدد فإن تغلب مثل هذا العدد الكبير من الإغريق على شعورهم الفطري بالكراهية (فيما يتصل بهذه العلاقة) وتوصيلهم لهذه الروايات (المتصلة بالاستعمار) التي لاتكاد تتفق مع نعرتهم القومية» (برنال 2002ج1: 105). المرحلة الثالثة: ونضيف إلى ما وصل عنده جيمس ونقول إن النقلة الثالثة الكبرى تمت في مدرسة ومكتبة الاسكندرية التي انشأها بطليموس الثاني وبقيت لستة قرون متتالية منارة العلوم في العالم القديم، هناك حيث ضمت ما يقرب من نصف مليون بردية مخطوطة كانت فيها خلاصة علوم العالم القديم كلها حيث أصبحت هذه العلوم مصل الحضارة الهيلنستية أولاً ثم الحضارة الرومانية ثم الحضارة البيزنطية وسرى مصلها في الديانات التوحيدية كلّها. لنا أن نتوقع أن مكتبة الاسكندرية سرعان ما نقب فيها الاسكندر ونهبها هو وفريقه. وشارك في ذلك أرسطو وآخرون لم يقنعوا بما أخذوه عنوة واقتداراً من كميات ضخمة من الكتب العلمية، بل عادوا مراراً وتكراراً إلى الاسكندرية بغرض البحث ومثلما حدث عندما استولى جيش الإسكندر على هذه الكتب في مصر ووقعت بذلك في يد أرسطو كذلك بعد وفاة أرسطو كان مصير هذه الكتب ذاتها أن تقع في أيدي جيش الرومان ويستولي عليها وينقلها إلى روما. وهذا حسب القصة التالية المأخوذة عن كتب التاريخ التي كتبها سترابو وبلوتارك. «وقعت كتب أرسطو في يدي ثيوفراسطوس الذي خلفه رئيساً لمدرسته وعند وفاة ثيوفراسطوس ورثها عنه نليوس من سكيبيس وعقب وفاة نليوس تم إخفاء الكتب في قبو حيث بقيت مخبأة في هذا المكان نحو قرنين من الزمان.وبعد أن سقطت أثينا في أيدي الرومان عام 84 ق.م استولى صولا على الكتب وأرسلها إلى روما حيث استنسخها تبرانيو عالم اللغات، وخوّل أندرونيكوس الروديسي حق نشرها.» (جيمس: 1996: 124). إعادة نظر والحقيقة أن هناك تياراً قوياً يمضي اليوم في اتجاه إعادة النظر في مايسمى بـ (المعجزة اليونانية). وهناك محاولات مهمة لكشف الحقيقة «والتي تتصف بالطابع العلمي في تفنيد نظرية المعجزة اليونانية وإثبات المصدر المصري خاصة والشرقيّ عامة، تتمثل فيما كتبه العلاّمة (ماير ) و(دنكر) و (روبرتسون ) وغيرهم من المهتمين بالموضوع، فقد رأى (ماير) أن المدنية اليونانية لم تبدأ في الرقيّ الحقيقيّ إلا بعد أن احتكت بالشرق في (أيوليا) و(أيونيا) بآسيا الصغرى، بينما ذهب (دنكر) إلى الرأي نفسه حين قرر أنه لم يبق من شيء في مدنية اليونان لم يلحق به تأثير الشرق في آسيا الصغرى، ولايستثنى من ذلك الدين اليونانيّ الذي اقتبس كثيراً من المعتقدات والأفكار الشرقية. أما (روبرتسون) فيقول في كتابه (تاريخ حرية الفكر) إننا مهما قلبنا وجوه الرأي وأمعنا في البحث، فلن نعثر على مدنية يونانية أصيلة بريئة من التأثر بالحضارات الشرقية، غير أن الإعجاب الشديد باليونانيين هو الذي جعل جمهرة من أصحاب الرأي تصر على إنكار تأثر حضارة اليونان بحضارات الشرق. وهناك مفكرون آخرون ينتمون إلى هذا التيار الذي لم يؤمن بنظرية المعجزة اليونانية، منهم جلاديش) و (روث) والبيرفور وجورج سارتون وروجيه جارودي وغيرهم» (طلب 2003: 16). ............................................. إشارات ومراجع = جيمس، جورج ج. أم: التراث المسروق (الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة)، ترجمة شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة (1996). = برنال، مارتن: أثينا السوداء (الجذور الأفرو –آسيوية للحضارة الكلاسيكية) ج1 وج2، ترجمة نخبة من أساتذة الجامعات المتخصصين، تحرير ومراجعة محمود إبراهيم السعدني، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة (2002 و2004). = طلب، حسن:أصل الفلسفة (حول نشأة الفلسفة في مصر القديمة وتهافت نظرية المعجزة اليونانية)، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة (2003). سبب للإنكار يقول روبرتسون في الجزء الأول من كتابه «تاريخ حرية الفكر»: «إننا مهما قلبنا وجوه الرأي وأمعنا في البحث، فلن نعثر على مدنية يونانية أصيلة بريئة من التأثر بالحضارات الشرقية، غير أن الإعجاب الشديد باليونانيين هو الذي جعل جمهرة من أصحاب الرأي كما يلاحظ روبرتسون تصر على إنكار تأثر حضارة اليونان بحضارات الشرق». الصانع الأول مبدأ الصانع الأول «الديمورج»، فهو مبدأ زرادشتي معروف قبل أفلاطون، وقد نادى به فيثاغورس في بلاد الإغريق. ونجد المبدأ ذاته في الديانة المصرية من خلال مدرسة منف التي اعتبرت أتوم هو الصانع الأول الذي تلقى أوامره من بتاح. أما النظام الأخلاقي للفضيلة، والذي يمكّن النفس من التطهر والصعود للخالق فنجده كاملاً في نظام الأسرار المصري الذي يشترط على المريدين الالتزام بالمبادئ العشرة الأساسية للفضيلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©